في سيرة صلاح الدين الأيوبي
الرَّصيد الخلقي لصلاح الدين (3)
الحلقة: الثالثة والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
أولا: محافظته على أسباب المروءة:
فالمروءة هي: جماع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الاداب ، وكمال الرُّجولة ، فهي تبعث على إجلال صاحبها ، وامتلاء الأعين بمهابته ، وحقيقة المروءة: قوة للنفس ، ومبدأ لصدور الأفعال الجميلة عنها ، المستتبعة للمدح شرعاً ، وعقلاً ، وعُرْفاً. قال ابن القيم: وحقيقة المروءة: تجنُّبُ الدَّنايا ، والرَّذائل من الأقوال ، والأخلاق ، والأعمال ، فمروءة اللسان: حلاوته ، وطيبه ، ولينه ، واجتناء الثِّمار منه بسهولةٍ ، ويسر. ومروءة الخلق: سعته ، وبسطه للحبيب ، والبغيض. ومروءة المال: الإصابة ببذله في مواقعة المحمودة عقلاً ، وعُرفاً ، وشرعاً. ومروءة الجاه: بذله للمُحتاج إليه. ومروءة الإحسان: تعجيله ، وتيسيره ، وتوفيره ، وعدم رؤيته حال وقوعه ، ونسيانه بعد وقوعه. فهذه مُرُوءَة البذل ، وأما مروءةُ الترك: فترك الخصام ، والمعاتبة ، والمطالبة، والمماراة.
قال الشاعر:
إني لتُطرِبُني الخِلاَلُ كريمةً
وتَهُزُّني ذِكرى المروءةِ والنَّدَى
طرب الغريب بأوبةٍ وتلاق
بين الشَّمائل هِزَّةَ المشتاق
ولقد كان السَّلطان صلاح الدين كثير المروءة ، نديَّ الوجه ، كثير الحياء ، مبسوط الوجه لمن يَرِدُ عليه من الضيوف ، لا يرى أن يفارقه الضيف حتى يطعم عنده ، وما يخاطبه في شيءٍ إلا وينجزه ، وكان يكرم الوافد عليه؛ وإن كان كافراً. يقول القاضي ابن شدَّاد: ولقد رأيته وقد دخل عليه صاحب صَيْدا بالنَّاصرة ، فاحترمه ، وأكرمه، وأكل معه الطعام ، ومع ذلك عرض عليه الإسلام ، فذكر له طرفاً من محاسنه ، وحثَّه عليه. وكان يُكرم من يرد عليه من المشايخ ، وأرباب العلم ، والفضل ، وذوي الأقدار ، وكان يوصينا بأن لا نغفل عمَّن يجتاز بالخيم من المشايخ المعروفين ، حتى يحضرهم عنده ، وينيلهم من إحسانه.
ولقد مرَّ بنا سنة أربع وثمانين وخمسمئة رجلٌ جمع بين العلم ، والتصوُّف ، وكان من ذوي الاقتدار ، وكان مشتغلاً بالعلم ، وحجَّ ، ووصل زائراً لبيت الله المقدَّس. ولما قضى لبُانته منه ، ورأى اثار السُّلطان فيه؛ وقع له زيارته ، فوصل إلينا في العسكر المنصور ، وما أحسست به إلا وقد دخل عليَّ في الخيمة ، فلقيتُه ، ورحبتُ به ، وسألته عن سبب وصوله ، فأخبرني بذلك ، وأنه يؤثر زيارة السُّلطان؛ لما رأى من الاثار الحميدة الجميلة. فعرَّفت السُّلطان تلك الليلة وصول هذا الرَّجل ، فاستحضره ، وروى عنه حديثاً ، وشكره عن الإسلام ، وحثَّه على الخير، ثم انصرفنا ، وبات عندي في الخيمة ، فلمَّا صلَّينا الصُّبح أخذ يودِّعني ، فقبَّحت له المسير بدون وداع السُّلطان ، فلم يلتفت ، ولم يَلوِ على ذلك. وقال: قضيتُ حاجتي منه ، ولا غرض لي فيما عدا رؤيته ، وزيارته. وانصرف من ساعته ، ومضى على ذلك ليالٍ ، فسأل السُّلطان عنه ، فأخبرته بفعله ، فظهر عليه اثار التعتُّب ، كيف لم أخبره برواحه ، وقال: وكيف يطرقنا مثل هذا الرَّجل ، وينصرف عنَّا من غير إحسانٍ يمسُّه منا؟! وشدَّد النكير عليَّ في ذلك ، فما وجدت بُدَّاً من أن أكتب كتاباً إلى محيي الدين ـ قاضي دمشق ـ كلفته فيه السُّؤال عن حال الرَّجل ، وإيصال رقعة كتبتها إليه طيّ كتابي ، وأخبرته فيها بإنكار السُّلطان رَوَاحه من غير اجتماعه به ، وحسَّنتُ له فيها العود ، وكان بيني وبينه صداقة تقتضي مثل ذلك ، فما أحسست به إلا وقد عاد إليَّ ، فكتبتُ رقعةً ، وأعلمته بذلك ، فكتب إليَّ يقول: تحضره معك ، ففعلت ذلك ، فرحَّب به ، وانبسط معه ، واستوحش له، وأمسكه أياماً ، ثم خلع عليه خلعةً حسنةً ، وأعطاه مركوباً لائقاً ، وثياباً كثيرةً ، يحملها إلى أهل بيته ، وأتباعه، وجيرانه ، ونفقةً يرتفق بها ، وانصرف عنه ، وهو أشكر الناس ، وأخلصهم دعاءً لأيامه.
قال ابن شداد: ولقد رأيته؛ وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي؛ وقد هابه ، بحيث ظهرت عليه أمارات الخوف ، والجزع. فقال له الترجمان: من أيِّ شيءٍ تخاف؟ فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه ، فبعد رؤيتي له ، وحضوري بين يديه؛ أيقنت أني ما أرى إلا الخير! فرقَّ له ، ومَّن عليه ، وأطلقه.
ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج؛ وقد وصل بعض اليَزكيَّة ، ومعه امرأةٌ شديدةُ التحرُّق، كثيرةُ البُكاء ، متواترة الدَّقِّ على صدرها ، فقال اليزكيُّ: إنَّ هذه خرجت من عند الفرنج ، وسألت الحضور بين يديك ، وقد أتينا بها. فأمر الترجمان أن يسألها عن قضِيَّتها ، فقالت: إن اللُّصوص المسلمين دخلوا البارحة إلى خيمتي ، وسرقوا ابنتي ، وبتُّ البارحة أستغيث إلى بكرة النهار ، فقيل لي: الملك هو رحيم. ونحن نُخرجك إليه تطلبين ابنتك ، فأخرجوني ، وما أعرف ابنتي إلا منك! فَرَقَّ لها ، ودمعت عينه ، وحركته مروءته ، وأمر من ذهب إلى سُوق العسكر ، يسألُ عن الصغيرة: من اشتراها ، ويدفع له ثمنها ، ويحضرها ، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه ، فما مضت ساعةٌ حتى وصل الفارس ، والصَّغيرة على كتفه ، فما كان إلا لاأن وقع نظرها عليهما ، فخرَّت إلى الأرض تُمَرِّغُ وجهها في التراب ، والناس يبكون على ما نالها ، وترفع طرفها إلى السَّماء ، ولا نعلم ما تقول: فُسلِّمت ابنتها إليها ، وحملت؛ حتى أعيدت إلى عسكرهم.
ولقد دخل عليه البرَنْس أرناط ـ صاحب الكَركَ مع ملك الإفرنج بالسَّاحل لما أسرهما في وقعة حطين في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمئة ، والواقعة مشهورة تجيء مشروحة في موضعها ـ إن شاء الله تعالى ـ وكان قد أمر بإحضارهما ، وكان هذا أرناط اللَّعين كافراً ، لعيناً ، جبّارا ، شديداً ، وكان قد اجتازت به قافلةٌ من مصر حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة ، فغدرها ، وأخذها ، ونكَّل بهم ، وعذَّبهم ، وأسكنهم المطامير ، والحُبوس الحرجة، وذكَّروه بحديث الهدنة ، فقال: قولوا لمحمَّدكم يخلِّصكم! فلمَّا بلغه ـ رحمه الله ـ ذلك عنه ، نذر: أنَّه متى أظفره الله به؛ قتله بنفسه ، فلمَّا مكَّن الله منه في ذلك اليوم؛ قوي عزمه على قتله ـ وفاءً بنذره ـ فأحضره مع الملك ، فشكا الملك العطش ، فأحضر له قدحاً من شراب ، فشرب منه ، ثم ناوله أرنَاط ، فقال السُّلطان للترجمان: قل للملك: أنت الذي سقيته ، وأما أنا فما أسقيه من شرابي ، وأطعمه من طعامي! وقال ـ رحمه الله ـ: إنَّ من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي ألا أؤذيه. ثم ضرب عنقه بيده وفاءً بنذره. وأخذ عكَّا ، وأخرج الأسرى كلَّهم من ضيق الأسر ، وكانوا زهاء أربعة الاف أسير ، وأعطى كلاً منهم نفقةً توصله إلى بلده ، وأهله.
ويروي القاضي ابن شداد هذه القصَّة التي تنبىء عن تسامحه الكبير ، ومروءته النادرة ، يقول ابن شدَّاد: لما مرض الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد ـ أكبر خصوم صلاح الدين ـ بعث إليه صلاح الدين ، ورفَّه عنه بأن أرسل إليه الفواكه ، والثلج ، وكان الصليبيون يعجبون من هذا التسامح الكريم الصادر عن أعدائهم من المسلمين نحوهم.
لقد كان صلاح الدين حسن المعاشرة ، لطيف الأخلاق ، طيِّب الفكاهة ، حافظاً لأنساب العرب ، ووقائعهم ، عارفاً بسيرهم ، وأحوالهم ، حافظاً لأنساب خيلهم ، عالماً بعجائب الدنيا ، ونوادرها ، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره ، وكان حسن الخُلق ، يسأل الواحد منا عن مرضه ، ومداوته ، ومطعمه ، ومشربه ، وتقلُّبات أحواله ، وكان طاهر المجلس ، لا يُذكر بين يديه أحدٌ إلا بالخير ، وطاهر السَّمع ، فلا يحبُّ أن يسمع عن أحدٍ إلا الخير ، وطاهر اللِّسان. قال ابن شداد: فما رأيته ولغ بشتمٍ قطُّ. وطاهر القلم ، فما كتب بقلمه إيذاء مسلمٍ قطُّ. وكان حسن العهد ، والوفاء ، فما أُحضر بين يديه يتيمٌ إلا وترحَّم على مخلِّفيه ، وجبر قلبه ، وأعطاه خبز مخلفه ، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه؛ سلَّمه إليه ، وإلا؛ أبقى له من الخبز ما يكفي حاجته ، وسلَّمه إلى من يكفله ، ويعتني بترتيبه ، وكان ما يرى شيخاً إلا ويرقُّ له ، ويعطيه ، ويُحسن إليه ، ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفَّاه الله.
ثانيا: صبره واحتسابه:
الصبر سيد الأخلاق ، ورفيق الدَّرب ، والطريق إلى الإمامة في الدِّين ، والفوز العظيم ، وما من خُلقٍ من الأخلاق الفاضلة إلاَّ وهو يرجع إلى الصَّبر ، فالصبر أساس الأخلاق الحميدة ، وبذر الخير ، وجماع الأمر ، وأصل كلمة الصَّبر هي: المنـع ، والحسن ، فالصبـر حبس النفس عن الجزع ، واللسان عن التشكيِّ ، والجوارح عن لطم الخدود ، وشقِّ الجيوب. وحقيقة الصَّبر: خُلقٌ فاضل من أخلاق النفس ، يُمتنع به من فعل ما لا يحسن ، ولا يجمل. وهو قوَّةٌ من قوى النفس؛ التي بها صلاح شأنها ، وقوام أمرها. وقيل: الصَّبر: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى: الصَّبر في كتابه العزيز في نيِّفٍ وتسعين موطناً ، تدلُّ على وجوبه ، وأضاف أكثر الدَّرجات ، والخيرات إلى الصَّبر ، وجعلها ثمرةً له ، وجمع للصابرين بين أمور لَمْ يجمعها لغيرهم ، قال تعالى: {أُوْلَٰٓئِكَ عَلَيۡهِمۡ صَلَوَٰتٞ مِّن رَّبِّهِمۡ وَرَحۡمَةٞۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُهۡتَدُونَ ١٥٧} [البقرة: 157] ، وعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت: يا رسول الله! أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياء ، ثم الأمثل، فالأمثل ، يُبتلى العبد على حسب دينه ، فإن كان في دينه صُلْباً؛ اشتدَّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رِقَّة؛ ابتلى على حسب دينه ، فما يبرح البلاء بالعبد؛ حتى يتركه يمشي على الأرض؛ وما عليه من خطيئة».
وقال الشاعر:
اصبر قليلاً وكنْ بالله معتصماً
الصبر مثلُ اسمه في كل نائبه
لا تعجلَنْ فإنَّ العجز بالعجل
لكن عواقبه أحلى من العَسَلِ
وكان صلاح الدين ـ رحمه الله ـ صابراً على مُرِّ العيش وخشونته ، مع القدرة التامة على غير ذلك ، وكان مثلاً رائعاً في الصبر ، والاحتساب في ميادين الجهاد ، وتلقي الصَّدمات ، والمصائب ، يقولك القاضي ابن شدَّاد: ولقد رأيته بمرج عكَّا؛ وهو على غاية من مرض اعترضه بسبب كثرة دمَامل ، كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس ، وإنما يكون متكئاً على جانبه إذا كان في الخيمة ، وامتنع من مدِّ الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس ، وكان يأمر أن يُفرَّق على الناس ، وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو ، وقد رتَّب الناس ميمنةً ، وميسرةً ، وقلباً تعبية القتال ، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب ، ومن العصر إلى صلاة المغرب؛ وهو صابر على شدَّة الألم ، وقوَّة ضَرَبان الدَّمامل ، وأنا أتعجب من ذلك ، فيقول: إذا ركبتُ يزول عني ألمها؛ حتى أنزل ، وهذه عناية ربَّانية! ولقد مَرِض ـ رحمه الله ـ ونحن على الخرُّوبة ، وكان قد تأخر عن تلِّ الحَجَل بسبب مرضه ، فبلغ ذلك الفرنج ، فخرجوا طمعاً في أن ينالوا من المسلمين شيئاً ـ بسبب مرضه ـ رحمه الله ـ وهي نوبة النَّهر ، فخرجوا في مرحلة إلى الابار التي تحت التلِّ ، فأمر هو ـ رحمه الله ـ بالثَّقَل حتى تجهز للرَّحيل ، والتأخُّر إلى جهة النَّاصرة ، وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضاً أيضاً ، فأذن له ، حتى يتأخَّر مع الثَّقَل ، وأقام هو.
ثمَّ رحل العدوُّ في اليوم الثاني يطلبنا ، فركب على مَضَض ، ورَتَّب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب ، وجعل طرف الميمنة الملك العادل ، وطرف الميسرة تقي الدين ، وجعل ولده الملك الظاهر في القلب ، والملك الأفضل ، ونزل هو وراء القوم ، وأوَّل ما نزل من التلّ أحضر بين يديه إفرنجي قد أسر من القوم ، فأمر بضرب عنقه ، فضُرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه ، وإبائه عنه ، وكلَّما سار العدو يطلب رأس النهر هو يستدير إلى ورائهم ، حتى يقطع بينهم ، وبين خيامهم ، وهو يسير ساعة ثم ينزل يستريح ، ويتظلَّل بمنديل على راسه من شدَّة وقع الشمس عليه ، ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً ، ولم يزل كذلك حتى نزل العدوُّ برأس النهر ، ونزل هو قبالتهم على تلٍّ مطلٍّ عليهم إلى أن دخل الليل ، ثم أمر العساكر المنصورة أن عادت إلى محال المصابرة ، وأن يبيتوا تحت السِّلاح ، وتأخر هو؛ ونحن في خدمته إلى قمَّة الجبل ، فضربت له خيمة لطيفة ، وبتُّ تلك الليلة أجمع أنا، والطبيب نمرِّضه ، ونشاغله ، وهو ينام تارةً ، ويستيقظ أخرى ، وأحدقت بالعدو ، ورحل العدو عائداً إلى خيامهم من الجانب الغربي من النهر ، وضايقه المسلمون في ذلك اليوم مضايقةً شنيعةً.
وفي ذلك اليوم قدَّم أولاده بين يديه احتساباً: الملك الظاهر ، والملك الأفضل ، والملك الظافر ، وجميع مَنْ حضر منهم ، ولم يزل يبعث مَنْ عنده؛ حتى لم يبق عنده إلا أنا ، والطبيب ، وعارض الجيش ، والغلمان بأيديهم الأعلام، والبيارق لا غير ، فيظن الرائي لها عن بُعد أنَّ تحتها خَلْقاً عظيماً ، وليس تحتها إلا واحدٌ يُعَدُّ بخلقٍ عظيم، ولم يزل العدو سائراً ، والقتل يعمل فيهم ، وكلَّما قتل منهم شخص؛ دفنوه، وكلَّما جُرح منهم رجلٌ؛ حملوه؛ حتى لا يبقى بعدهم مَنْ يُعلم قتله ، وجرحه ، وهم سائرون ، ونحن نشاهدهم ، حتى اشتدَّ بهم الأمر ، ونزلوا عند الجسر ، وكان الإفرنج متى ما نزلوا إلى الأرض؛ أيس المسلمون من بلوغ غرض منهم؛ لأنهم يحتمون فيث حالة النزول حمايةً عظيمة ، وبقي في موضعه ، والعساكر على ظهور الخيل قبالة العدوِّ إلى اخر النهار ، ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه ، وعدنا إلى منزلنا في الليلة الماضية ، فبتنا على ما بتنا عليه إلى الصباح من مضايقة العدوِّ ، ورحل العدّو ، وسار على مضض من القتل ، والقتال ، حتى دنا إلى خيامه ، وخرج إليه منها من أنجده؛ حتى وصلوا إلى خيامهم. فانظر إلى هذا الصبر ، والاحتساب ، وإلى أيِّ غاية بلغ هذا الرجل!.
قال القاضي ابن شدَّاد: ولقد رأيتُه ـ وقد جاءه خبر وفاة ولدٍ له بالغ ، أو مراهق يُسَمَّى إسماعيل ، فوقف على الكتاب ، ولم يُعرِّف أحداً ، ولم نعرف حتَّى سمعناه من غيره ، ولم يظهر عليه شيءٌ من ذلك سوى: أنه لما قرأ الكتاب؛ دمعت عينه.
ولقد رايته ليلةً على صَفَد وهو يحاصرها؛ وقد قال: لا ننام الليلة حتى تُنصب لنا خمسةُ مجانيق ، ورتَّب لكل منجنيق قوماً يتولَّون نصبه ، وكنَّا طوال الليل في خدمته ـ قدَّس الله روحه ـ في ألذِّ فكاهةٍ ، وأرغد عيشةٍ ، والرُّسُل تتواصل ، فتخبره بأن قد نُصب من المنجنيق الفلاني كذا ، ومن المنجنيق الفلاني كذا ، حتى أتى الصباح وقد فُرغ منها ، ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها ، وكانت أطول الليالي ، واشدَّها برداً ، ومطراً! ولقد رأيته؛ وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين عمر ـ ابن أخيه ـ ونحن في مقابلة الإفرنج جريدة على الرَّملة ، وفي كل ليلة تقع الصيحةُ ، فتُقلع الخيام ، والناس تقف على ظهرٍ إلى الصَّباح؛ ونحن بالرَّملة، والعدو بيازور وبيننا وبينها شوط فرس لا غير ، فأحضر الملك العادل ، وعلم الدِّين سُليمان ابن جندر ، وسابق الدَّين بن الدَّاية ، وعز الدين المقدَّم؛ وأمر بالناس قطرُدوا من قريب من الخيمة ، بحيث لم يبق حولها أحدٌ زيادةً عن غلوة سَهْم ، ثم أظهر الكتاب ، ووقف عليه ، وبكى بكاءً شديداً حتى أبكانا ، من غير أن نعلم السبب ثم قال ـ رحمه الله ـ والعبرة تخنقه: توفي تقي الدِّين. فاشتدَّ بكاؤه وبكاء الجماعة ، ثم عدت إلى نفسي ، فقلت: استغفروا الله تعالى من هذه الحالة ، وانظروا أين أنتم ، وفيم أنتم وأعرضوا عمَّا سواه ؟! فقال ـ رحمه الله ـ:
نعم ، استغفر الله. وأخذ يكَرِّرها ، ثم قال: لا يعلم بهذا أحدٌ ، واستدعى بشيءٍ من الماورد فغسل عينيه ، ثم استحضر الطعام ، وحضر الناس ، ولم يعلم بذلك أحد؛ حتى عاد العدوُّ إلى يافا ، وعدنا نحن إلى النَّطرون ، ، هومقرُّ ثقلنا.
تاسعاً: الوفاء:
والوفاء من الأوصاف العلية ، والشيم السنية ، أمر الله تعالى الخلق به ، ومدحهم على فعله ، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ} [المائدة: 1] وقال تعالى: {يُوفُونَ بِٱلنَّذۡرِ وَيَخَافُونَ يَوۡمٗا كَانَ شَرُّهُۥ مُسۡتَطِيرٗا ٧} [الإنسان 7] .
قال الشاعر:
إذا قلت في شيءٍ نعم فاتمَّه
وإلا فقل لا تسترح وترح بها
فإن نَعَمْ دَيْنٌ على الحرِّ واجبُ
لئلا يقول الناس إنَّك كاذب
وكان صلاح الدين الأيوبي مضرب المثل في الوفاء بالعهود ، وكان إذا عقد الصلح؛ التزم به ، وإذا عاهد؛ وفَّى بعهوده ، وقد ذكر ابن واصل عن بطرك القدس حين خرج بعد استعادة صلاح الدين للمدينة ، ومعه من أموال البِيَع ما لا يعلمه إلا الله تعالى ، كما يقول ابن واصل ، وكان له من المال مثل ذلك ، فلم يعرض له صلاح ، وحين قيل به خذ ما معه لتقوي به المسلمين؛ أجاب بقوله: لا أغدر به ، ولم يأخذ منه إلا ما كان قد فرضه على كلِّ رجل عادي من الفرنج ، وهو مبلغ عشرة دنانير ، ثم سيَّر مع البطرك ، والذين خرجوا معه من المدينة من يحميهم ، ويوصلهم إلى مدينة صور؛ التي أصبحت معقل الفرنج ، ومكان تجمُّهعم بعد هزيمتهم في حطِّين ، واستعادة ما كانوا يسيطرون عليه من مدن ، ومواقع في بلاد الشام.
ثالثا: التواضع:
صفة من صفات عباد الرحمن. قال الله تبارك وتعالى: {وَعِبَادُ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلَّذِينَ يَمۡشُونَ
عَلَى ٱلۡأَرۡضِ هَوۡنٗا} [الفرقان: 63] ، والتواضع علامة حبِّ الله للعبد ، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِينِهِۦ فَسَوۡفَ يَأۡتِي ٱللَّهُ بِقَوۡمٖ يُحِبُّهُمۡ وَيُحِبُّونَهُۥٓ أَذِلَّةٍ
عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَٰفِرِينَ يُجَٰهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوۡمَةَ لَآئِمٖۚ ذَٰلِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ٥٤ } [المائدة: 54]. قال ابن كثير: هذه صفات المؤمنين الكُامَّل ، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليِّه ، متعزِّزاً وغير ذلك من الصفات ، وبسبب ما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع أن يوحِّد الشام ، والموصل ، ومصر ، وغيرها من البلدان تحت زعامته ، وأن يحقِّق الانتصار الكبير على الصَّليبيين في حطِّين ، وأن يستردَّ بيت المقدس. فقد تُوِّجَتْ جهوده الفذة بنتائج كبيرة على مستوى الفرد ، والمجتمع ، والدولة ، وأصبح مشروعه المقاوم للتغلغل الباطني ، والغزو الصليبي مناراً للعاملين على مجد الإسلام ، وقد كشف صلاح الدين يوماً عن مصدر قوَّته في حديثه مع ابنه الملك الظاهر غازي ، وهو في بيت المقدس بعد أن أجرى الصلح مع ريتشارد قلب الأسد ، وقبل أن يأذن له بالذهاب إلى حلب؛ إذ أوصاه قائلاً: أوصيك بتقوى الله تعالى ، فإنَّها رأس كلِّ خير ، وامرك بما أمرك الله به ، فإنه سبب نجاتك ، واحذِّرك من الدِّماء ، والدُّخول فيها ، والتقلُّد لها ، فإن الدم لا ينام ، وأوصيك بحفظ قلوب الرَّعية ، والنظر في أحوالهم ، فأنت أميني ، وأمين الله عليهم ، وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء ، وأرباب الدَّولة ، والأكابر ، فما بلغتُ ما بلغتُ إلا بمداراة الناس ، ولا تحقْد على أحدٍ ، فإن الموت لا يُبقي أحداً ، وأحذر ما بينك وبين الناس ، فإنَّه لا يُغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره بتوبتك إليه ، فإنَّه كريم.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf