ما علاقة السياسة بالشريعة؟
الكاتب: د. عبد النور بزا
من المعلوم أن لكل فعل بشري حُكماً شَرعياً حسب نوعه، وأن الفعل السياسي هو نوعان: صحيح وفاسد، وأن الصحيح هو السياسة العادلة، والفاسد هو السياسة الظالمة.
وإن من البدِهِي أن حكم السياسة العادلة الوجوب، وحكم السياسة الظالمة الحرمة، وهو ما يقطع بأن العلاقة بين السياسة والشريعة قائمة على كل حال، فهي إما علاقة اتصال وتلاحم، وإما علاقة انفصال وتعارض بحسب ما تتصف به هذه السياسة أو تلك من عدل أو ظلم، فإذا كانت سياسة عادلة فهي من الشريعة وإليها وإذا كانت سياسة ظالمة فليست من الشريعة ولا تمت إليها بصلة، وبناءً على هذه القاعدة، فإن كل ما له علاقة بالسياسة من خلافة ودولة وحكم وإمارة ورئاسة ووزارة، وكل ولاية عامة كيفما كانت طبيعتها العملية من حيث صلاحها أو فسادها، فهي مشمولة بأحكام الشريعة كما قال ابن خلدون: اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه. فالأحكام الشرعية مُتعلقة بجميعها، وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها، لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد.
وما فتئ علماؤنا يؤكدون من قديم على ضرورة التلاحم بين الدين والسلطان كما قال الإمام الغزالي: "الدين والسلطان توأمان، الدين أسس والسلطان حارس، وما لا أسس له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع".
وتأسيساً على هذه العلاقة العضوية بين الدين والدولة في الإسلام، أصبحت الدولة هي المسؤولة بالدرجة الأولى عن تنفيذ أحكام الشريعة كما قال ابن خلدون: فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية، من الصلاة والإفتاء والقضاء والجهاد والحسبة، كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى.
واِعتبرت الشريعة الولايات العامة من أعظم الواجبات الشرعية التي لا قيام للدين ولا الدنيا إلا بها، الشيء الذي جعل ولاة العدل أعظم أجراً، وولاة الجور أعظم وزراً، كما قال العز بن عبد السلام: أجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجراً وأجلّ قدراً من غيرهم، لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلام يسير وأجر كبير.
وأما ولاة السوء، وقضاة الجور، فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام، وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين، فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة، وعلى الجملة، فالعادل من الأئمة الولاة والحكام، أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل، فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة وزجر عنه من المفاسد ولو بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتها كما ذكرنا.
وهو ما يقطع بأهمية الدولة والسياسة والحكم وجميع الولايات والوظائف العامة في حياة الشعوب أكثر من أي وقت مضى، فقد ازدادت هذه الأهمية بشكل كبير في عصرنا الحاضر، بحيث ما عاد هناك شيء، إلا وللدولة تدخل فيه من قريب أو بعيد، فهي صاحبة الحق في وضع الدساتير وتعديلها حسب رغبتها وتسطير القوانين، وإصدار المراسيم والقرارات والدوريات، والمذكرات وتنظيم الحياة العامة ومراقبة الحياة الخاصة من شهادة الميلاد إلى الوفاة، وهي تعدد طبيعة التعليم الذي يتلقاه وطبيعة الطعام الذي تأكله وطبيعة المسكن الذي نسكنه، وطبيعة الطريق الذي نعبره، وطبيعة الجريدة التي نقرؤها وطبيعة الخطبة التي نتلقاها وطبيعة التلفاز الذي نشاهده، وكمية الدراهم التي نتقاضاها، وطبيعة الأجواء العامة التي نؤدي فيها شعائرنا التعبدية، من صلاة وصيام وزكاة وحج...الخ، فنحن مادة القرار السياسي التي تتخذه الدولة، ونحن المعنون به بالأساس، فهو إما أن يكون في صالحنا وإمَّا ضد مصالحنا، ما دام القصد من الولايات العامة والمناصب العامة تدبير المصالح العامة، كما هو معلوم، وبهذا تظهر قيمة الوازع السلطاني وأهميته في منظومة التشريع الإسلامي وضرورته لحفظ مقاصد الشارع ومصالح العباد، غير أن إعمال هذا الوازع لا يعني بالضرورة الاعتماد على السلطة، بكل ما تحمله من معاني الفرض والقهر والزجر والإكراه البدني أو المعنوي، بل العكس هو الصحيح.
إن الأصل في السياسة الشرعية الراشدة، هو أن يكون الوازع بمنهج القرآن قبل قوة السلطان، وهو المسلك الذي سلكته القيادة السياسية الشرعية في عهد الدولة النبوية والخلافة الراشدة، ومن سار على نهجها في إقامة الدين وتوسيع دائرة التدين والصلاح والإصلاح العام بمختلف الوسائل التربوية التعليمية الهادفة أكثر من الوسائل الزجرية الرادعة، وإلى اللجوء إليها، إلا في حالات الضرورة القصوى التي لم ينفع معها نصح أبوي ولا إرشاد تربوي.
وفيما يلي خلاصة أهم النقاط التي ينبغي استحضارها باستمرار أثناء النظر في الموقع الحقيقي للسياسة والدولة من الشريعة.
ـ لا مجال للمقارنة بين التجربة الإسلامية وتجربة الغرب المسيحي في مسألة العلاقة بين الدين والدولة، فلكل تجربته المميزة له، فإذا كان الغرب قد انقطع عن مؤسساته الدينية لأسباب موضوعية خاصة به، فليس لنا من تلك الأسباب ما يدعونا إلى الانقطاع عن ديننا، بل العكس هو الصحيح، كما برهنا عليه أعلاه.
ـ الإسلام ليس مجرد اعتقاد سلبي، لا دخل له في الحياة الخاصة والعامة للإنسان، بل هو عقيدة تنبثق منها شريعة يجني عليها سلوك ونظام عام يحكم الشأن الخاص، ويدبر الشأن العام.
ـ السياسة الشرعية هي كل ما يوافق مقاصد الشرع، ويحقق مصالح الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن لم يرد فيها نص شرعي، ولم يسبق بشأنها اجتهاد عقلي.
ـ السياسة العادلة من صميم الشريعة، أما السياسة الظالمة فلا تمت إليها بصلة وإن أضيف إليها بأي شكل من أشكال التأويل.
ـ السياسة فعل من الأفعال البشرية، تعتريها الأحكام الشرعية الخمسة، فقد تكون واجبة أو محرمة أو مندوبة أو مكروهة أو مباحة بحسب نوعها ومرجعيتها ومقاصدها ونتائجها والحاجة إليها.
ـ علاقة السياسة والدولة بالإسلام علاقة عضوية بحيث لا يتصور أحدهما حقيقة دون الآخر، فهما أشبه ما يكونان بعلاقة القلب أو الدماغ بالجسم، فلا حياة لجسم بدون قلب ولا قيمة له بدون دماغ، كما أنه لا قلب ولا دماغ بدون جسم، ولذلك فلا يمكن لهما إلا أن يكونا متلازمين أحدهما مع الآخر، وإلا وقع الخلل فيهما معاً، كما هو واقع حال الأمة اليوم.
ـ ليس في الإسلام متحدث وحيد باسمه بعد الرسو صلى الله عليه وسلم، ولذلك فهو لا يعرف ولا يعترف بما يسمى التفويض الإلهي أو النظام الثيوقراطي، أو التوريث السياسي، أو الكهنوتي للسلطة، ومن ثم فإن مقولة أحقية الحاكم وحده في الجمع بين الدين والسياسة دون غيره من الناس، بدعة من المبتدعات السياسية المعاصرة التي لا أصل لها في الإسلام، ولم يقل بها أحد من أهل العلم.
ـ كل من يتصور إقامة الدين بكل ما في الكلمة من معاني الإسلام والإيمان والإحسان، والتقوى والعبادة والتقرب إلى الله، والحرية والعدالة والمساواة والكرامة، والمحافظة على أرواح الناس وأعراضهم وعقولهم وممتلكاتهم، وجميع مصالحهم وأوطانهم وكل شُعب إيمانهم.. دون قيام سلطة سياسة مدنية عادلة منتخبة من أغلبية الأمة، ذات مرجعية إسلامية، فهو واهم أشد الوهم، وأقل ما يقال عنه: إنه بحاجة ماسة إلى تجديد النظر في معرفته بحقيقة الإسلام ومقاصده ووسائله.
وبالجملة، فإن السلطات السياسية الشرعية العادلة، والوظائف الحكومية الراشدة، والولايات العامة الصالحة، من أهم المقاصد الكفائية التي تتحقق بها مقاصد الشارع، وتحفظ بها مصالح الخلق على الوجه الأكمل. وبدون هذا النوع من المقاصد العامة، تهدر أغلب المقاصد الشرعية وتضيع معظم المقاصد الإنسانية.
مراجع المقال:
انظر: د. عبد النور بزا، مصالح الإنسان: مقاربة مقاصدية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، هرندن (فرجينيا/ الولايات المتحدة الأمريكية)، ط1، 2008م، ص: 426 - 432.
ومن بين المراجع التي اِعتمد عليها:
- ابن تيمية، مجموع الفتاوى (28/ 390 ـ 397).
- ابن خلدون، المقدمة (2/ 635).
- عبد الله فهد النفيسي، عندما يحكم الإسلام، ص4.
- الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص: 148 ـ 149.