الأنبياء الملوك: داود وسليمان "عليهما السلام"... تقديم
بقلم
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المســلمين
موقع منتدى العلماء
جمادى الأولى 1445ه/ نوفمبر 2023م
إن كثيراً من العلماء الكبار قديماً وحديثاً تمنوا أن يكونوا قد صرفوا أعمارهم مع القرآن، والتدبر فيه، فلا غرو في ذلك فهو كتاب مبارك، فقال تعالى: (وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأنعام 155، وقال تعالى: (وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ ۚ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) الأنبياء 50، وقال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص 29، فهو مبارك في معناه، ومبارك في أحكامه، ومبارك لمن يتعايش معه، ومبارك لمن يتذكر آياته، ومبارك لمن يتدبر معانيه ودلالاته ومفاهيمه، ومبارك لمن يطبقه، ويتخرج درره، ويستنبط لآليه، ومبارك لمن يطمئن إليه فيطمئن، ولمن يلجأ إليه فيأمن، ويلوذ به في فيتحصن، ويتمسك به فينجو، ويستفيد ويعيش معه فتنفتح له أبواب الحِكَم والأسرار ما لم يفتح به على غيره، ويصبح ثابت القلب عند الأزمات، وساكن النفس مهما عظمت النكبات، ولذلك قال: عبد الملك بن عمير: " أنقى الناس عقولاً قراء القرآن"، وقال بعض السلف: "ما راينا شيئاً يغذي العقل والروح، ويحفظ الجسم، ويضمن السعادة أكثر من إدامة النظر في كتاب الله تعالى".
وأن من فضل الله تعالى على أخي العالم الجليل، فضيلة الدكتور علي الصلابي أنه أنعم عليه بالعيش مع القرآن الكريم، وبخاصة مع أعظم قصصه، وأحسنها، حيث كتب موسوعة شاملة عن سيدنا آدم أبي البشرية، وعن أولي العزم من الرسل وهم سادتنا: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد المصطفى "عليهم الصلاة والسلام جميعاً" فأجاد وأفاد، وجمع فيها من الخير الكثيرَ، وحوى من الفوائد، والعبرِ ما تقر بها الأعين، وتنشرح بها الصدور، وتتغذى عليها العقول فجزاه الله خيراً، وقد انتشرت هذه الموسوعة، وترجمت إلى معظم اللغات العالمية والمحلية، وهذا من فضل الله تعالى، ومن البشريات العاجلة بالقبول بإذن الله تعالى.
وقد حرص المؤلف – حفظه الله – على أن أكتب لهذه الكتب الخمسة، ماعد السيرة النبوية – تقديماً علمياً، فلم تسعني مخالفته لصلتي الأخوية القوية به، ولأن هذه الكتب كانت مفيدة لي أيضاً، في معلومات دقيقة، ومعانية مباركة مع القرآن الكريم من جانب، ثم مع هؤلاء الأنبياء العظام من جانب أخر.
وهأنذا أقدم لكتابه الجديد الموسوم: (الأنبياء الملوك: داوود وسليمان - عليهما السلام - وهيكل سليمان المزعوم)، حيث يجمع الكتاب بين النبوة والحكم والملك لداوود وسليمان (عليهما السلام) ولم يتحقق هذا الجمع بين النبوة والملك لأحد قبل الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) من الأنبياء "عليهم السلام" المتفق على نبوتهم حسب علمنا، وذلك لأن ذا القرنين ليس بنبي عند الأكثر بل كان ملكاً صالحاً، وقد ورد فيه حديث ضعيف لا ينهضُ حجة، وفيه "....لا أدري ذو القرنين نبياً كان أم لا
وورد بسند جید عن سيدنا علي رضى الله عنه أنه قال: "كان رجلاً أحبَّ الله فأحبه، وناصح لله، فناصحه" ثم قال: "لم يكن نبياً ولا ملكاً".
وأما سيدنا يوسف فلم يكن ملكاً، ولا حاكماً مستقلاً، وإنما كان وزيراً، ثم عزيز مصر تحت إمرة الملك.
ولذلك فإن هذا الكتاب يكتسب أهمية أخرى، وهي حكم الأنبياء، كما أنه تضمن مقومات الحكم الرشيد، والصفات القيادية في داوود وسليمان (عليهما السلام) التي تتوزع على الجوانب الإيمانية والأخلاقية، والعلمية، والاجتماعية، والإدارية، والسياسية، والرؤية الاستراتيجية.
ومن أهم مباحث الكتاب حديثه عن ثمرات الحكم العادل لداوود وسليمان (عليها السلام) من النهضة الشاملة، والقوة.
ولم يخلُ الكتاب عن أهمية المسجد الأقصى، والأحاديث الواردة في فضائله، والفتح العمري، و تحريره على يد صلاح الدين الأيوبي، خاتماً كتابه بالحديث عما يسمى: هيكل سليمان فأثبت بأنه مزعوم، وأن الأسفار التي تحدثت عن وجود الهيكل أسفار غير مقدسة داعما رأيه بعلم الأثار، وأقوال المؤرخين.
والكتاب ليس مجرد سرد للقصص، و جمعاً لحياة هذين النبيين الملكين العظيمين فقط وإنما تضمن تحليلات جيدة، منها ما نقله عن ابن خلدون، والسيد رشيد رضا من أن سبب امتناع بني اسرائيل عن القتال مع موسى (عليه السلام) ودخول الأرض المقدسة، وتخليهم عن رسولهم العظيم موسى (عليه السلام) وقولهم: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة 24، يعود إلى أن الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد، وتستأنس بالظلم والاضطهاد تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتضرب عليهم الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، بل تصبح سجية إذا طال الأمد.
وكذلك يعد من فوائد الكتاب وقفاته مع الآيات التي تتحدث عن بني اسرائيل، أو عن سيدنا موسى، أو عن داوود وسليمان (عليهم السلام) حيث يستنبط منها الأحكام والصبر والفوائد العامة والخاصة، والسنن المرتبطة بحياة الشعوب والأمم، التي تعد سنة التدافع من أهمها، لأنها مرتبطة بالتمكين والحكم والسلطان ارتباطاً وثيقاً.
والباحث الكريم قام باستقراء شامل لملوك بني اسرائيل في سورة البقرة التي تخص طالوت، وداوود (عليه السلام) تم قصة داوود وسليمان في سورة ص، وفي سورة النمل، وفي سورة الأنبياء، وسبأ، فقام بتفسير هذه الآيات تفسيراً واضحاً معتمداً على المصادر القديمة والحديثة، ولم يكتف بذلك، بل عاد لاستخراج مجموعة طيبة من الصفات القيادية لسيدنا سليمان (عليه السلام) من الإيمان العميق، والعلم الدقيق، والتنظيم والضبط المحكم، والحزم والصرامة مع العدل، وحسن التصرف والثبات على المبدأ ونحو ذلك، منتقلاً من ذلك إلى مقومات الحكم الرشيد الشاملة.
وبذلك ضمَّ الكتاب جزءاً كبيراً من السياسة الشرعية التي يستفيد منها من يبحث عنها في الإسلام.
ومن المباحث القيمة أيضاً في نظري، المبحث الخاص بالهيكل، حيث أطال النفس فيه، وهو أمر مهم حيث يتشدق به الصهاينة المحتلون، ويريدون هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل مكانه، فأوضح الباحث الكريم أن هناك تناقضات واضحة، واختلافات فارقة بعين الروايات اليهودية، الواردة في الاسفار، وبين علماء اليهود، وحاخاماتهم في تحديد المكان قائلا: "وهذا دليل دامغ وقوي على أن هيكل سليمان أكذوبة وأسطورة"، وأنه أقرب إلى الخيال من الواقع.
وبالإضافة إلى ما سبق فإن المسجد الأقصى بني قبل الهيكل المزعوم بزمن طويل، وأن الحفريات والأثار التي يبحث عنها الصهاينة المحتلون لا تدل على وجود الهيكل من قريب أو بعيده، ولكنهم اليوم يصرون على إعادة الهيكل في مكان المسجد الأقصى، من منطلق الوجدان اليهودي الديني السياسي.
والخلاصة أن الكتاب قيم في موضوعه لأنه يتعلق بالقرآن الكريم، ولأنه يتعلق بنيين عظمين هما سيدنا داوود، وسيدنا سليمان (عليهما السلام)، وقد قيل: إن شرف العلوم بشرف موضوعاتھا، فلا يوجد أشرف من القرآن الكريم، والأنبياء (عليهم السلام). وبالإضافة إلى ذلك فإن الكتاب يدخل في التفسير الموضوعي الشامل لنبيين (عليهما السلام)، وهذا نوع جديد - إلى حد كبير - من أنواع التفسير وعلوم القرآن، ومما ازدان به الكتاب أيضاً هو تحليلاته حول القصة بالكامل، واستخراجه منها الفوائد والعبر بقدر الإمكان.
فقد بذل الباحث الكريم فضيلة الدكتور علي محمد الصلابي جهوداً طيبة في خدمة الموضوع، فحتى لو وجدت ثغرات فإنها طفيفة تغرق في بحر حسناته، كما أن الكمال لله تعالى.
فقد استمتعت حقاً بقراءة الكتاب، واستفدت من مباحثه صدقاً، ولذلك أنصح بقراءته قراءة شاملة، فهي نافعة للباحثين، وعامة المثقفين، وبخاصة في الظروف التي تمر بها أمتنا، وبصورة أخص فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، والمسجد الأقصى، ودعوى الصهاينة المحتلين في الهيكل ومكانه، حيث إنها تهدد قبلتنا الأولى بالهدم تحت أي ذريعة، ليست تحت الغطاء التوسعي للمحتلين، والقضاء على وجودنا التاريخي فَحَسْبُ، وإنما تحت الغطاء الديني أيضاً فهذه أكبر مشكلة.
ومن هنا فإن مواجهة هذا الادعاء الصهيوني مطلوبة عقلاً، وأن إبطاله فريضة شرعاً، وإن إقامة الحجج على زيغه ودحضه تاريخياً، ودينیاً، وأثرياً واجب شرعي ووطني على القادرين. فالصهاينة احتلوا أرضنا تحت غطاء ديني مزيف، واليوم يحاولون هدم قبلتنا الأولى أيضا تحت غطاء بعض الروايات المتناقضة في أسفارهم، ولذلك يجب التصدي لهم بجميع الوسائل المتاحة لدحض شبهاتهم.
وهذا الكتاب يحمل في طياته غاية نبيلة أخرى، وهي بيان أن المسلمين اليوم على الرغم مما تفعله الصهاينة بأهلنا في فلسطين وقبلتنا الأولى ومسرى رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فإن موقفهم الثابت من أنبياء بنی إسرائیل (علیهم السلام) من الإيمان لهم، وحبهم لهم لم يتغير، وهذا يؤكد على أن ثوابت الإسلام لا تتغير بالعواطف وتصرفات الآخرين، في حين أن غيرهم تدور مواقفهم مع مصالحهم.
فجزى الله تعالى مؤلفه عن الإسلام والمسلمين عما قدمه في هذا الكتاب، وفي غيره من المؤلفات النافعة، وتقبل الله منه، وجعله خالصا لوجهه الكريم، ووفقه للمزيد من المؤلفات النافعة، آمين
وصلى الله عليه وسلم على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د علي محيي الدين القره داغي