الإثنين

1446-11-14

|

2025-5-12

تفادي الظلم والتحفظ منه

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (45)

 

ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على منهج مدرسة القرآن الكريم؛ التي تقبح الظلم، وتحذر من عواقبه، وتتخذ لذلك أساليب مختلفة تجتمع في الدعوة إلى اجتنابه وبيان خطره، فقد ورد في حديثه الدعاء بالحفظ من الظلم والظالمين، ومن ذلك ما روته أم المؤمنين أم سلمة حين قالت: ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيتي قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: «اللهم أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَذِلَّ أو أُذل، أو أَظْلم أو أُظْلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَل عليَّ».

وورد التحذير منه في حديث عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة».

وعن الإمام علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم؛ فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته» (الهرامة، 2009، ص 178-188).

وفي هذه الأحاديث الثلاثة صيغ مختلفة من التحفظ من الظلم، ففي الأولى استعاذة بالله منه، وفي الثانية أمر باتقائه معللٌ بسببه، وفي الثالثة أسلوب شرط وجزاء، مفاده أن من لم يظلم الناس فاز بتلك الصفات الواردة في الجزاء: من كمال المروءة، وظهور العدالة، ووجوب اتخاذه أخاً لبقية المسلمين، وتحريم غيبته، ومفهوم المخالف أن من ظلم الناس كان جزاؤه أضداد هذه الصفات، وهي طريقة أخرى من التحذير والوعيد، لا تلتزم الأمر والنهي، وربما فاقتها تحذيراً وتحفظاً. وفي الحديث التالي أسلوب آخر للتحذير، أساسه النهي عن التقليد فيما لا يجوز فيه التقليد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تكونوا إمَّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا» (الهرامة، 2009، ص 178-188).

وفي الصيغة التالية يعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم على القرآن الكريم في تحذيره من الظلم، فيصور سوء عاقبة الظالم، وما أعدّ الله له من نهاية قاسية، ويقول: «إن الله عز وجل يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ *}.

وفي صيغة أخرى يأتي التحذير من الظلم في صورة الحثِّ على اتقاء دعوة المظلوم، فقد أوفد النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل إلى اليمن ليبلغ أهلها رسالة الإسلام، ويعلمهم أسس دينهم، فأوصاه بتجنب دعوة المظلوم بعد أركان الإسلام الخمسة تأكيداً لأهمية هذا الجانب في العقيدة الإسلامية، وقيمته بين شعائرها. يقول صلى الله عليه وسلم:

«إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فتُردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» (الهرامة، 2009، ص 178-188).

إن الله عز وجل منح المظلومين خصوصيات، منها:

يجوز للمظلوم ما لا يجوز لغيره من التصرفات، ومن ذلك رفع الصوت.

قال تعالى: َّ {لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا *}[ النساء: 148].

ومن خصوصيات المظلومين حق المقاومة؛ الذي نستنبطه من قوله تعالى: ُ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ *}[ الحج: 39].

وقد نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أكثر من عشر سنوات من المعاناة والظلم؛ الذي تلقاه المسلمون، دون أن يؤذن لهم بردِّه، فالله تعالى لا يحب إزهاق الأرواح، وإراقة الدماء، ومن قتل نفساً عنده كمن قتل الناس جميعاً، ولكنه جعل القتال من خصوصيات المظلوم المباحة، وأجَّل الإذن به حتى ضاقت حلقات الشدة، وبلغ الظلم مداه (الهرامة، 2009، ص 178-188).

ومما منحه الله للمظلومين من الخصوصيات: قبول دعوة المظلوم، وأشهر من دعا على الظالمين من الآنبياء نوح عليه الصلاة السلام في قوله: َ {وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا *}[ نوح: 28].

وورد الدعاء بالحفظ من الظالمين على ألسنة من امن مع موسى عليه السلام، حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *}[ يونس: 85].

وعلّـم الله خـاتم أنبيائه الدعاء بالحفظ من الآنخراط في سلك الظالمين فقال: ُ {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ *رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *}[ المؤمنون: 93 ـ 94].

ومن الآيات التي نزلت على رسولنا عند هجرته من مكة ناجياً بدينه، وقد تامر عليه قومه، دعاء موسى عليه السلام، حين خرج فاراً من فرعون وملئه؛ الذين كانوا يأتمرون به أيضاً، قال تعالى: َ {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِنِّي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *}[ القصص: 21].

فكانت هذه الآيات بلسماً لرسول الله في ظروف هجرته المماثلة لخروج موسى عليه السلام، ولعلها كانت وراء رباطة جأشه حين قال له أبو بكر: لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرانا، فقال له الرسول الكريم: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!».

ومن الأحاديث النبوية في الدعاء ضد الظلم ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر، وأعوذ بك من القلة والذلة، وأعوذ بك أن أَظْلِم أو أُظْلَم».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده».

ولا يستصغرنَّ أحد ظلمه للآخرين، ويستبشع ظلم الآخرين له أو لغيره، فلئن تنتبه إلى ظلم نفسك للآخرين، فترد مظالمهم خير لك من أن تدفع ظلم الآخرين عنك، أو تشغل نفسك به عما ارتكبت:

كنت الصحيح وكنا منك في سقم​​فإن سقمت فإنّا السَّالمون غدا

دعت عليك أكفٌّ طالما ظلمت​​ولن تردَّ يدٌ مظلومة أبدا

وفي رواية أحمد من حديث لأبي هريرة أن «دعاء المظلوم يُرفع فوق الغمام، ويقول الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين».

وقال الشاعر:

وحقِّ اللهِ إن الظلم لؤم​​وإن الظلم مرتعه وخيم

إلى الديان يوم الدين نمضي​​وعند الله تجتمع الخصوم

وقال الشاعر:

أتهزأ بالدعاء وتزدريه​​وما تدري بما صنع الدعاء

سهام الليل نافذة ولكن​​لها أمد وللأمد القضاء

فيمسكها إذا ما شاء ربي​​ويرسلها إذا نفذ القضاء

(الهرامة، 2009، ص 178-188).

مراجع الحلقة:

- الهرامة، عبدالحميد عبدالله، (2009)، الإسلام وصراع العدالة والظلم ، ط1، جمعية الدعوة الإسلامية، ص 178-188.

- الصلابي، علي محمد، العدالة من منظور إسلامي، دار المعرفة، بيروت، ص 112-115.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب " العدالة من المنظور الإسلامي " في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/50


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022