الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

عقوبات الظلم المؤجلة في الآخرة .. إهانة الظالمين وعذابهم

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (42)

 

يعرض القرآن الكريم ما يُوجَّه إلى الظالمين من إيعازات مهينة بصيغة الماضي للتأكيد على حتمية حصول الموقف، وليرتدع من يسمع ذلك في الدنيا كقوله جل شأنه: ُ {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ *}[ يونس: 52].

غير أن أقسى ما في العذاب استمراره والخلود في معاناته إلى أمد غير محدود:

قال تعالى: ِ {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ *}[ الزخرف: 74 ـ 76].

حيث لا يجدي الاعتذار، ولا يُقبل الندم، ولا تفيد اقتراحات العودة إلى الحياة الأولى لخوض التجربة الدنيوية مرة أخرى:

قال تعالى: َ {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ *}[غافر: 52].

وقال سبحانه في المعنى نفسه: َ {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ *}[ الروم: 57] (الهرامة، 2009 ، 163-167).

كما لا يجدي الاعتراف بالذنب، ولا التفاوض بشأنه: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ *}[ المؤمنون: 106 ـ 107].

وليس في مثل هذه الحالة من إحساس أقوى من الندم والحسرة، ولكنه الندم الذي لا يجدي نفعاً، ولا يعطي درساً!

قال تعالى: َ {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [ يونس: 54].

وفي القرآن صور من عذاب الآخرة تجعل الظلم بشعاً في أعين الناس، لعل أهونها شراب لا بارد ولا كريم يتناوله الظالمون، فيزيدهم بؤساً على بؤسهم.

قال تعالى: ِ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا *}[ الكهف: 29].

وصور أخرى لطعام يؤلم الأمعاء ولا يغذيها:

قال تعالى: َ {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ *إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ *}[ الصافات: 62 ـ 63].

وفي القرآن ما يفيد أن الظلمة في النار يطلعون على حال أهل الجنة وهم يتمتعون فيها، وأن أهل الجنة يشاهدون أحوال أولئك الظلمة في مكانهم وهم يعذبون فيها، وهذه صورة لم تكن معقولة للبشر قبل النقل المرئي الحديث لوقائع متباعدة المكان والزمان، إذ على الرغم من أن الله يصور النار على أنها محاطة بسرادق يمنع من خروج أهلها منها، نجده يجعل رؤيتهم لمن في خارجها ممكنة، ورؤية من خارجها إليهم ممكنة أيضاً بقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} (الهرامة، 2009، 163-167).

ويقول في سورة أخرى: َ {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *}[ الأعراف: 47].

بل الأمر يتجاوز النظر إلى التخاطب والمحاورة عن بعد: َ {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُّمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *}[ الأعراف: 44].

فهل كان ذلك ممكناً التصور في الماضي مثلما هو الآن بوسائل العصر.

ويُحكى أن رجلاً نادى سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي، وهو على المنبر: أن يا سليمان اذكر يوم الأذان، فنزل سليمان عن المنبر، ودعا بالرجل، فقال له: ما يوم الأذان؟

فقال تعالى: َ {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *}[ الأعراف: 44].

قال: فما ظلامتك؟ قال: أرض لي مكان كذا وكذا، أخذها وكيلك. فكتب إلى وكيله: ادفع له أرضه، وأرضاً مع أرضه.

وإلى جانب هذه الصور توجد أخبار عن عذاب كبير، أو عذاب أليم ينتظر الظالمين دون تحديد أحياناً لطبيعته، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا *}[ الفرقان: 19].

قال تعالى: َ {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *}[ الإنسان: 31].

ويأتي تعيين النار باعتبارها أشد أنواع العذاب في الآخرة، قال تعالى: َ {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ *} [ آل عمران: 151].

أو قوله جل شأنه: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ *}[ الصافات: 22 ـ 23].

فإطلاق النار كان لتعيين عذاب من نوع قاس ينتظر الظلمة، ويتأكد ذلك حين يقرنهم فيها مع الشياطين، قال تعالى: َ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ *فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ *} [ الحشر:16 ـ 17] (الهرامة، 2009، 163-167).

مراجع الحلقة:

- الهرامة، عبدالحميد عبدالله، (2009)، الإسلام وصراع العدالة والظلم ، ط1، جمعية الدعوة الإسلامية، ص 163-167.

- الصلابي، علي محمد، العدالة من منظور إسلامي، دار المعرفة، بيروت، ص 103-106.

-

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب " العدالة من المنظور الإسلامي " في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022