الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

الافتراء على الله والتكذيب بآياته

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (31)

 

لقد جعل الله الافتراء عليه من أنواع الظلم المغلظة حتى تستقر في أذهان الناس فداحة الاختلاق على الله، ويستعظم المفتري جريمة ما يُقدم عليه من إثم الدعوى الباطلة على الله، قال تعالى: ِ {مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} 93].

ولا يمكن أن يدّعي النبوة كاذباً من نزلت عليه مثل هذه الاية، أو أن يفتري على الله ما لم ينزل عليه من الوحي؛ لأنه يعلم عاقبة المفتري على الله بتلك الصورة الرادعة، ويتأكد ذلك في الدعوة إلى الإسلام؛ لأن التسليم الكامل لله في كل ما أمر به، ونهى عنه، يحول دون الافتراء على صاحب الأمر، فلا يجتمع الافتراء مع التسليم والهداية، وفي ذلك يقول تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} 144].

وتكرر نفي الجميع بين الهداية والافتراء في أكثر من اية قرآنية، لتأكيد استحالة هذا الاقتران، ومنه قوله تعالى: َ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} 7].

ولذلك استحق المفترون على الله لعنته على رؤوس الأشهاد، وذلك في قوله سبحانه: َ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ *} 18].

وتأتي صفة الافتراء في القرآن الكريم منفردة حيناً آخر؛ لتدل على أنها من الظلم الأشد في مثل قوله تعالى: َ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا *} 15].

وهو ما يعزز قوة التعبير المراد به تشنيع جريمة الافتراء، ولا يمكن لمن افترى على الله زوراً أن يقول: أوحي إليّ ولم يوح إليه، وهو يستشعر خطورة هذه المعاني قبل أن يبثها في الناس، بل أن يجعلها قرآناً يتلى على الناس إلى يوم القيامة، ومن الظلم الجحود بصدقه عليه السلام ممن عرفوه عن قرب؛ لأن الجاحد منهم ينكر ما استقر في قلبه من الحق، فهو مستيقن بقلبه، جاحد بلسانه، مستكبر عن الحق باستفزازه وردة فعله؛ ولذلك كان أسوأ من المكذب، وأشبه حالاً بالمنافق، قال تعالى: َ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ *}[ النمل 14].

وقد كان هذا الجحود محزناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ليس من الجهل الذي يمكن تقويمه بالتعليم، ولا من التكذيب الذي يمكن علاجه بالدليل أو المنطق، ولكنه من العناد الذي يدل على قسوة القلوب وانغلاقها عن نوافذ الحق والخير، قال تعالى: َ {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ *}[ الآنعام 33].

فالجحود صفة ذميمة، وتتضمن خصالاً غير حميدة، منها: عدم الوفاء والكذب وعدم الآنصاف في معاملة الناس، وتدخل في ذلك في المنكر الذي نهانا الله عنه، ولما كانت آياته واضحة للعيان فيما حولنا وفي أنفسنا، فإن إنكارها جحود لا يصدر إلا عن ظالم، قال تعالى: َ {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ *}[ العنكبوت 49].

وقد جُمع الظلم بالتكذيب بآيات الله، والكذب على الله في أكثر من اية قرآنية، وكان الكفر هو النتيجة الطبيعية لهذا الجمع، ومنها قوله تعالى: َ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ *}[ الأعراف 37].

ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ *}[ الزمر 32].

وفي الآيتين يوصف هذا النوع من الكذب والتكذيب بالكفر، ويوصف في اية أخرى بالظلم َ {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} [ آل عمران: 94]. ويُربط الظلم في اية أخرى بالجريمة حيث يقول تعالى: َ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ *}[ يونس: 17].

ومن أمثلة اقتران صفة التكذيب بآيات الله بصفة الافتراء على الله وصلتها بالظلم قوله تعالى: َ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ *}[ الآنعام: 21]. فهو يدل على أن المفترين عادة من الظلمة المكذبين بآيات الله، الجاحدين لفضله، ومن لا يستحي أن يفتري على الله لا يمكنه أن يصدق بآياته فضلاً عن أن يدعو لها، أما عدم الفلاح فيؤدي في هذه الحالة إلى الكفر؛ ولذلك جعله تذييلاً في اية مشابهة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً بتشابه المناسبات والسياقات، ومن ذلك المقارنة بين الاية السابقة وهذه التي تقول: َ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ *}. وقد جعل الله للتكذيب سببين هما:

عدم العلم، وعدم الفهم، فعلاج الأول: طلب العلم والمعرفة، وليس التكذيب والجحود، وعلاج الثاني: التدبر أو طلب التفسير والتأويل، وليس التسرع في الآنكار والتكذيب، وبذلك نتعلم من الاية التالية درساً في منهجية التعامل مع الخبر، حيث قال تعالى: َ {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ *}.

مراجع الحلقة:

- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 89-91.

- الإسلام وصراع العدالة والظلم، عبدالحميد عبدالله، ص: 78- 84.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب " العدالة من المنظور الإسلامي " في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022