الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

 ظلم المعاملة ....

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي  ...

بقلم د. علي محمد الصلابي ...

الحلقة (30)

 

من أخلّ بعهد أو اغتصب حقاً لغيره، أو غشّ، أو أخلف موعداً يتضرر من خلفه غيره، أو أكل أموال الناس بالباطل، أو ماطل، وهو القادر على السداد، أو قاتل أو خاصم وهو ظالم، فقد عرّض نفسه لعقوبة ظلم المعاملة، وهي عقوبة مشددة إلا أن يعفو صاحب الحق عليه، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا *وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا *}[ النساء 29 ـ 30].

وجاء في شأن تسويف المدين القادر على السداد حديث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: «مطل الغني ظلم ...» الحديث.

ويتأكد الأمر مع أموال اليتامى والمستضعفين، قال تعالى: ِ {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *}[ النساء 10].

وإذا ظهر الظلم في المعاملة بلا شبهة؛ فإن فعله يستوجب سخط الله حتى تُرد المظلمة أو يعفو صاحبها، وفي ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «.. ومن خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال».

أما إذا اختلف الناس في أمر لاختلاف زوايا النظر فيه بين العدل والظلم؛ فإن معيار الورع في الحكم عليه يكون في اجتناب الظلم بكل احتمالاته، ومما اختلف الناس فيه من المعاملات المالية زمن الرسول صلى الله عليه وسلم التسعير، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخشى من أن يظلم بالتسعير البائع أو المشتري، إذ قد تكون تكلفة المبيع أعلى من التسعيرة فيُظلم البائع الآن أو غداً، أو تكون التسعيرة أعلى من قدرة المشتري على الشراء فيتضرر من ذلك، ويقع الإثم على المسعّر في الحالتين، ولعل الأمثل أن يترك السوق مفتوحاً، وتتاح الفرصة للجميع، فيدفع التنافس إلى تخفيض الأسعار دون تدخل، وهو ما يمكن فهمه من الحديث الذي جاء فيه: عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله سعّر لنا. فقال: «إن الله هو المُسعّر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال».

وهذا لا يتعارض مع التسعير إذا ثبت عدم الضرر بأحد أو تأكد الضرر عند عدم التدخل، ولا مع ما جاء في الإحياء للغزالي من كراهة الربح الزائد عن الثلث، فهو تهذيب لأخلاق المتعاملين دون التدخل في أمور تختلف فيها الظروف؛ فتختلف أحكامها.

إن من أهمل قيم الإسلام في المعاملات والأخلاق وغيرها، وقصر فهم الدين على العبادات، فقد ضيّق واسعاً في رسالة هذا الدين العظيم، إذ لا تمثل العبادات في كتاب الله إلا حيزاً قليلاً مقارنة بالأخلاق والنوايا والعبر والعقائد والمعاملات، ومن أدى العبادات ولم يسلم الناس من لسانه ويده أو أخذه الرياء في عبادته، لم يزد على أن ترك طعامه وشرابه في الصوم، وأضاع وقته وماله في الحج، ومات ميتة الجاهلية في الجهاد.

وعليه فالشخصية المسلمة تتكامل فيها أركان الإسلام مع قيمه وأخلاقه ومعاملاته، ويأتي طلب العدل ونبذ الظلم نتاجاً لتلك الشخصية السوية المتوازنة، ولقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يتحلل المسلم من المظالم قبل أن يفارق الحياة فقال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه فليتحلّله منها؛ فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، من قبل أن يؤخذ لأخيه من حسناته، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات أخيه فطرحت عليه»، ويشمل ذلك المظالم المادية والمعنوية المجموعة في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى ها هنا»، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه».

وزاد في حديث آخر: «إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم» وأشار بأصابعه إلى صدره.

وما ينطبق على المسلمين من العدل في التعامل ينطبق على غيرهم، فالمؤمن لا يخذل أخاه الإنسان، ولا يحقره، مهما كان جنسه أو دينه، ولا يستبيح دمه ولا عرضه ولا ماله بغير حق، وذلك لا يخفى على من له أدنى معرفة بأخلاق الإسلام وتعاليمه، ويتضح من الاية الاتية انتقاد أولئك الذين قصروا فعل الخير على أهلهم وأتباع دينهم حتى {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِيِّينَ سَبِيلٌ} عمران: 75]. ونسوا أن الله خالق الجميع، ولا يرضى الظلم من أحد لأيّ من مخلوقاته، فتكريم الإنسان المطلق مبدأ من الإسلام بغضّ النظر عن دينه وعرقه، قال تعالى: َ {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} 70].

ومن مقتضيات التكريم المساواة في العدالة، وتحريم الظلم على الجميع وشبّه الرسول عليه الصلاة والسلام من يسيء معاملة الناس بالمفلس، حين قال: «أتدرون من المُفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: «إن المُفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد فيقتصّ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقْتصَّ ما عليه أُخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار».

وذلك عام يشمل كل الناس، ولا يقتصر على المسلمين، كما أن الوفاء بالعهد مطلوب من المسلم تجاه كل إنسان مهما كان دينه أو جنسه، لقوله تعالى: َ {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً *}[ الإسراء 34].

وقوله تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[ المائدة  1].

والعقود هنا بمعنى العهود؛ ولذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم رجلين من الصحابة أعطيا عهداً للمشركين بعدم مقاتلتهم أن يوفيا بالعهد، فقد روي عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي حسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمداً. قلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منّا عهد الله وميثاقه: لننصرفن إلى المدينة، ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: «انصرفا، نَفِي بعهدهم، ونستعين الله عليهم»).

وقال صلى الله عليه وسلم في حث الظالم على التراجع عن ظلمه: «رحم الله عبداً كان لأخيه قِبلة مظلمة في عرض أو مال فأتاه فتحلله منها قبل أن يأتي يوم القيامة، وليس معه دينار ولا درهم».

وقال أيضاً: «من اقتطع حقّ امرئ مسلم بيمينه؛ فقد أوجب الله له النار، وحرّم عليه الجنة»، فقال له رجل: يا رسول الله، ولو كان شيئاً يسيراً؟ قال: «ولو كان قضيباً من أراك».

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إن الظلم ثلاثة، فظلم لا يُغفر وظلم لا يترك وظلم مغفور لا يُطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، والعياذ بالله تعالى، قال الله تعالى: ِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 48]. وأما الظلم الذي لا يُتْرك فظلم العباد بعضهم بعضاً، وأما الظلم المغفور الذي لا يُطلب فظلم العبد نفسه».

وكما حثّ الإسلام الظالم على رد المظلمة بشيء من التشديد والوعيد، حثّ المظلوم على العفو عند المقدرة، قال تعالى: َ {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *} 40].

وعن عقبة بن عامر قال: لقيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا عقبة بن عامر صِل من قطعك، وأعط من حرمك، واعف عمَّن ظلمك».

ومن نماذج ظلم المعاملة الربا، وسبب الظلم فيه أنه من أكل أموال الناس بالباطل، وأنه كسب بلا جهد يخل بالعدل، وقد يعطي القاعد أكثر مما يعطي العامل، ويُرهق المدين بالديون المضاعفة، وقد يبلغ بالأفراد والدول مبلغ العجز عن السداد، ويرمي بهم في مهاوي الاسترقاق المعنوي، أو التنازل عن أشياء لا تقدر بثمن كالأوطان أو الكرامة؛ ولذلك فالله يحرمه، ويشدد العقوبة عليه ليعتبره حرباً ضده، ويتوعد المرابين بحرب إلهية، قال تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ *} 278 ـ 279].

فمثل هذه الكبائر من المظالم ما لا يستقيم معه نظام حياة الأفراد والجماعات، وقد عانى الناس قبل الإسلام من الربا المضاعف حتى هددوا برهن أبنائهم بدل الدين، فكان من الأوليات التي نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم إليها في حجة الوداع، فقال: «ورِبَا الجاهلية موضوعٌ، وأول رِبًا أضعه رِبَا عمي العباس».

ومن الظلم الغش والخداع لما فيه من إيقاع بالناس، وضرر لهم، وهو ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ينفي انتماء الغاش إلى الأمة الإسلامية، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: مرّ على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام ؟»، قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: «أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟»، ثم قال: «من غشَّ فليس مني».

ومن الظلم بين الناس السرقة، وفيها تجتمع رذائل كثيرة فهي اعتداء، وأكل لأموال الناس بالباطل، وتقاعس عن العمل الصالح، وتعريض للنفس والآخرين للمخاطر، وإفساد في الأرض؛ ولذلك كان أحد بنود مبايعة الرسول للمسلمين والمسلمات ترك السرقة، وقد تعارف الناس في الدنيا على ظلم السارق؛ فاجتمعت قوانينهم على تجريمه، واعتباره ظالماً، قال تعالى في سورة يوسف عليه السلام حين اتهم إخوته بسرقة صواع الملك: َ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ *} 75].

وإذا كان الظلم في المعاملة شنيعاً؛ فإن الظلم في مقام العدالة والتقاضي أكثر فداحة وإثماً، وينطبق ذلك على القضاة الذين يحكمون ظلماً بقصد أو بإهمال، والمحامين الذين يسوغون الظلم، والحكام الذين لا يعدلون فيما خوّلهم الله من حقوق الناس.

ومن الظلم كلمة الحق يراد بها الباطل، كان لطلب بعض الناس الآنتصار على خصومهم بالقرآن، وهم لا يؤمنون به، فإذا لم يكن في صالحهم عدلوا عنه إلى غيره، وفي ذلك يقول تعالى: َ {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} 48 ـ 50].

ومن الظلم التعصّبُ ضد الآخرين حميّة للأقارب، وليس انحيازاً للحق، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[ الآنعام 152].

وسأل الصحابة واثلة بن الأسقع رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما العصبية؟ قال: «أن تعين قومك على الظلم».

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعان قومه على ظلم فهو كالبعير المتردي؛ فهو يُنْزَعُ بذنبه».

وعن فسيلة قالت: سمعت أبي يقول: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: «لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم».

ومن الظلم: الغصب، ويشمل اغتصاب عرض بشر، أو ماله، أو أرضه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتل دون ماله فهو شهيد».

وقد أراد معاوية أن يأخذ أرضاً لعبد الله بن عمرو يقال لها الوهط، فأمر مواليه فلبسوا الَتَهُمْ، وأرادوا القتال، قال: فأتيته، فقلت: ماذا؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما مِن مُسلم يُظلم بِمظلمة فيقاتل فيُقْتَل إلا قُتل شهيداً». وعن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق».

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن ظلم مِنَ الأرض شيئاً طُوّقه من سبع أرضين».

 

 

 

مراجع الحلقة:

  • العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 86-89.
  • الإسلام وصراع العدالة والظلم، عبدالحميد عبدالله، ص: 78 84.

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب " العدالة من المنظور الإسلامي " في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/50

 

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022