الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

العدوان المعنوي

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (29)

 

لا يقل العدوان المعنوي عن الظلم المادي في خطورته وتأثيره؛ ولذلك خصص الله في القرآن حيزاً واسعاً له، وفي صدارته الغيبة، وهي ذكرك أخاك بما يكره، والتجسس الذي له جانب مادي، وهو استراق السمع أو البصر وكشف العورات، وله جانب معنوي، وهو ما ينتج عن ذلك من كشف أسرار الناس، والإساءة إلى سمعهم، وكذلك سوء الظن بسبب تأثيره السلبي في العلاقات الإنسانية.

ـ قال تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[ الحجرات 12].

وأولى منه حسن الظن حتى يثبت العكس، قال تعالى: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ }[ النور 12].

ومن الظلم المعنوي النميمة، وهي إفشاء العداوة، قال تعالى: َ {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ *هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ }[ القلم 10 ـ 11].

ولذلك حظيت المجالس والرفقة الطيبة بعناية خاصة في الإسلام، فقد نهى الله عن صحبة الظالمين، وغشيان مجالسهم إلا لنصحهم، أو مقاومتهم {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } 68]؛ لأن مجالستهم تجعل القلوب قاسية، بما فيها من الغيبة والنميمة والتامر على الأبرياء، وتسهم في تسويق أفكار الظلمة، وعونهم على أفعالهم، ولو كان ذلك بالصمت عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل صاحب المسك وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بدنك أو ثوبك، أو تجد منه ريحاً خبيثة».

وفي هذا السياق حذر الله من اللمز، وهو كثرة الطعن في الناس خفية، والهمز، وهو كثرة الطعن في الناس، والبحث عن عيوبهم وكشفها، قال تعالى في الاية الأولى من سورة خصصها لهذا الجرم: َ {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ }[ الهمزة 1].

واستعاذ من شر الحاسد الذي يتمنى زوال نعمة الناس، فقال: َ {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[ الفلق 5].

وكأن الحاسد يرتبط بالشر في لحظة حسده، وقال في اية أخرى عن قوم لعنهم: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ}[ النساء 54].

ومن الظلم المحذّر منه في القرآن الكريم السخرية من الآخرين، وهي للعارف باثارها النفسية والاجتماعية جريمة موجعة، وفيها قال تعالى: َ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الإِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11].

فهو قد أبان باللفظ الصريح أن هذه الأفعال ظلم لا شك فيه.

ومن الظلم المعنوي الموجه للمسلمين في كل مكان يتمثل في نشر الرسوم المسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم في الدنمارك، ونقلها إلى دول أوربية أخرى بحجة حرية التعبير، وقد كانت الحجة مرفوضة ومستهجنة من قبل عقلاء العالم؛ لأنهم لم يقتنعوا بأن شتم الآخر، وإهانة مشاعره الدينية ضرب من الحرية، ويرون أن الحرية والمسؤولية أمران مرتبطان لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر، وليس ثمة أي قدر من المسؤولية وراء هذه السخرية الرخيصة التي طالت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونالت المسلمين في أقدس مقدساتهم، ومع ذلك كان ردهم حضارياً في الغالب الأعم، يعبر عن سخطهم على هذا العمل الأهوج، وينتقد ذلك الظلم القاسي دون أن يعتمد العنف والفوضى في معظم البلدان الإسلامية.

وقد ربط الله بين الظالمين بأقوالهم ودسائسهم والشياطين في اعتمادهم البهتان، وهو الكذب الشنيع الذي يبهت سامعه، ويحيره، قال تعالى: َ {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْمًا مُبِيناً *} 112].

وأي إثم أكبر من أن ترمي صاحب عقيدة ضد الظلم بأنه إرهابي يتبنى العنف؟ وقد خصّ الله الأفاك الأثيم، وهو كثير الكذب والفجور بتقريع أشد، كما تناول بالتقريع الضالين المائلين إلى الفساد، وهؤلاء جمعوا بين الإفك والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشار الله إلى شعراء السوء الذين يستخدمون تأثير الكلمة في الصدّ عن سبيل الله، أو الكذب والافتراء والظلم القولي كالهجاء، فقال تعالى: َ {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ *تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ *يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ *وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ *أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ *وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ *} 221 ـ 227].

ويتناول ذلك كل عمل فني يستهدف الفضيلة، ويحارب القيم النبيلة بحجة حرية التعبير، وهكذا فإن الظلم بالكلمة لا يقل عن الأذى المادي، وبه نلحظ اتساع الحيز الذي خصه الله في القرآن الكريم لأصحاب الظلم المعنوي؛ لأنه خلل يصيب الأمم في أخلاقها، فيدمر معنوياتها، ويحطم أصالتها، وقد كان مذموماً لدى العقلاء حتى في الجاهلية، وإن مما يحسب لأبي سفيان في جاهليته أنه قال لمن أراد معاقبة هشام بن عمرو على استجابته لواجب صلة الرحم مع بني هاشم في محنة شعب بني طالب: أبقوا علينا بعض أخلاقنا.

 

مراجع الحلقة:

- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 86-89.

- الإسلام وصراع العدالة والظلم، عبدالحميد عبدالله، ص: 54-55.

 

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب " العدالة من المنظور الإسلامي " في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/50


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022