الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

ظلم الشرك بالله

مختارات من كتاب العدالة من المنظور الإسلامي

بقلم: د. علي محمد الصلابي

الحلقة (27)

 

ثبت بنص القرآن الكريم أن الشرك بالله ظلم لا يُغتفر؛ لأن المشرك يجحد بأبرز الحقائق عظمة حين يجعل للخالق يداً في خلقه، أو حين يسند خلقه إلى الطبيعة، فيجتنب الحقيقة بغير علم، ويظلم نفسه بما يرتبه عليها من سوء المصير، ويجرمها من الصلة بخالقها، والاهتداء لهديه؛ ولذلك كان التوحيد رسالة جميع الديانات الإلهية. قال تعالى: َ {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ *}[ لقمان 13].

وإنها لعظة غير متهمة، فما يريد الوالد لولده إلا الخير، وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً، وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك، ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم، ويؤكد هذه الحقيقة مرتين، مرة بتقديم النهي وفصل علته، ومرة بإن واللام ـ وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد صلى الله عليه وسلم ـ على قومه فيجادلونه فيها، ويشكون في غرضه من وراء عرضها، ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم، والتفضل عليهم، فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه، ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة بعيدة من كل ظنة؟ إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من اتاه الله الحكمة من الناس، يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه، وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.

إن تجاهل حقيقة التوحيد البارزة هو الذي حال دون مغفرة ظلم الشرك؛ لأنها الأساس الذي تبنى عليه بقية الحقائق كالإيمان بالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر والحساب الذي ينصف المظلوم من الظالم، قال تعالى: ِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا *}[ النساء 48].

بمعنى أن مشروعية الخلق ورسالته تفقد كل محتواها إذا أنكرنا خالق الوجود، ووحدانيته، ومسؤوليتنا أمامه، وهو ما يفتح الباب للظلم والطغيان دون خوف من عقاب عادل، ولذا سمّى الله المشركين بالظالمين في آيات كثيرة منها:

قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلاَّ غُرُورًا *}[ فاطر 40].

وسواء كانت هذه المعبودات الهة يتوهم من يعبدها أنها تضرُّ وتنفع أو كانت أوثاناً يُتقرب بها إلى الله؛ فإن التوجه إليها ظلم في حق الله؛ لأن من يتوجه إليها يعتقد في استقلالها بدور ليس له حقيقة في الواقع َ {وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ *}[ يونس 106].

وهو ظلم في حق النفس لما يترتب عليه من الأضرار بها، قال تعالى: َ {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ *وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ *}[ هود 101 ـ 102].

ومن الشرك ما هو ظاهر لا يخفى كعبادة الأصنام، فقد عبد الناس التماثيل البشرية والحيوانية، ووصمهم الله بالظلم في مثل قوله تعالى: َ {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ *}[ الأعراف 148]. ومن الظلم الخفي الذي قد يتمكن من النفوس الضعيفة كالاعتقاد في استقلال السحرة، والمشعوذين، والمنجمين، وفي حكمهم بالنفع أو الضرر.

ولكن المتتبع لمعتقدات الناس يجد أن أكثر ما أصابهم من ضرر في العقيدة جاء من عبادة الأشخاص؛ الذين يبالغون في الاعتقاد باستقلالهم بالنفع أو الضرر، ولذا تراهم يلوذون بهم، ويستغيثون بأسمائهم حتى بلغوا ببعضهم مبلغ التأليه كبوذا والعزيز وعيسى عليه فمن دونهم.

ولقد أكّد الله في القرآن أن أحداً لا ينفع أو يضر بغير إذنه، ذكر ذلك سبحانه في قصة العبد الصالح مع موسى حين قال: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}[ الكهف 82].

وذكره عند التعرض لمعجزات نبي الله عيسى عليه السلام فقال تعالى: َ {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}[ آل عمران: 49].

وقال في المعنى نفسه: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110].

ومع ذلك شاعت في الناس عبادة الأشخاص والأصنام، فعبدوا وداً وسواع ويغوث ونسراً، وبنوا مسجداً على أهل الكهف تعظيماً لهم، وعبدوا المسيح عليه السلام على الرغم من قوله لمن حوله: َ {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *}[ المائدة 72].

ولكن عبادة الحيوانات كانت أدنى أنواع الشرك التي عرفها البشر؛ ولذلك اتجه سيدنا موسى عليه السلام إلى قومه يطلب التوبة منها كما جاء في قوله تعالى: َ {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ}[ البقرة 54].

وتوجه إلى أخيه باللوم الشديد على هذه الحال التي وجد عليها بنو إسرائيل، فاعتذر إليه بالضعف، وبالحرص على عدم تفريق قومه، وقال: {فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *} 150]. ومع أن المسيحيين أقرب أهل الديانات من المسلمين لصفات امتدحها الله فيهم، كصفات الرحمة والرأفة والأمانة التي يتصف بها الأتقياء منهم، قال تعالى: َ {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}[ الحديد 27].

ومع إنصاف القرآن الكريم للسيدة مريم بأكثر مما أنصفتها الكتب المسيحية، فإنه لم يقبل من المسيحيين عبادتها وابنها عليهما السلام.

ومِن أطرف ما كُتِب في مجال تكريم القرآن للسيدة مريم عليها السلام، بحث أكد فيه مؤلفه أن القرآن الكريم هو أول مصدر حاسم في تبرئتها بالدليل مما رُميت به، فقد أوردت المصادر المختلفة ما رُميت به عليها السلام وهماً حين أنجبت ابنها، ومعلوم أن الشريعة اليهودية كانت ترجم الزانية في ذلك الزمن، فلماذا حين رموها بالزنى لم يرجموها؟ سكتت المصادر المسيحية واليهودية عن الجواب في هذه المسألة، وأجاب عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: َ {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا *قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا *}[ مريم: 29 ـ 30].

فلم يكن لهم مجال لرجمها بعد أن نطق وليدها بهذا الدليل الشافي أمامهم، وهو الدليل الذي اقتصر القرآن الكريم على روايته، وحل لغزاً ما كان ليفهم من غيره من المصادر.

مراجع الحلقة:

- العدالة من منظور إسلامي، علي محمد الصلابي، دار المعرفة، بيروت، ص 79-83.

- الإسلام وصراع العدالة والظلم ، عبد الحميد عبد الله، ص 45.

- في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2788).

-

لمزيد من الاطلاع ومراجعة المصادر للمقال انظر:

كتاب الأنبياء الملوك في الموقع الرسمي للشيخ الدكتور علي محمد الصلابي:

https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/50


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022