السبت

1446-06-20

|

2024-12-21

إن من أهم خطوات بناء الدولة وتأسيس الاستقرار بعد الحروب أو الصراعات هو كسب الأعداء وتأليف قلوب الخصوم السابقين، وذلك لتوفير البيئة الاجتماعية الموحدة والحاضنة لمشروع الدولة الجديدة، ولنا في السيرة النبوية أعظم النماذج والأمثلة على ذلك، فمن فقه الرسول (ﷺ) في بناء الدولة القدرة على التعامل مع النفوس وكسب الأعداء ومن أهمها:

أ ـ أبو سفيان بن حرب زعيم قريش:

جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط الأخبار عندما سمع بقدوم رسول الله لفتح مكة إلى النبي (ﷺ) بصحبة عمه العباس رضي الله عنه، فلم ينشغل النبي (ﷺ) في محاسبة أبي سفيان ولم يسرف في مقاضاته، وهو كالأسير داخل معسكر المسلمين، بل توجه ليحدثه عن هدفٍ سامٍ عاش النبي (ﷺ) لأجله، وهو الدعوة إلى الله، فوجه كلامه لأبي سفيان: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله». قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله في النفس منها حتى الآن شيئاً، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تُضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم، قال العباس: قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً، قال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» (السيرة النبوية، الصلابي، م2، ص399).

لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في نفس أبي سفيان الذي تغير إلى الولاء الكامل للدعوة الجديدة، وكانت له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله (ﷺ) في معركة حنين، كما كان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش، وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه لن تنتقص في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله (العدالة والمصالحة الوطنية، الصلابي، ص82).

وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء، ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء، ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان في قلبه (دراسات في السيرة، د. عماد الدين خليل، ص: 245).  لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد (البداية والنهاية لابن كثير  4/ 290).

ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إلا ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر خافوا الانتقام، فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة، ثم عاد عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول الله (ﷺ) ويسلم ويشارك في الجهاد في فتوحات الشام ويقتل في اليرموك شهيداً.

ب ـ يوم بر ٍ ووفاء مع عثمان بن طلحة:

كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي الله عنه أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي (ﷺ) دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة، ورده إليه قائلاً: «اليوم يوم برٍ  ووفاء» وكان (ﷺ) قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه، وقال: «يا عثمان، لعلك ترى المفتاح يوماً بيدي، أضعه حيث شئت»، فقال: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذُلَّت، فقال: «بل عَمَرت وعُزّت يومئذٍ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعاً، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال، ولقد أعطى له رسول الله (ﷺ) مفاتيح الكعبة قائلاً له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء،خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم» (السيرة النبوية لابن هشام (4/ 82). وهكذا لم يشأ النبي (ﷺ) أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل ولم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، لما في ذلك من الإثارة أولاً ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، وهذا هو مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله (ﷺ)، وهي البر والوفاء، حتى للذين غدروا ومكروا وتطاولوا. ومهما تعاظمت الاختلافات بين أبناء الوطن الواحد، ومهما توالت الإساءات والمظالم، فالعفو والصفح والتغافر هو الأفضل للمتخاصمين، وللوطن وللأجيال القادمة وهذا بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة. إن الاقتداء بالرسول (ﷺ) شرف لنا قبل أن يكون حلاً ناجحاً لمشاكلنا واختلافاتنا (الدولة الحديثة المسلمة، الصلابي، 344).

ج ـ إعلان العفو العام:

نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول (ﷺ) ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، فقد جاء إعلان العفو عنهم وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول (ﷺ) فيهم، فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم»، فقالوا: "خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم"، فقال: «﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ اذهبوا فأنتم الطلقاء».

وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتال أو السبي، وأيضاً الأموال المنقولة، والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها، إلى جانب ذلك الصفح الجميل، كان هناك الحزم الأصيل الذي لابدّ أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلاً أمر بقتلهم. وإن وُجدوا متمسكين بأستار الكعبة، لأن جرائمهم عظيمة جداً في حق الله ورسوله وحق الإسلام، ولما كان يخشاه النبي صلى الله عليه وسلم منهم من إثارة الفتنة بين الناس بعد الفتح، ومن هؤلاء من قتل، ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول (ﷺ) وحسن إسلامه، وكانت لرسول الله (ﷺ) قدرة رفيعة في التعامل مع الخصوم فدخلت هند في الإسلام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وفضالة بن عمير وغيرهم كثير (السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451).


المراجع:

·     السيرة النبوية، علي الصلابي،دار المعرفة، بيروت، 2008م.

·     العدالة والمصالحة الوطنية، علي الصلابي، دار  ابن كثير، دمشق، 2015م.

الدولة الحديثة المسلمة، علي الصلابي، دار المعرفة، بيروت، 2014م.
دراسات في السيرة، عماد الدين خليل، دار النفائس، بيروت، 1425ه.
البداية والنهاية لأبن كثير
السيرة النبوية لابن هشام
السيرة النبوية لأبي شهبة


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022