القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي وجهوده في التوحيد والتحرير (43) والأخيرة
مرض صلاح الدين ووفاته: عام 589 هـ
بقلم: الدكتور علي محمد الصلابي
(الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)
الأيام الأخيرة من حياة صلاح الدين:
قال العماد: والسُّلطان مقيمٌ بدمشق في داره، وممالك الآفاق في انتظاره، والأنام مشرقة بمطالع أنواره، ورسل الأمصار مجتمعون على بابه، منتظرون لجوابه، والضيوف في فيوض إنعامه عائمون، والفقراء في رياض صدقاته راتعون، ويجلسُ في كلِّ يوم وليلة لإسداء الجود وإبداء السُّعود وبثِّ المكارم، وكثف المظالم، وبرز إلى الصيد شرقي دمشق بزاد خمسة عشر يوماً، واستصحب معه أخاه العادل، وأبعد في البَرِّيَّة، وظهر عن ضَمِيْر ضُمَيْر إلى الجهة الشرقية، وطابت له الفرص ووافق مراده القنص، ثم عاد يوم الإثنين حادي عشر صفر، ووافق ذلك عود الحاجِّ الشامي، فخرج للتَّلَقِّي وسعادته في التَّرَقِّي، ولما لقيَ الحُجَّاجَ استعبرت عيناه، كيف فاته من الحجِّ ما تَمنَّاه، وسألهم عن أحوال مكَّة وأميرها وأهلها، وخصبها ومحلِّها، وكم وصَلَهم من غَلاَّت مصر وصدقاتها، وعن الفقراء والمجاورين ورواتبها وإداراتها، وسُرَّ بسلامة الحاجِّ، ووضوح ذلك المنهاج، ووصل من اليمن ولدُ أخيه سيف الإسلام، فتلقَّاه بالإكرام (كتاب الروضتين، أبي شامة، م4، ص356).
مرض صلاح الدين:
لمَّا كانت ليلة السبت وجد كسلاً عظيماً، فما انتصف اللَّيل حتَّى غشيته حُمَّى صفراوية، كانت في بطنه أكثر منها في ظهره، وأصبح يوم السبت سادس عشر صَفَر عليه أثُر الحُمَّى، ولم يُظهر ذلك للناس، لكن حضر عنده القاضي ابن شدَّاد والقاضي الفاضل، ودخل ولده الأفضل. قال القاضي ابن شداد: وطال جلوسنا عنده، وأخذ يشكو من قلقه باللَّيل، وطاب له الحديث إلى قريب الظُّهر، ثم انصرفنا والقلوب عنده، فتقدَّم إلينا بالحضور على الطَّعام في خدمة ولده الأفضل، ولم يكن للقاضي عادةٌ بذلك فانصرف، ودخلت إلى الباب القِبْلي، وقد مُدَّ الطعام، وولده الأفضل قد جلس في موضعه، فانصرفتُ، وما كان لي قوةٌ للجلوس استيحاشاً، وبكى في ذلك اليوم جماعةٌ تفاؤلاً بجلوس ولده في موضعه، ثمَّ أخذ المرض في تزايدٍ من حينئذ ، ونحن نلازم التردُّد في طَرَفي النَّهار، وأَدْخُل إليه أنا، والقاضي الفاضل في النَّهار مراراً، ويُعطى الطريق في بعض الأيام التي يجد فيها خفةً ، وكان مرضه في رأسه.
وكان من أمارات انتهاء العمر غيبة طبيبه الذي كان قد ألف مِزاجه سفراً وَحَضرَاً، ورأى الأطباء فَصْدَه، ففصدوه في الرَّابع فاشتدَّ مرضه، وقَلَّت رطوبات بدنه، وكان يغلبه النَّفَس غلبةً عظيمة، ولم يَزَل المرض في تزايدٍ؛ حتى انتهى إلى غاية الضَّعف، ولقد أجلسناه في السَّادس من مرضه، وأسندنا ظهره إلى مِخَدَّة ، وأُحضر ماءٌ فاترٌ يشربه عقيب شراب يُلَيِّن الطَّبع فشربه، فوجده شديد الحرارة، فشكا من شدَّة حرِّه، فغيِّر وعُرِض عليه ثانياً، فشكا من برده ولم يغضب ولم يصخب، رحمه الله، ولم يقل سوى هذه الكلمات: سبحان الله لا يمكن أحداً تعديل الماء.
فخرجتُ أنا والقاضي من عنده، وقد اشتدَّ منَّا البكاء، والقاضي الفاضل يقول لي: أبصر هذه الأخلاق؛ التي قد أشرف المسلمون على مفارقتها، والله لو أنَّ هذا ببعض الناس؛ كان قد ضرب بالقدح رأس من أحضره. واشتدَّ مرضه في السادس، والسابع، والثامن، ولم يزل متزايداً، وتغيَّب ذهنه، ولما كان التَّاسع؛ حدثت به رَعْشَةٌ، وامتنع من تناول المشروب، واشتدَّ الإرجاف في البلد، وخاف الناس، ونقلوا الأقمشة من الأسواق، وغشي الناسَ من الكابة والحزن ما لا يمكن حكايته. ولقد كنت أنا، والقاضي الفاضل نقعد كلَّ ليلةٍ إلى أن يمضي من الليل ثُلثُهُ، أو قريبٌ منه، ثم نحضر من باب الدَّار، فإن وجدنا طريقاً؛ دخلنا، وشاهدناه، وانصرفنا، وإلا تَعَرَّفنا أحواله، وانصرفنا، وكُنَّا نجد الناس يرتقبون خروجنا من بيوتنا، حتى يقرؤوا أحواله من صفحات وجوهنا (النوادر السلطانية بن شداد، ص419).
وفاته، رحمه الله!:
ولمَّا كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمئة ، وهي الليلة الثانية عشر من مرضه ـ رحمة الله عليه ـ اشتدَّ مرضُه وضعفت قوَّته، وقع في أوائل الأمر من أوَّل اللَّيل، وحال بيننا وبينه النساء، واستحضرت أنا والقاضي الفاضل في تلك الليلة، وابن الزَّكي، ولم يكن عادته الحضور في ذلك الوقت، وعرض علينا الملك الأفضل أن نبيت عنده ، فلم ير القاضي الفاضل ذلك رأياً ، فإنَّ الناس كانوا في كلِّ ليلةٍ ينتظرون نزولنا في القلعة ، فخاف أن لا ننزل، فيقع الصَّوت في البلد، وربما نهبَ الناس بعضهم بعضاً ، فرأى المصلحة في نزولنا ، واستحضار الشيخ أبي جعفر إمام الكلاَّسة ـ وهو رجل صالح ـ يبيت في القلعة؛ حتَّى إن احتضر ـ رحمة الله عليه ـ باللَّيل؛ حضر عنده، وحال بينه وبين النساء، وذُكِّر بالشهادة، وذكر الله تعالى ففعل، ونزلنا وكلٌّ منا يودُّ فداءه بنفسه، وبات في تلك الليلة ـ رحمة الله عليه ـ على
حال المُنتقلين إلى الله تعالى ، والشيخ أبو جعفر يقرأ عنده القران ، ويذكِّره بالله تعالى ، وكان ذهنه غائباً من ليلة التاسع، ولا يكاد يفيق إلا في الأحيان. وذكر الشيخ أبو جعفر: أنه لما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ﴾ [الحشر:22] سمعه وهو يقول ـ رحمة الله عليه ـ: «صحيح»؛ وهذه يقظةٌ في وقت الحاجة، وعنايةٌ من الله تعالى به، فلله الحمد على ذلك.
وكانت وفاته ـ رحمة الله عليه ـ بعد صلاة الصُّبح من يوم الأربعاء سابع وعشرين من صفر سنة تسع وثمانين وخمسمئة ، وبادر القاضي الفاضل بعد طلوع الصبح وفاته، رحمة الله عليه. ولقد حكى لي: أنه بُلِّغ لما بلغ الشيخ أبو جعفر إلى قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۖ﴾[الحشر:22] تبَّسَّم ، وتهلَلَّ وجهُهُ ، وسَلَّمها إلى ربه. وكان يوماً لم يُصَبِ الإسلام، والمسلمون بمثله منذ فُقِد الخلفاء الرَّاشدون، وغِشيَ القلعة، والبلد، والدُّنيا من الوحشة مالا يعلمه إلا الله. قال القاضي بن شَدَّاد: وتالله لقد كنت أسمع من بعض الناس أنهم يتمنَّون فِدَاء مَنْ يعزُّ عليهم بنفوسهم، فكنت أحمل ذلك على ضرب من التجوُّز، والترخُّص إلى ذلك اليوم، فإني علمت من نفسي، ومن غيري: أنَّه لو قُبِلَ الفداء؛ لفُدِيَ بالنفس (النوادر السلطانية، بن شداد، ص 422).
وصية صلاح الدين لابنه الملك الظاهر:
أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كلِّ خير، وامرك بما أمرك الله به، فإنَّه سبب نجاتك، وأحذِّرك من الدِّماء، والدخول فيها، والتقلُّد لها، فإن الدَّم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرَّعية، والنَّظر في أحوالهم، فأنت أمين، وأمين الناس عليهم. وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء، وأرباب الدَّولة، والأكابر، فما بلغتُ ما بلغتُ إلا بمدارة الناس، ولا تحقد على أحدٍ، فإنَّ الموت لا يبقي على أحد، وأحذر ما بينك وبين الناس، فإنَّه لا يُغفر إلا برضاهم، وما بينك وبين الله يغفره الله بتوبتك إليه، فإنَّه كريم (صلاح الدين، الصلابي، ص 524).
ما خلَّف من التَّركة:
لم يترك في خزانته من الذهب سوى دينارٍ واحدٍ، وستة وثلاثين درهماً. وقيل: سبعة وأربعين درهماً، ولم يترك داراً، ولا عقاراً، ولا مزرعةً، ولا بستاناً، ولا شيئاً من أنواع الأملاك، وإنما لم يُخلِّف أموالاً، ولا أملاكاً لكثرة عطاياه، وهباته، وصدقاته، وإحسانه إلى أمرائه، ووزرائه، وأوليائه حتَّى إلى أعدائه. وقد كان متقلِّلاً في ملبسه ، ومأكله ، ومشربه، ومركبه ، فلا يلبس إلا القطن، والكتَّان ، والصُّوف، ولا يُعرَفُ: أنَّه تخطَّى مكروهاً بعد أن أنعم الله عليه بالملك ، بل كان همُّه الأكبر ومقصوده الأعظم نَصْرَ الإسلام ، وكسر الأعداء اللِّئام ، ويعمل فكره في ذلك، ورأيه وحده، ومع من يثق برأيه ليلاً، ونهاراً ، وجهاراً ، وهذا مع ما لديه من الفضائل ، والفواضل ، والفوائد الفرائد في اللُّغة ، والأدب ، وأيام الناس ، حتى قيل: إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها ، وختامها ، وكان مواظباً على الصَّلوات في أوقاتها في جماعةٍ ، ولم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهرٍ طويل ، حتَّى ولا في مرضِ موته ، كان يدخل الإمام فيُصلِّي به ، فكان يتجشَّم القيامَ مع ضعفه ( البداية والنهاية، م16، ص656).
لقد تأثر الناس بوفاة صلاح الدين؛ حتى المؤرِّخون الأوروبيُّون ترحَّموا على صلاح الدين، وأشادوا بعدله وبقوَّته وتسامحه، واعتبروه أعظم شخصيةٍ شهدها عصر الحروب الصَّليبية قاطبةً. وأمَّا مكانة صلاح الدين؛ فستظلُّ عظيمةً أبد الدهر؛ إذ يكفى ما قام به في سبيل توحيد صفوف المسلمين ، والدِّفاع عن كيانهم ، ثمَّ مواصلة الجهاد في صورةٍ لا تعرف الملل لطرد الغزاة الدُّخلاء. ولقد كان حبُّه للجهاد، والشغف به قد استولى على قلبه، وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً ، بحيث ما كان له حديث إلا فيه. ولا نظرٌ إلا في الاته، ولا كان له اهتمامٌ إلا برجاله ، ولا ميلٌ إلا إلى مَنْ يذكره ، ويحثُّ عليه. ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهلَه، وأولادَه، ووطنَه، وسكنَه، وسائرَ بلاده، وقنع من الدنيا بالسُّكون في ظل خيمةٍ تهبُّ بها الرِّياح ميمنةً، وميسرةً. ولا شك: أن وفاة صلاح الدين جاءت خسارةً كبرى للجبهة الإسلامية المتَّحدة؛ إذ أنذرت هذه الوفاة بقيام المنازعات بين أبناء البيت الأيوبي، والذي سنتحدَّث عنه تفصيلاً بإذن الله تعالى في كتابنا الرَّابع من سلسلة موسوعة الحروب الصليبية، والَّذي عنوانه: «الأيوبيُّون بعد وفاة صلا الدِّين» (صلاح الدين، الصلابي، ص528).
المراجع:
• صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
• النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية بهاء الدين بن شدَّاد، تحقيق أحمد إيبيش ، دار الأوائل سوريا، الطبعة الأولى 2003 م.
• كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبي شامة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى 1418 هـ 1997م.
• البداية والنهاية، ابن كثير، دار هجر، ط1، 1998م.
• النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة، ابن تغري بردي جمال الدين أبو المحاسن يوسف.