التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (27)
"مشاورة الرسول (ﷺ) لأصحابه رضي الله عنهم في غزوة أحد"
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي
بعد أن جمع (ﷺ) المعلومات الكاملة عن جيش كفَّار قريشٍ، جمع أصحابه رضي الله عنهم، وشاورهم في البقاء في المدينة والتَّحصُّن فيها، أو الخروج لملاقاة المشركين، وكان رأي النَّبيِّ(ﷺ) البقاء في المدينة، وقال: «إنَّا في جُنَّة حصينةٍ، فإن رأيتم أن تقيموا، وتَدَعُوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا؛ أقاموا بشرِّ مُقامٍ، وإن دخلوا علينا؛ قاتلناهم فيها» (الطبري، د.ت، 2/60)، وكان رأيُ عبد الله بن أُبيِّ بن سلول مع رأي رسول الله (ﷺ) (بامدحج، 1999، ص 82)، إلا أنَّ رجالاً من المسلمين ممَّن فاتتهم بدرٌ قالوا: يا رسول الله! اخرج بنا إلى أعدائنا.
قال ابن كثير: «وأبى كثيرٌ من النَّاس إلا الخروج إلى العدوِّ، ولم يتناهوا إلى قول رسول الله(ﷺ) ، ورأيه، ولو رضُوا بالَّذي أمرهم كان ذلك، ولكن غلب القضاء والقدر، وعامَّة مَنْ أشار عليه بالخروج رجالٌ لم يشهدوا بدراً، قد علموا الَّذي سبق لأهل بدرٍ من الفضيلة» (ابن كثير، 1988، ص 4/14).
وقال ابن إسحاق: فلم يزلِ النَّاسُ برسول الله (ﷺ) الَّذين كان من أمرهم حُبُّ لقاء القوم، حتَّى دخل رسولُ الله (ﷺ) بيته، فلبس لأمَتَهُ، فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبيُّ الله (ﷺ) بأمرٍ، وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة! فقل لنبيِّ الله (ﷺ): «أمرنا لأمرك تَبَعٌ»، فأتى حمزةُ، فقال له: يا نبيَّ الله! إنَّ القوم تلاوموا، فقالوا: أمرُنا لأمرك تبع، فقال رسول الله (ﷺ): «إنَّه ليس لنبيٍّ إذا لبس لأمته أن يضعها؛ حتَّى يقاتل» [أحمد (3/351) ، وعبد الرزاق في المصنف (5/364ـ 365) ، وابن سعد (2/38) ، والبيهقي في الدلائل (3/208)، ومجمع الزوائد (6/107)] (ابن هشام، د.ت، 3/71).
كان رأيُ مَنْ يرى الخروج إلى خارج المدينة مبنيَّاً على أمورٍ؛ منها:
1 - أنَّ الأنصار قد تعاهدوا في بيعة العقبة الثَّانية، على نصرة الرَّسول (ﷺ)، فكان أغلبُهم يرى: أنَّ المكوث داخل المدينة، تقاعسٌ عن الوفاء بهذا العهد.
2 - أنَّ الأقليَّة من المهاجرين، كانت ترى: أنَّها أحقُّ من الأنصار بالدِّفاع عن المدينة، ومهاجمة قريش، وصدِّها عن زروع الأنصار.
3 - أنَّ الَّذين فاتتهم غزوة بدر كانوا يتحرَّقون شوقاً من أجل ملاقاة الأعداء؛ طمعاً في الحصول على الشَّهادة في سبيل الله.
4 - أنَّ الأكثرين كانوا يَرَوْنَ: أنَّ في محاصرة قريشٍ للمدينة، ظفراً يجب ألا تَحْلُم به، كما توقَّعوا: أنَّ وقت الحصار سيطول أمده، فيصبح المسلمون مهدَّدين بقطع المؤن عنهم (عز الدين، د.ت، ص 51-52).
أمَّا رأي مَنْ يرى البقاء في المدينة فهو مبنيٌّ على التَّخطيط الحربيِّ الآتي:
1 - إنَّ جيش مكَّةَ لم يكن موحَّدَ العناصر؛ وبذلك يستحيل على هذا الجيش البقاء زمناً طويلاً؛ إذ لابدَّ من ظهور الخلاف بينهم. إن عاجلاً، أو اجلاً.
2 - إنَّ مهاجمة المدن المُصمَّمة على الدِّفاع عن حياضها، وقلاعها، وبيضتها أمرٌ بعيد المنال؛ وخصوصاً إذا تشابه السِّلاح عند كِلا الجيشين، وقد كان يوم أحدٍ متشابهاً.
3 - إنَّ المدافعين إذا كانوا بين أهليهم؛ فإنَّهم يستبسلون في الدِّفاع عن أبنائهم، وحماية نسائهم، وبناتهم، وأعراضهم.
4 - مشاركة النِّساء، والأبناء في القتال، وبذلك يتضاعف عدد المقاتلين.
5 - استخدام المدافعين أسلحةً لها أثر في صفوف الأعداء؛ مثل الأحجار وغيرها، وتكون إصابة المهاجمين في متناولهم (رشيد، 1990، ص 374).
من الواضح: أنَّ الرَّسول (ﷺ)، عوَّد أصحابه على التَّصريح بارائهم عند مشاورته لهم؛ حتَّى ولو خالفت رأيه، فهو إنَّما يشاورهم فيما لا نصَّ فيه؛ تعويداً لهم على التَّفكير في الأمور العامَّة، ومعالجة مشكلات الأمَّة، فلا فائدة من المشورة إذا لم تقترن بحرية إبداء الرَّأي، ولم يحدث أن لام الرَّسولُ (ﷺ) أحداً؛ لأنه أخطأ في اجتهاده، ولم يوفَّق في رأيه، وكذلك فإنَّ الأخذ بالشُّورى مُلْزِمٌ للإمام، فلابدَّ أن يُطبِّق الرَّسول (ﷺ) التَّوجيه القرآني: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159] لتعتاد الأمَّة على ممارسة الشُّورى ، وهنا يظهر الوعي السِّياسيُّ عند الصَّحابة رضي الله عنهم ، فرغم أنَّ لهم إبداءَ الرَّأي، إلا أنَّه ليس لهم فرضه على القائد، فحسبهم أن يبينوا رأيهم، ويتركوا للقائد حرية اختيار ما يترجَّح لديه من الاراء، فلـمَّا رأوا أنَّهم ألحوا في الخروج، وأنَّ الرسول(ﷺ) عزم على الخروج بسبب إلحاحهم، عادوا فاعتذروا إليه، لكن الرَّسول الكريم(ﷺ) علَّمهم درساً آخر هو من صفات القيادة النَّاجحة، وهو عدم التردُّد بعد العزيمة والشُّروع في التنفيذ، فإنَّ ذلك يزعزع الثِّقة بها، ويغرس الفوضى بين الأتباع (العمري، 1992، ص 2/380).
كان النَّبيُّ (ﷺ) قد عزم على الخروج، وقد أعلن حالة الطَّوارئ العامَّة، وتجهَّز الجميع للقتال، وأَمْضَوْا ليلتهم في حذرٍ؛ كلٌّ يصحب سلاحه، ولا يفارقه حتَّى عند نومه، وأمر (ﷺ) بحراسة المدينة، واختار خمسين من أشدَّاء المسلمين، ومحاربيهم بقيادة محمَّد بن مسلمة رضي الله عنه، واهتمَّ الصحابة بحراسة رسول الله (ﷺ)، فبات سعد بن معاذ، وأُسَيْد بن حضير، وسعد بن عبادة، في عدَّةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم ليلة الجمعة، مُدَجَّجِينَ بالسِّلاح على باب المسجد، يحرسون رسول الله (ﷺ) (أبو فارس، 1982، ص 34-35) .
المراجع:
1. أبو فارس، محمد عبدالقادر، (1982)، غزوة أحدٍ، ط1، 1402هـ 1982م، دار الفرقان، عمَّان - الأردن.
2. ابن كثير، أبو الفداء بن كثير الدمشقي، (1988)، البداية والنِّهاية، الطَّبعة الأولى - 1408 هـ، 1988 م، دار الرَّيان للتُّراث.
3. ابن هشام، أبو محمد بن عبدالملك، (د.ت)، السِّيرة النَّبويَّة، دار الفكر، بدون تاريخ.
4. بامدحج، محمد بن عيظة بن سعيد، (1999)، غزوة أحد دراسةٌ دعويَّـةٌ، دار إشبيليا، الطَّبعة الأولى، 1420هـ 1999م.
5. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، (د.ت)، تاريخ الطَّبري، تحقيق محمَّد أبو الفضل إبراهيم، دار سويدان - بيروت.
6. العمري، أكرم، (1992)، السِّيرة النَّبويَّة الصَّحيحة، الطَّبعة الأولى 1412هـ 1992م مكتبة المعارف والحِكَم بالمدينة المنوَّرة.
7. عز الدين، أحمد، د.ت، غزوة أحدٍ.
8. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 63-65.
9. رشيد، محمد، (1990)، القيادة العسكريَّة في عهد الرَّسول (ﷺ)، دار القلم، الطَّبعة الأولى، 1410 هـ 1990 م.