الخميس

1446-07-02

|

2025-1-2

التمكين والشهود الحضاري الإسلامي (30)
"تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أُحدٍ "
بقلم: د. علي محمد الصَّلابي


بعد غزوة أحد، وفي ظل مشاعر الهزيمة والذنب التي طغت على المسلمين حينها، تزل قوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ۝ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ۝ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلـمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۝  مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ۝  وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران: 140 - 143].
فبيَّن الله تعالى لهم: أنَّ الجروح، والقتلى يجب ألاَّ تؤثِّر في جدِّهم واجتهادهم في جهاد العدوِّ؛ وذلك لأنَّه كما أصابهم ذلك؛ فقد أصاب عدوَّهم مِثْلُه من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبِأنْ لا يلحقُكم الفتورُ مع حسن العاقبة والتمسُّك بالحقِّ أولى (الرازي، ص 9/14). وقال صاحب الكشَّاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أُحدٍ؛ فقد نِلتُم منهم قبله يوم بدرٍ، ثمَّ لم يُضْعِفْ ذلك قلوبَهم، ولم يثبِّطْهم عن معاودتكم بالقتال، فأنتم أولى ألاَّ تضعفوا (الزمخشري، 1967، ص 1/465).
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: إنَّه كان يوم أُحد بيوم بدرٍ، قُتل المؤمنون يوم أُحدٍ واتَّخذ اللهُ منهم شهداءَ، وغلب رسولُ الله (ﷺ) يوم بدرٍ المشركين، فجعل الدَّولة عليهم (الرازي، ص 4/105).
وقوله: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ بيانٌ لسنَّة الله الجارية في كونه، وتسليةٌ للمؤمنين عمَّا أصابهم في أُحدٍ (آل عابد، ص 1/195).
وقوله: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾: قال القرطبيُّ: معناه: وإنَّما كانت هذه المداولة؛ ليَرى المؤمن مِنَ المنافق، فيميزَ بعضَهم من بعضٍ (القرطبي، 1965، ص 4/218). وقوله: ﴿وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾: قال ابن كثير: يعني: يُقْتَلُون في سبيله، ويَبْذلون مُهَجَهُمْ في مرضاته (ابن كثير، ص 1/408).
وقد ذكر الله تعالى أربع حكمٍ لما حدث للمؤمنين في غزوة أُحدٍ، وهي: تحقُّق علم الله تعالى، وإظهاره للمؤمنين، وإكرام بعضهم بالشَّهادة الَّتي توصل صاحبها إلى أعلى الدَّرجات، وتطهير المؤمنين، وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين، ومحق الكافرين واستئصالهم رويداً رويداً (آل عابد، ص 1/199).
ثمَّ قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلـمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142] والمعنى: أحسبتم يا من انهزم يوم أحد! أن تدخلوا الجنَّة كما دخل الَّذين قُتلوا وصبروا على ألم الجراح والقتل من غير أن تسلكوا طريقهم وتصبروا صبرهم؟! لا؛ حتَّى ﴿ يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ أي: علم شهادةٍ؛ حتَّى يقع عليه الجزاء ﴿ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ (القرطبي، 1965، ص 4/220) . ثمَّ قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ [آل عمران: 143]. قال ابن كثيرٍ: قد كنتم - أيَّها المؤمنون ! - قبل هذا اليوم، تتمنَّون لقاء العدوِّ وتحترقون عليه، وتودُّون مناجزتهم ومصابرتهم، فها قد حصل لكم الَّذي تمنَّيتموه وطلبتُموه، فدونكم فقاتلوا وصابروا (ابن كثير، ص 1/409).
وقد تجلّى المنهج القرآني في معالجة الأخطاء بشكل رائع وجميل في الآيات التي نزلت عقب أُحد، فقد تَرَفَّقَ القرآن الكريم وهو يعقِّب على ما أصاب المسلمين في (أُحدٍ)، على عكس ما نزل في بدرٍ من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشدَّ من حساب المنكسر، فقال في غزوة بدر: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: 67 - 68]. وقال في أُحدٍ: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152] وفي هذا حكمةٌ عمليَّةٌ، وتربية قرآنيَّةٌ، يحسن أن يلتزمها أهل التَّربية، والقائمون على التَّوجيه (ابن كثير، ص 1/409).


المراجع:
1. ابن كثير، (د.ت)، تفسير القرآن العظيم، لابن كثيرٍ القرشيِّ، دار الفكر، ودار القلم، بيروت - لبنان، الطَّبعة الثانية.
2. آل عابد، محمد بكر، (د.ت)، حديث القرآن عن غزوات الرَّسول (ﷺ)، دار الغرب الإسلاميِّ، الطَّبعة الأولى.
3. الزمخشري، (1967)، تفسير الزمخشري المسمَّى بالكشَّاف، سنة الطبع: 1967 م، دار المعرفة.
4. الصلابي، علي محمد، (2021)، السيرة النبوية، ج 2، ط11، دار ابن كثير، 2021، ص 109-112.
5. القرطبي، محمد بن أحمد، (1965)، تفسير القرطبيِّ، دار إحياء التُّراث العربيِّ، بيروت - لبنان، 1965 م.
6. الرازي، (د.ت)، تفسير الرَّازي، دار إحياء التُّراث العربي - بيروت، الطَّبعة الثالثة.

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022