الأحد

1446-12-12

|

2025-6-8

في سيرة صلاح الدين الأيوبي:

مشروع الغزو الصليبي وشخصية البابا أوربان الثاني

الحلقة: الرابعة

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020

ولد أوربان الثاني عام 427هـ/1035م في شاتيون سير مارن ، واسمه: أودو ، وقد درس على يدي القديس برنو الذي أسس نظام الكارسوسيين وفي عام 461هـ/1068م أصبح راهباً في دير كلوني بالقرب من ماكون ، وقد التحق بخدمة البابا المتسلط المؤمن إيماناً راسخاً بتفوق البابوية على الإمبراطور ، ونعني به: جريجوري السابع ، وتم تعيينه كاردينالاً أسقفاً لاوستياً في عام 473/1080م، وخدم الكنيسة في ألمانيا خلال المرحلة من 477هـ/1084م إلى 478هـ/1085م ، وقد ساند على نحو شرعي البابا جريجوري السابع من خلال صراعه مع الإمبراطور هنري الرابع ، وقد ارتبط أوربان الثاني بسينودس (مجمع كنسي) في ساكسوني؛ الذي عقد عام (478هـ/1085م) وعند وفاة البابا فيكتور الثالث في 16ديسمبر 1087م في مونت كاسينو تم السيطرة على روما عن طريق كايمنت الثالث، وتم انتخاب أوربان الثاني بعد تأخيرٍ طويلٍ في تراكينا إلى الجنوب من روما بالقرب من جايتا، وحمل اسم أوربان الثاني (481 ـ 493هـ/1088 ـ 1099م) . ونلاحظ من خلال سيرة هذا الرجل: أنه اتَّسم بالنشاط الوافر، وإحكام سيطرته على كافة مناطق نفوذ الكنيسة الأم ، ولعلَّ موقفه من إسبانيا يمثل لنا بُعْداً مهماً ، فقد أيد ذلك البابا الحرب ضدَّ المسلمين ، وعندما أمكن للإسبان إخضاع بعض المناطق التي كانت من قِبل تحت سيادة أعدائهم؛ سارع البابا بجعلها ضمن نفوذ كنيسة روما ، ولا شك أنَّ أوربان الثاني في دعمه الحرب ضد المسلمين هناك كان يسير على خطا ، وهدى البابا الكسندر الثاني.
وهذا يؤكد لنا على حقيقة محورية ، وهي وجود استراتيجية عليا للبابوية في روما ، تتجه نحوها ، وتنفذها بحرص في القرن الحادي عشر الميلادي/الخامس الهجري على نحو خاص بغضِّ النظر عن تغيُّر ، وتقلُّب الباباوات ، وأهم ملامح هذه الاستراتيجية هي توسيع نفوذ كنيسة روما ، وتوحيد الكنائس ، ومحاربة الإسلام أينما وجد باعتباره العدو اللدود؛ الذي لا مناص من مواجهته ، ومحاولة الانتصار عليه بأيِّ ثمن .
ومن الملاحظ: أنَّ من خلال الاستغاثات البيزنطية المتعددة ، وانشغال من سبق أوربان الثاني بأمورٍ متعددة جاءت السانحة لهذا البابا ، وفي مجمع بياكترا بإيطاليا في مارس 1095م ، 488هـ اتجه إلى الاستجابة لدعوة الإمبراطور الكسيوس الأول كومنينوس (474 ـ 512هـ) (1081 ـ 1118م) غير أنَّ مجمع بياكترا أخفق فيه البابا في الدَّعوة لشن حرب صليبية ضدَّ المسلمين في الشرق.
1 ـ أوربان الثاني يعقد مجمعاً كنسياً في جنوب فرنسا:
إنَّ إخفاق مجمع بياكترا لم يثن ذلك البابا العنيد الطموح عن تحقيق هدفه بكل الوسائل الممكنة ، وقد اتجه إلى بلاده الأصلية فرنسا من أجل معاونته على نجاح مشروعه المرتقب ، وقد دلَّ ذلك الاختيار على ذكائه؛ خاصة: أنَّ جنوب فرنسا التقليدي المحافظ كان بمثابة منطقة تماس مع الحرب التي شنَّها الإسبان ضد المسلمين في إسبانيا، بالإضافة إلى أنَّ مجرد طرح الفكرة على الأرض الفرنسية كان من الممكن أن يحقق نجاحاً فورياً من خلال أنها الموطن الأصلي للبابا ، وهو أدرى بشعابها ، خاصةً أنها ـ في نفس الحين ـ ذات تاريخٍ خاصٍّ مع الإسلام خلال معركة بواتيه المعروفة لدى المسلمين بمعركة «بلاط الشهداء» عام (114هـ/732م) والتي فيها هُزِم المسلمون ، وتم وقف المدِّ الإسلامي ، وإعاقته عن الامتداد فيما وراء جبال البرانس ، وسوف ندرك من خلال تحليل خطاب البابا في مجمع كليرمنت: أنَّ كافة تلك الزوايا لم تغب عن ذهن ذلك الرجل الحاد الذكاء ، القوي الإرادة منذ أن تربى في أحضان حركة الكارسوسيان الرهبانية الصارمة ، ومهما يكن من أمر؛ فإنَّ البابا اتجه إلى كليرمنت فران بجنوب فرنسا ، وعقد مجمعاً كنسياً هناك ، وفي اليوم العاشر عقد المجمع الذي تناول فيه العديد من القضايا التي تهمُّ الكنيسة ألقى البابا على مستمعيه خطاباً بالغ الأهمية والخطورة ، وذلك في يوم 27 نوفمبر 1095م .
2 ـ الخطبة التي ألقاها البابا أوربان الثاني:
كان للخطبة التي ألقاها البابا أوربان الثاني في المجمع الديني المنعقد في كليرمونت عام 488هـ/1095م أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين في هذا المجتمع ، فقد ألهبت حماسهم، وأصابتهم بحالة عبَّر عنها المؤرخ جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): بأنها نوبة حادة من الجنون ؛ إذ قال البابا: يا شعب الفرنجة! يا شعب الله المحبوب المختار! لقد جاءت من تخوم فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية أنباءٌ محزنةٌ تعلن: أنَّ جنساً لعيناً أبعد ما يكون عن الله قد طغى، وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين في الشرق ، وقلب موائد القرابين المقدسة ، ونهب الكنائس ، وخرَّبها ، وأحرقها ، وساقوا بعض الأسرى إلى بلادهم ، وقتلوا بعضهم الاخر بعد أن عذَّبوهم أشنع تعذيب ، ودَّنسوا الأماكن المقدسة برجسهم ، وقطعوا أوصال الإمبراطورية البيزنطية ، وانتزعوا منها أقاليم بلغ من سعتها: أن المسافر فيها لا يستطيع اجتيازها في شهرين كاملين ، على مَنْ إذاً تقع تبعة الانتقام لهذه المظالم ، واستعادة تلك الأصقاع؛ إذا لم تقع عليكم أنتم.
أنتم يا من حباكم الله أكثر من أيِّ قومٍ اخرين بالمجد في القتال ، وبالبسالة العظيمة ، وبالقدرة على إذلال رؤوس من يقفون في وجوهكم؟ ألا فليكن من أعمال أسلافكم ما يقوِّي قلوبكم؛ أمجاد شارلمان ، وعظمته ، وأمجاد غيره من ملوككم ، وعظمتهم ، فليثر همَّتكم ضريحُ المسيح المقدس ربنا ، ومنقذنا؛ الضريح الذي تمتلكه الان أمم نجسة، وغيره من الأماكنِ المقدسة التي لُوِّثت ، ودُنِّست. لا تدعوا شيئاً يقعد بكم من أملاكم ، أو من شؤون أسركم، ذلك بأنَّ هذه الأرض التي تسكنونها الان ، والتي تحيط بها من جميع جوانبها البحار، وتلك الجبال ضيقةٌ، لا تتسع لسكانها الكثيرين ، تكاد تعجز عن أن تجود بمن يكفيكم من الطعام ، ومن أجل هذا يذبح بعضكم بعضاً، وتتحاربون ، ويهلك الكثيرون منكم في الحروب الداخلية. طهِّروا قلوبكم إذاً من أدران الحقد ، واقضوا على ما بينكم من نزاع، واتخذوا طريقكم إلى الضريح المقدس، وانتزعوا هذه الأرض من ذلك الجنس الخبيث، وتملَّكوها أنتم.
إنَّ أورشليم أرض لا نظير لها في ثمارها. هي فردوس المباهج. إنَّ المدينة العظمة القائمة في وسط العالم تستغيث بكم أن هبوا لإنقاذها، فقوموا بهذه الرحلة راغبين متحمِّسين؛ تتخلصوا من ذنوبكم ، وثقوا بأنكم ستنالون من أجل ذلك مجداً لا يفنى في ملكوت السموات .
وهكذا كان لهذه الكلمات الحماسية التي ألقاها البابا أوربان الثاني أثرها البالغ في نفوس المسيحيين المجتمعين ، فبعد أن أنهى البابا خطبته مباشرةً صاح المجتمعون صيحة رجلٍ واحد قائلين: هكذا أراد الله . ولم يكد البابا أوربان الثاني ينتهي من خطابه هذا؛ حتى نهض إليه الأسقف أدهمير دي مونتيلن ، وركع أمام قدمي البابا ، والتمس منه الإذن بأن يلحقه بالحملة المقدَّسة.
وأمام هذا الموقف المؤثر تحركت مشاعر المجتمعين ، وتدفعوا بالمئات يركعون أمام البابا مثل أدهمير في حماس منقطع النظير ، وحملوا الصلبان ، وحلفوا جميعاً على تخليص المدينة المقدَّسة ، ويعقِّب المؤرخ المعاصر للأحداث ، وهو: روبرت الراهب ، فيقول: يا له من عدد كبير من الناس ، من كلِّ الأعمار ، ومن مختلف المستويات؛ الذين تقلدوا الصلبان خلال مجمع كليرمونت ، وقد حلفوا على تخليص المدينة المقدسة ، وقد وصل عددهم إلى 300 ألف . وإزاء هذا الموقف المتحمس لأدهمير عينه البابا أوربان الثاني ممثلاً شخصياً ، ونائباً عنه؛ ليوضح للجميع: أنَّ الحملة تحت إشراف الكنيسة؛ بل تحت إشرافه هو مباشرة .
3 ـ ما يستنتج من خطاب البابا أوربان الثاني؟
قام الدكتور محمد مؤنس عوض بدراسةٍ واعية للحروب الصليبية ، واستفاد من مراجعهم ، وقام بتحليل لخطاب البابا من خلال أربعة نصوص لأربعة من المؤرخين المعاصرين ، هم: فوشيه الشارتري ، وروبير الراهب ، وجويرت النوجتي ، ويودريك الدولي ، وهناك تصور بأن فوشيه الشارتري كان من بين الذي حضروا مجمع كليرمنت ، وبصفة عامة من الممكن عقد مقارنة بين النصوص الواردة في مؤلفات المؤرخين الأربعة من أجل التوصل إلى حقيقة ما أعلنه البابا في خطبته الشهيرة ، وعند مقارنة تلك النصوص يمكن استنتاج الآتي:
أ ـ وجَّه البابا حديثه إلى جنس الفرنجة:
من أجل التريز على البعد الأثني ، أو العرقي ، وأوضح: أنَّ الله قد ميزهم بموقع بلادهم ، وبعقيدتهم الكاثوليكية ، وعمل على تذكيرهم بالبعد التاريخي من خلال أمجاد شارل مارتل ، وشارلمان ، وما قدَّماه للمسيحية من خدمات جليلة ، على نحوٍ عكس أهمية حافز «لذاكرة التاريخية» في تشكيل تلك الظاهرة التاريخية الكبرى .

ب ـ أشار البابا إلى أنَّ هناك أخباراً مؤسفة ومزعجة قدمت من الشرق مفادها:
أنَّ جنساً ملعوناً ، وهم عرقٌ ملعون ، عرقٌ غريب تماماً عن الله ، وهم حقاً جيلٌ لم يتوجه بقلبه ، أو يعهد بروحه إلى الله (ويقصد بذلك الأتراك السَّلاجقة) ذبحوا المسيحين الشرقيين ، وحولوا الكنائس إلى اسطبلات لخيولهم ، وأنَّ دماء أولئك المسيحيين تنادي مسيحيي الغرب من أجل إنقاذهم من براثن أعدائهم الكفار.
ج ـ عمِلَ البابا على إثارة مطامع سامعيه في ثروات الشرق ، فأوضح:
أنَّ الأرض في الغرب الأوروبي ـ ولا سيما في فرنسا ـ ضاقت بسكانها ، وطلب من الناس الذهاب إلى الشرق؛ حيث أرض كنعان؛ التي تفيض لبناً ، وعسلاً. وفي ذلك الدليل الجلي الذي لا يقبل ارتياب مرتاب على أنَّ البعد الاقتصادي للحركة الصليبية كان موجوداً ، وقد تمَّ الإعلان عنه بصراحةٍ كاملةٍ منذ اللَّحظات الأولى لميلادها.
د ـ وعد البابا كلَّ من يحمل السلاح ، ويتجه إلى الشرق بأن تغفر ذنوبه ، وآثامه ، وبمعنى آخر:
قدم لهم الغفران الكنسي ، أما إذا استشهد المرء في سبيل تحقيق هدفه؛ فإنه يعد شهيداً من شهداء المسيحية الأبرار. وجميعها مغريات مهمة في عصرٍ سادته ظاهرة الهوس الديني العاطفي في العالم المسيحي الأوروبي.
هـ اتجه البابا إلى الإشارة إلى بيت المقدس ، وهي الجنة الأرضية قلب العالم؛ التي شهدت ميلاد السيد المسيح ، وطهرها بموته. وذكر لمستمعيه:
أنها تناديكم من أجل تخليصها من براثن محتلِّيها من الكفار. وأودُّ أن أقرر هنا: أنَّ تلك المدينة مثلت محوراً على قدر عظيم من الأهمية من أجل إثارة الشعور الديني لدى مستمعي البابا ، وفي أغلب النصوص؛ التي وردت إلينا بشأن الخطاب المذكور نجد: أنَّ بيت المقدس يحتل مكاناً بارزاً، ومحورياً. وهو أمر منطقي تماماً من خلال مكانتها، وقداستها الدينية، كذلك: إنها مثلت الحلم الجماعي الخاص بالحجِّ المسيحي في ذلك العصر.
و ـ حرص البابا على تدعيم خطابه بعددٍ من النصوص الواردة في الكتاب المقدس:
من أجل إثارة الشعور الديني لمستمعيه ، أو ربما من أجل أن يعطي لخطابه قداسةً خاصة ، مثل عبارات ذلك الكتاب في العقل الجمعي الأوروبي في ذلك العصر ، ومن أمثلة ذلك العبارة الواردة في إنجيل متى ، وهي: من أحب أباً ، وأمَّاً أكثر مني؛ فلا يستحقني ، ومن أحب ابناً ، أو ابنة أكثر مني؛ فلا يستحقني . كذلك العبارة القائلة: من لا يأخذ صليبه ، ويتبعني؛ فلا يستحقني . والتي وردت في نفس الإنجيل المذكور.
ز ـ ترتيب الأولويات عند البابا أوربان الثاني:
كان البابا أوربان الثاني بارعاً في عرض أفكاره ، وكذلك في إخفاء بعضها ، وقد ركز على أمر بيت المقدس؛ حتى يقدم طريقاً واحداً على الغرب الأوروبي للسير فيه دون تردد ، ويخلق لمعاصريه (وحدة الهدف) من خلال وحدة المؤسسة الدينية الداعية له في صورة البابوية ، وعلى هذا الأساس ، لم يرد في الخطاب المذكور أية عبارات عن رغبته العارمة في توحيد الكنائس ، وإخضاع كنيسة القسطنطينية لسيطرة الكنيسة الأم في روما ، كذلك لم يرد فيه ما يدل على الهدف التنصيري ، وهو هدف محوري للبابوية من خلال المشروع المرتقب ، وتعليل ذلك الإخفاء، يكمن في أن البابوية أدركت: أنَّ هناك أولويات في طرح المشروع ينبغي عدم تخطيها ، وأنَّ وحدة العالم المسيحي تتطلَّب عدم تشعيب الأهداف ، وطرحها حتى لا يغيب الأمر منذ اللحظات الأولى لميلاد المشروع.
ويلاحظ هنا: أن لغة البابوية في الخطاب ذات طابع متكتم في عرض الأهداف الأخرى لها ، أما فيما بعد نجاح المشروع ، والاستيلاء على الرمز الديني المسيحي في صورة بيت المقدس ، وجدنا ـ والأمثلة هنا أكثر من أن تحصى ـ الإفصاح عن الأهداف الأخرى بوضوح ، وصراحة كاملتين ، وفي هذا دليلٌ واضحٌ على أنَّ تلك المؤسسة الدينية ذات التأثير الفعال رأت تحقيق أهدافها جزءاً ، جزءاً وليس دفعة واحدة ، وهو أخطر ما في المشروع برمته. وفي تقديري : أنَّ البابا أوربان الثاني لم يَغِب عن تفكيره ذلك الجانب بحكم: أنه المهندس الأول للمشروع ، والراعي الأصلي لفكرته.
وفي واقع الأمر: إنَّ الخطاب الذي ألقاه البابا في مجمع كليرمنت يعدُّ على جانب كبير من الأهمية التاريخية ، فلم نسمع من قبل في تاريخ أوروبا في القرون الوسطى: أن خطاباً كان معبراً عن عصره بمثل هذه الصورة ، كما لم نسمع عن خطاب حرك الجماهير الأوروبية الغفيرة عن مواطنها الأصلية إلى الشرق بمثل تلك الدرجة التي تحدثنا بها المصادر التاريخية المعاصرة ، ولذلك لا ننظر إليه على أنه مجرد خطاب عادي ، بل إنه إعلان ما يشبه «الحرب العالمية» في العصور الوسطى من جانب الغرب الأوروبي ضدَّ الشرق الإسلامي ، وذلك دونما مبالغةٍ قولية ، أو اعتساف في الأحكام ، بل من خلال شواهد التاريخ؛ التي وقعت في أعقابه. ويلاحظ: أنهه في أعقاب إلقاء البابا لخطابه صاح الحاضرون صيحةً واحدةً ، وهي: الله يريد ذلك ، وكانت صيحة المسيحية لمحاربة الإسلام وأهله ، واتخذوا الصَّليب شعاراً ، ومن هنا كانت تسميتهم بالصليبيين .
ح ـ قدرة البابا أوربان الثاني على تقديم مشروع عام:
استطاع أوربان الثاني أن يوحِّد شعوب الغرب في مشروعٍ عام على الرغم من أنَّ لغات هذه الشعوب ، وعادتها المحلية ، واهتمامات أبنائها كانت تختلف اختلافاً بيناً ، ولكن الفكرة الصَّليبية؛ التي جمعت جماهير الغرب الأوروبي لم تكن لتنجح لو لم تكن متوافقةً مع حركة المجتمع ، هذا التوافق بين الفكر ، والواقع ، وبين التبرير الأخلاقي للحرب ، وحركة المجتمع هو الذي خلق الإيديولوجية ، التي تحركت الجماهير الأوروبية في إطارها ، فعلى المستوى الشعبي كان تفكير الناس في أوروبا الغربية في القرن الحادي عشر يتوازى مع السياسة البابوية ، وفكرة الحرب المقدسة إلى حدٍّ ما؛ إذ إن أوروبا كانت قد بدأت حركة إحياء دينية مع مشرق شمس القرن الحادي عشر.
ومع اقتراب الألف الأولى بعد المسيح من اكتمالها سرت موجة بالإحساس بالذنب ، والرغبة في التوبة في غرب أوروبا ، فقد تعمَّق لدى الإنسان الغربي الشعور بالخطيئة ، والإحساس بالذنب ، والحقيقة: أنَّ من يقرأ مصادر تاريخ القرن الحادي عشر في غرب أوروبا لا يمكن أن يغفل إصرار الناس في ذلك الزمان على أن يضمنوا لأنفسهم غفران خطاياهم، وكان هذا نتاجاً للمشاعر الألفية، والأخروية التي ملكت على الناس وجدانهم، وعقولهم مع توقعاتهم لمجيء الدينونة ، وانتشر الوعاظ الجوَّالون في كل أنحاء الغرب الأوروبي يحثُّون الناس على الزهد، والتوبة، والتشبه بحياة الفقر التي عاشها الحواريُّون.
وفي غمرة هذا التدين العاطفي؛ الذي حكم تصرفات المجتمعات الغربية سادت مشاعر الكراهية ، والتعصب ضدَّ أتباع الديانات الأخرى ، بل ، وضدَّ من يعتنقون مذهباً غير المذهب الكاثوليكي. وثمة دليلٌ قويٌّ على هذا في طيات الملحمة الصليبية المعروفة باسم «أنشودة أنطاكية» التي تعكس ، بشكل أمين ، روح الانتقام التي سرت في المجتمع الكاثوليكي ضد «الوثنيين المخذولين» ـ على حدِّ زعمهم ـ كما أنَّ القصيدة لا تعتبر أنَّ الأمة المعادية للمسيح هم المسلمون فقط ، وإنما يصدق هذا الوصف أيضاً على كافة من لا يعترفون بعقيدة الكنيسة الكاثوليكية، وهي بهذا تجسد التفكير الشعبي في أوروبا في القرن الحادي عشر ، هذا التفكير الشعبي كان هو الاخر واحداً من ملامح الإيديولوجية العامة؛ التي أفرزت الحركة الصليبية.
لقد تمثل نجاح أوربان الثاني في أنَّ خطبته التي دعا فيها إلى الحملة الصليبية كانت بمثابة بؤرة تجمعت فيها كلُّ الأفكار التي مثلت الإطار الإيديولوجي لحركة المجتمع الغربي آنذاك على الرغم من الاختلافات اللغوية ، والعادات، والتقاليد. وهكذا لم تكن استجابة جماهير المستمعين إلى البابا في كليرمون مجرد رد فعل لبلاغة كلماته ، وإنما كانت هذه الاستجابة تعبيراً عن فرحة أولئك المستمعين بالمشروع؛ الذي مسَّ أوتار الآمال التي كانت تداعب كلماتهم تقريباً ، وجاءت الحرب المقدسة ستاراً مدهشاً يمكن للجميع أن يتحركوا من خلاله لضمان تحقيق أحلامهم الدنيوية ، وخلاصهم الأخروي ، وبوسعنا أن نورد عشرات التعبيرات الواردة في المصادر التاريخية ، والحوليات المعاصرة تصف الصليبيين بأنهم «فرسان المسيح» و«رجال المسيح» «أولئك الذين يكونون جيش المسيح» و«الشعب المقدس» و«شعب الرب» وهي كلها تعبيرات تشير بأنَّ فكرة الحرب الصليبية كانت قد رسخت في الأذان بحيث كان الناس على اقتناعٍ كاملٍ بأنهم حين يشاركون في هذه الحملة لا يفعلون ذلك استجابة لأوامر أيِّ مخلوق ، ولا حتى البابا نفسه ، وإنما هم يطيعون الرب .
4 ـ الاجتماع الاستشاري للبابا بعد خطابه:
كان البابا أوربان الثاني يجتمع مع رجال الدين النصراني ، ويستشيرهم في حشد الطاقات الرسمية ، والشعبية لغزو المسلمين ، فقد اجتمع مع أساقفته ، وبعد هذا الاجتماع الاستشاري خرجوا بالقرارات الآتية:
ـ كلُّ من ارتكب جرماً يعاقب عليه يصبح في حل من العقوبة إذا اشترك في هذه الحرب المقدسة.
ـ كلُّ مالٍ من عقار، أو متاع يتركه المحارب الذاهب إلى الأرض المقدسة يكون تحت حماية الكنيسة أثناء غيابه... وتردُّه كاملاً حتى يعود المحارب إلى وطنه.
ـ ينبغي لكل مشتركٍ في الحملة أن يحمل علامة الصَّليب.
ـ على كل من اتخذ الصلب أن يفي بالوعد بالمسير إلى بيت المقدس ، فإذا رجع عن عزمه؛ طرد من الكنيسة.
ـ كلُّ بلد يُخَلَّص من ايدي الكفار «المسلمين» يجب أن يردَّ للكنيسة.
ـ ينبغي أن يكون كلُّ فردٍ جاهزاً لمغادرة وطنه في عيد العذراء.
ـ ينبغي أن تلتقي الجيوش في القسطنطينية.
ولقد قام البابا هذا فأرسل أساقفته بهذه القرارات لتبليغها لملوك العالم المسيحي، وأمرائه في الغرب.
5 ـ حملة الدعاية الصليبية:
افتتح خطاب البابا أوربان الثاني مرحلة على جانبٍ كبير من الأهمية في صورة الدعاية الصليبية ، وهي دعاية قامت على أساس الانتقال الشخصي للعديد من المواقع ، ومخاطبة قطاعات مختلفة من البشر ، وقد كان لها دورها الفعال من أجل إنجاح ذلك المشروع. ومن الممكن ملاحظة: أنَّ الحملة الصليبية الأولى ـ على نحوٍ خاص ـ تمَّ الإعداد الدِّعائي لها بمنتهى البراعة ، والإتقان منذ الخطاب المذكور ، وفي هذا الصدد تمَّ حشد جيش من الدعاة ، وتوسيع صوت دائرة الفكر من أجل مخاطبة كافة قطاعات المجتمع الأوروبي ، كلٌّ على قدر تصوره ، وقد قام البابا أوربان الثاني بعد عقد مجمع كليرمنت بالانتقال إلى مدن: تور ، وبوردو ، ونيميز ، ومكث تسعة أشهر داعياً لمشروعه الجديد . كذلك فإنه قام بإرسال العديد من الخطابات ، من أجل الدَّعوة لمشروعه الصليبي ، ومن ذلك الرسائل التي أرسلها إلى كافة المؤمنين ـ بالمسيحية ـ في القلاندروز ، وكذلك إلى بولونا ، وقالومبروز ، وكذلك إلى كونتات سردانيا ، وروسيللون ، وبيسالون ، وإمبورياس. ويلاحظ: أنَّ الخطابات المذكورة لا يمكن فصلها عن دور البابا في مجمع كليرمنت ، فهي تكملةُ ، ومواصلةٌ حقيقية لدوره الدِّعائي للحروب الصليبية .
6 ـ العقلية التنظيمية لأوربان الثاني:
ويلاحظ: أنَّ الخطابات التي أرسلها البابا من أجل مشروعه الصليبي تقدم لنا عدداً من التفصيلات؛ التي لم ترد في خطاب كليرمونت ، ومن بينها تقريره بدور المندوب البابوي أدهيمار أسقف بوى ، ويذكر ضرورة طاعة أوامره كأنها صادرة من البابا شخصياً. كذلك قرر:
أنه لا يسمح للرهبان ، أو القساوسة بالاتجاه إلى الشرق إلا بعد الحصول على إذن من أساقفتهم ، وكذلك مقدمي الأديرة تجنباً للتمرد ، والفوضى. وينبغي أن ندرك: أن تلك المصادر الوثائقية التي بين أيدينا تكشف لنا عن العقلية التنظيمية الدقيقة لأوربان الثاني ، ولذلك نراه أمتلك رؤية شاملة للمشروع الصليبي ـ في تلك المرحلة المبكرة على الأقل ـ وقد حرص الحرص أجمعه على نصيحة من سيشاركون في الرحلة إلى الشرق بضرورة الطاعة العمياء لأوامره ، وكذلك أوامر رؤسائهم المباشرين. كما نستشعر: أنَّ البابا ألحَّ على فكرة وحدة العالم المسيحي ، وكأن ما حدث في الشرق للمسيحيين ـ في زعم الدعاية الأوروبية المغرضة ـ هو أمر يدخل في صلب اهتمامات قاطني الغرب الأوروبي ، وأنَّ مساعدة الفرنجة وغيرهم للمسيحيين الشرقيين هو جزء رئيسي من واجباتهم كمسيحيين. على أية حالة فإنَّ الثمرة الطبيعية للدور التنظيمي ، والتخطيطي ، والدعائي الذي قام به البابا ، وكبار رجال الكنيسة الذين معه قيام الحرب الصليبية ، ووما ساعدهم على ذلك اختيار التوقيت المناسب للحرب.
7 ـ بطرس الناسك:
تأثر بطرس الناسك بخطاب البابا أوربان الثاني ، وكان له تأثيرٌ شديد على الناس ، وكان يركب حماراً ـ ينتقل به من بلدٍ إلى آخر ، وكان يسير حافي القدمين ، ويرتدي ملابس رثَّة. ويتحدَّث المؤرخ روبرت الراهب عنه ، فيقول: إن بطرس هذا هو رائد الحرب الصليبية ، وأنَّه كان يفوق في ورعه القسيسين ، والأساقفة ، وكان ممتنعاً عن تناول الخبز ، واللحم ، بل جعل غذاءه السَّمك ، وكان لا يسمح لنفسه إلا بقليل من النبيذ ، وبعض الطعام الغليظ . وعلى الرغم من مظهر بطرس الناسك ، وحالته الرثَّة إلا أنه كانت له قوةٌ غريبة تثير حماس الرجال ، والنساء ، وتجذب الجماهير إليه ، فاستطاع أن يجذب وراءه حوالي خمسة عشر ألف شخص من الفقراء؛ الذين كانوا يتبعونه من بلدٍ إلى بلدٍ اخر بحماسٍ شديد؛ على الرغم من أنَّ غالبيتهم كانوا لا يدرون شيئاً عن استعمال السلاح ، أو الفروسية ، بل لم يشتركوا في أي حرب من قبل؛ إلا أن تأثرهم بكلمات بطرس الناسك الحماسية ، ومظهره جعلهم يندفعون في حماسٍ جارف وراءه دون التفكير في أي احتمالات أخرى ، فلقد كانت خطبه ناريةً ممزوجةً بالبكاء ، والعويل ، وصبِّ اللعنات على الكافرين ، وبوعد الربِّ للذين يزحفون لإنقاذ قبر المسيح بالمغفرة، وتؤثر فصاحته التمثيلية الخيالية في قلوب الجموع .
ومما يجب الإشارة إليه: أنَّ الوعاظ الذين قاموا بدور مماثل لبطرس الناسك في التبشير بالحروب الصليبية ، والدعاية لها إنما كانوا يعدُّون بالمئات ، والالاف وقد تأثر الناس بهؤلاء الوعاظ. ويصف المؤرخ بودري بوصفه معاصراً لأحداث هذه الفترة الزمنية: أنَّ بعض العامة من المسيحيين كانوا يرسمون على صدورهم علامة الصليب بواسطة الحديد المحمي على النار؛ ليتباهوا بإظهار حماسهم ، وليوهموا الاخرين بأن هذه العلامات إنما جاءتهم عن طريق معجزة .
وهكذا انطلق الجميع يتجهزون للذهاب للأراضي المقدسة بالشام بعد تلك الكلمات التي سمعوها ، وكان معظمهم يبيعون ما يملكون؛ ليجهزوا أنفسهم للرَّحيل طمعاً في محو ذنوبهم ، ورضاء الله عنهم ، وكان الاباء سعداء برؤية أولادهم؛ وهم يرحلون ، كما كانت الزوجات في غاية الفرح لدى رؤيتهن لأزواجهن؛ وهم يتأهبون للرحيل ، فحماس الجميع كان منقطع النظير ، واقتناعهم بهذا العمل كان شديداً ، وعلى قدر الفرحة الكبيرة التي شعر بها أولئك الذين غادروا بلادهم للالتحاق بالحملة الصليبية الأولى كان الأسى ، والحزن يخيم على أولئك الذين لم يخرجوا في تلك الحملة .
8 ـ غفلة المسلمين عمَّا يدَّبر لهم:
كانت الدولة الإسلامية ـ في العهد الأموي مثلاً ـ لها جهاز استخبارات ، اخترقت به خصومها المحللين، والدوليين، وكانت عيون معاوية اخترقت البلاط البيزنطي، وقد بينت ذلك في كتابي عن الدولة الأموية، وأما بالنسبة في عهد الدولة العباسية فإننا لم نعثر في المصادر الإسلامية على أية خطبة حماسية لأيٍّ من الخليفتين العباسي، أو الفاطمي كردِّ فعلٍ على خطبة البابا أوربان الثاني، أو على الأقل لم نشعر من أن المسلمين علموا بما جرى في مؤتمر كليرمونت، وما بعده. ولعلَّ السبب في ذلك يرجع إلى انشغال كلٍّ من الدولتين العباسية، والفاطمية بالتنازع فيما بينهما ، ومحاولة كلٍّ منهما التغلب على الأخرى؛ لتكون لها السيادة، فظلُّوا في سباتٍ عميق؛ حتى وصلت الحملة الصليبية الأولى بالفعل إلى بلاد الشام.
ولعلَّ ما يؤكد هذا ما جاء في كتابات ابن القلانسي من أن أخبار الصليبيين لم تصل للمسلمين في بلاد الشام إلا في سنة 490هـ/1097م ، فيقول في ذلك: وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حق الإسلام ، فعظم القلق ، وزاد الخوف ، والفرق .ومع ذلك فإن رد الفعل الإسلامي الوحيد الذي ظهر قبيل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام كان من جهة السلاجقة في اسيا الصغرى عندما استطاعوا القضاء بكل سهولة على القسم الأول من القوات الصليبية المعروفة باسم «حملة العامة» فضلاً عمَّا قاموا به من عمليات دفاعية عن ممتلكاتهم في آسيا الصغرى ، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى. كان الصليبيون يتحركون من خلال قيادة مؤهلة، ووضوح هدف، وحيوية ، ونشاط ، وطول نفس ، موظفين القدرات الخطابية في التأثير على الناس ، ومستخدمين عوامل متعددة، كالاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي ، والديني لتحريك شعوب غرب أوروبا ، كما كان للمكانة الروحية للبابا تأثير على تحرك الجيوش نحو المشرق ، فقد تحرك البابا من خلال مشروع وظف فيه كافة الإمكانات، والطاقات المتاحة.


يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022