السبت

1446-12-11

|

2025-6-7

من كتاب الوسطية في القرآن الكريم

(في تعريف الحكمة)

الحلقة: الثالثة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

صفر 1442 ه/ أكتوبر 2020


إنَّ الحكمة ملمح من ملامح الوسطيَّة، وبيان هذا: أنَّ التوسط هو توسط معنوي، وتحديد هذا التوسط يكون بمراعاة جميع الأطراف تحقيقاً للمصالح، ودرءاً للمفاسد، وهذه هي الحكمة الشرعية، وبعبارة أخرى: فإن الوسطيَّة أمر نسبي، يخضع تحديده لعوامل عدة لابدَّ من مراعاتها، ولا يتحقق ذلك إلا بإتقان الحكمة. ومن أجل إلقاء مزيد من الضوء على هذه الحقيقة سأبيِّن الحكمة في اللغة، وفي الاصطلاح الشرعي عند المفسرين، وأنواعها، ودرجاتها، وبعض الأمثلة في تطبيقها.
الحكمة في اللغة والاصطلاح
أ ـ في اللغة: جاءت الحكمة في اللغة بعدَّة معانٍ، منها:
1 ـ تستعمل بمعنى: العدل، والعلم، والحلم، والنبوة، والقران، والإنجيل، وأَحْكَمَ الأمر: أتقنه، فاستحكم، ومنعه عن الفساد.
2 ـ والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات، ويتقنها: حكيم.
3 ـ والحكيم: المتقن للأمور، يقال للرجل إذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب.
4 ـ والحكم، والحكيم هما بمعنى: الحاكم، وهو القاضي، والحكيم فَعِيْلٌ بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحْكِمُ الأشياء، ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مُفْعِل.
5 ـ والحكمة: إصابة الحق بالعلم، والعقل.
6 ـ والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سميت حَكَمَةُ اللجام ؛ لأنها تمنع الفرس من الجري والذهاب في غير قصدٍ، والسورة المحكمة: الممنوعة من التغيير، وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزاد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا ؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء: إذا أتقنه، ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكِم، وحكيم على التكثير.
7 ـ والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرس، سميت بذلك ؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة ؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.
8 ـ والحكم: هو المنع من الظلم، وسميت حَكَمَةُ الدابة ؛ لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة، وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه، وأحكمته: إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد.
استعملت في عدة معان تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنبوة، والقران، والإنجيل: فالنبي إنما بعث لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والاثام، والقران، والإنجيل، وجميع الكتب السماوية التي أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك، وكل منكر، وقبيح.
ومن فسر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أنَّ المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل، والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (الإحكام هو الفصل، والتمييز، والفرق، والتحديد الذي به يتحقق الشيء، ويحصل إتقانه، ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحدِّ بالمنع جزء معناه لا جميع معناه).
ب ـ تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي:
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم، والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة هي النبوة، وقيل: القرآن، والفقه به: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدَّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله.
وقيل: الإصابة في القول، والفعل. وقيل: معرفة الحق، والعمل به. وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح. وقيل: الخشية لله. وقيل: السنة. وقيل: الورع في دين الله. وقيل: العلم، والعمل به، ولا يسمى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما. وقيل: وضع كل شيء في موضعه. وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة. وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة.
(وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأنَّ الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول، أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه (ص) حكمة، وكل ما ذكر من التفضيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السفه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كل فعل قبيح...).
وعند التأمل والنظر نجد: أنَّ التعريف الشامل الذي يجمع، ويضم جميع هذه الأقوال في تعريف الحكمة هو: (الإصابة في الأقوال، والأفعال، ووضع كلِّ شيء في موضعه).
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف ؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم، وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق، والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّنُ الحكمة، يعني: أنه بيِّنُ الإصابة في القول، والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول ؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فَهِمَاً، خاشياً لله، فقيهاً عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه.. والحكمة أعمُّ من النبوة، والنبوة بعض معانيها، وأعلى أقسامها ؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مسدَّدون، مفهَّمون، وموفَّقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور.
والحكمة في كتاب الله نوعان: مفردة، ومقرونة بالكتاب، فالمفردة كقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] وقوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}[البقرة: 269] وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ *}[لقمان:12].
وهذه الحكمة فسرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة، وهذا النوع كثير في كتاب الله. أما الحكمة المقرونة بالكتاب؛ في السنة من أقوال النبي (ص) وأفعاله، وتقريراته، وسيرته، كقوله تعالى: [البقرة: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيْهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}[البقرة: 129].
العلاقة بين التعريف اللغوي والشرعي
عند التأمل، والنظر نجد علاقة قوية بين المعنى اللغوي، والشرعي، فكلاهما يجعل العلم النافع، والعمل الصالح الصواب المحكم المتقن أصلاً من أصول الحكمة، وعلى هذا فيكون التعريف الجامع المانع للحكمة هو: (الإصابة في القول، والعمل، والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه بإحكام، وإتقان). والله أعلم.
وبهذا التعريف يتبيَّن، ويتضح: أن الحكمة لا تقتصر على الكلام اللين، أو الترغيب، أو الحلم، أو الرفق، أو العفو... بل هي إتقان الأمور، وإحكامها بأن تنزل جميع الأمور منازلها، فيوضع القول الحكيم، والتعليم، والتربية في مواضعها، وتوضع الموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، ومجادلة الظالم المعاند في موضعها، كما قال عز وجل: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت: 46] ويوضع الزجر، والقوة، والغلظة، والشدة، والسيف في مواضعها، وهذا هو عين الحكمة. وقد قال أحكم الحاكمين لسيد الحكماء والناس أجمعين: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] كل ذلك بإحكام، وإتقان، ومراعاة لأحوال المدعوِّين، والأزمان، والأماكن في مختلف العصور والبلدان، وبإحسان القصد، والرغبة فيما عند الكريم المنان. ومن أراد البرهان العملي على ذلك فعليه أن ينظر إلى ما كان عليه رسول الله (ص) ومعاملته لأصناف الناس، وهو الذي أعطاه الله من الحكمة ما لم يعط أحداً من العالمين.
ومن أفضل التعريفات للحكمة التي يعرف بها علاقتها بالوسطيَّة تعريفا الشيخ عبد الرحمن السعدي، والأستاذ سيد قطب، رحمهما الله!
قال عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ: (الحكمة: هي العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسدَّدة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال. ثم قال: وجميع الأمور لا تصحُّ إلا بالحكمة التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محلِّ الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام).
وقال سيد قطب ـ رحمه الله ـ: (القصد، والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات، والأعمال).
وكلامهما في غاية الدلالة على صلة الحكمة بالوسطيَّة.
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد، ومالك: إنها معرفة الحق، والعمل به، والإصابة في القول، والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن، والفقه في شرائع الإسلام، وحقائق الإيمان). وقال في موضع آخر: (هي: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي).
وقوله: (على الوجه الذي ينبغي) من أقوى دلالات الوسطيَّة، وقال في موضع آخر: (الحكمة أن تعطي كلَّ شيء حقه، ولا تعدِّيه حدَّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه).
ونخلص ممَّا سبق: أنَّ الحكمة لابدَّ من اعتبارها عند تحديد معنى الوسطيَّة؛ بل إن الالتزام بالوسطيَّة، وعدم الجنوح إلى الإفراط، أو التفريط هو عين الحكمة، وجوهرها، وذلك: أنَّ الخروج عن الوسطيَّة له اثاره السلبية، إما عاجلاً، أو اجلاً، وهذا يخالف الحكمة، وينافيها.
ومن الأمثلة التي توضح ذلك:
أمر الابن بالصلاة لسبع سنين، وضربه عليها ضرباً غير مبرح بعد بلوغ العاشرة، فإننا نجد التوسط في هذه القضية ظاهراً بين الإفراط، والتفريط، وهذه هي الحكمة، حيث فرق بين من لم يبلغ السابعة، وبين من بلغها، وكذلك من بلغ العاشرة يختلف أمره، ثم من أدرك الحلم يختلف عمَّا سبق... وهكذا، فقد نزَّل الأمور منازلها، ووضع الأشياء مواضعها. وصدق الله العظيم: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269].


يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022