من كتاب الوسطية في القرآن الكريم
(صور من عذاب أهل النار)
الحلقة: الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1442 ه/ نوفمبر 2020
أولاً: تفاوت عذاب أهل النار:
إنَّ الآيات القرآنية قد بينت تفاوت أصحاب النار في العذاب كقوله تعالى: وقوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء: 145] وقوله:{ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وقوله: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ *}[النحل:88].
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: «إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه إلى تَـرْقُـوَتِه». وفي رواية: «إلى عنقه». وفي صحيح البخاري: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخفِّ الناس عذاباً فقال: «إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة لرجل توضع في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه».
وعن تفاوت أصحاب النار في العذاب يقول القرطبي: (هذا الباب يدلك على أنَّ كفر من كفر فقط ليس ككفر من طغى، وكفر، وتمرد، وعصى. ولاشك: أن الكفار في عذاب جهنم متفاوتون، كما قد علم من الكتاب والسنة، ولأنا نعلم على القطع،ءْ والثبات: أنه ليس عذاب من قتل الأنبياء والمسلمين وفتك وأفسد في الأرض وكفر مساوياً لعذاب من كفر فقط، وأحسن للأنبياء والمسلمين، ألا ترى أبا طالب كيف أخرجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ضحضاح لنصرته إياه، وذبه عنه، وإحسانه إليه).
وقال ابن رجب: (واعلم: أن تفاوت أهل النار في العذاب هو بحسب تفاوت أعمالهم التي أدخلوا بها النار) إلى أن قال: (وكذلك تفاوت عذاب عصاة الموحدين في النار بحسب أعمالهم، فليس عقوبة أهل الكبائر كعقوبة أصحاب الصغائر، وقد يخفف عن بعضهم بحسنات أخرت له، أو بما شاء الله من الأسباب، ولهذا يموت بعضهم في النار).
ثانياً: إنضاج الجلود:
إنَّ نار الله يوم القيامة تحرق جلود أهل النار، والجلد موضع الإحساس بألم الاحتراق، ولذلك فإن الله يبدِّل لهم جلوداً أخرى غير تلك التي احترقت لتحترق من جديد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا *}[النساء:56].
ثالثاً: الصهر:
من ألوان العذاب التي ذكرت في القرآن صبُّ الحميم فوق رؤوسهم، والحميم هو ذلك الماء الذي انتهى حره، فلشدة حره تذوب أمعاؤهم وما حوته بطونهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ *يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ *}[الحج: 19 ـ 20].
أخرج الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم، فينفذ؛ حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه، حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يُعاد كما كان». وقال: حسن غريب صحيح.
رابعاً: اللفح:
ومن إهانة الله لأهل النار: أنهم يحشرون في يوم القيامة على وجوههم عمياً، وصمَّاً، وبكماً. قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء: 97] ويلقون في النار على وجوههم: { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *}[النمل:90].
ثم إن النار تلفح وجوههم، وتغشاها أبداً لا يجدون حائلاً يحول بينهم وبينها:
قال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ ولاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} [الأنبياء: 39] { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [المؤمنون: 104] { سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم: 50] { أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }[الزمر: 24].
وانظر إلى هذا المنظر الذي تقشعر لهوله الأبدان: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وَجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ *}[الأحزاب:66].
خامساً: السحب.
ومن أنواع العذاب الأليم سحب الكفار في النار على وجوههم: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ *يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وَجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ *}[القمر: 47 ـ 48] ويزيد من آلامهم حال سحبهم في النار: أنهم مقيدون بالقيود، والأغلال، والسلاسل: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ *فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *}[غافر: 70 ـ 72].
سادساً: تسويد الوجوه.
يسوِّد الله في الدار الآخرة وجوه أهل النار:{يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ *}[آل عمران: 106] وهو سواد شديد، كأنما حلت ظلمة الليل في وجوههم: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِـطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}[يونس: 27].
سابعاً: إحاطة النار بالكفار:
قال تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *} [البقرة: 81] ولا يكون المرء كذلك إلا إذا كان كافراً مشركاً، يقول صديق حسن خان: (المراد بالسيئة هنا الجنس، ولابد أن يكون سببها محيطاً به من جميع جوانبه، فلا تبقى له حسنة، وسدت عليه مسالك النجاة، والخلود في النار هو للكفار والمشركين، فيتعين تفسير السيئة والخطيئة في هذه الآيةبالكفر، والشرك، وبهذا يبطل تشبث المعتزلة، والخوارج؛ لما ثبت في السنة متواتراً من خروج عصاة الموحدين من النار).
ولمَّا كانت الخطايا، والذنوب تحيط بالكافر إحاطة السوار بالمعصم؛ فإن الجزاء من جنس العمل، ولذا فإن النار تحيط بالكفار من كل جهة، كما قال تعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] والمهاد يكون من تحتهم، والغواش: جمع غاشية وهي التي تغشاهم من فوقهم، والمراد: أن النيران تحيط بهم من فوقهم، ومن تحتهم، قال تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [العنكبوت: 55] وقال في موضع آخر: { لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [الزمر: 16] وقد صرح بالإحاطة في موضع آخر: { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ *} [التوبة: 49] وقد فسر بعض السلف المهاد بالفراش، والغواش باللحف.
وتأتي الإحاطة من ناحية أخرى، وذلك: أن للنار سُوراً يحيط بالكفار، فلا يستطيع الكفار مغادرتها أو الخروج منها، كما قال تعالى:
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا *}[الكهف: 29] وسرادق النار: سورها، وحائطها الذي يحيط بها .
ثامناً: اطِّلاع النار على الأفئدة:
قال تعالى: {كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 4 ـ 7] قال محمد بن كعب القرظي: (تأكله النار إلى فؤاده، فإذا بلغت فؤاده، أنشأئ خلقه)، وعن ثابت البناني أنه قرأ هذه الآية، ثم قال: (تحرقهم النار إلى الأفئدة؛ وهم أحياء لقد بلغ منهم العذاب! ثم صار يبكي).
تاسعاً: قيود أهل النار، وأغلالهم، وسلاسلهم، ومطارقهم:
أعدَّ الله لأهل النار سلاسلَ وأغلالاً، وقيوداً ومطارقَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيرًا } [الإنسان: 4] { إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيمًا *وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا *}[المزمل: 12 ـ 13] والأغلال توضع في الأعناق: {وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] {وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ *}[غافر:71].
والأنكال: القيود، سميت أنكالاً؛ لأنه يعذبهم، ويُنكِّل بهم بها{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً} [المزمل: 12] والسلاسل نوع آخر من ألوان العذاب التي يقيد بها المجرمون في الدنيا، وانظر إلى هذه الصورة التي أخبرنا بها الكتاب الكريم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ *ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ *}[الحاقة: 30 ـ 32] وأعد الله لأهل النار مقامع من حديد، وهي المطارق التي تهوي على المجرمين وهم يحاولون الخروج من النار، فإذا بها تطوح بهم مرة أخرى إلى سواء الجحيم: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ *كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *}[الحج: 21 ـ 22].
عاشراً: قرن معبوداتهم وشياطينهم في النار:
قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ *}[الأنبياء: 98 ـ 99]، يقول ابن رجب: (لما عبد الكفار الالهة من دون الله، واعتقدوا: أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه؛ عوقبوا بأن جُعِلتْ معهم في النار إهانة لهم وإذلالاً، ونكاية لهم، وإبلاغاً في حسرتهم وندامتهم، فإن الإنسان إذا قرن في العذاب بمن كان سبب عذابه؛ كان أشد في ألمه وحسرته).
قال القرطبي: (وإنما يجمعان في جهنم ؛ لأنهما قد عُبِدا من دون الله، ولا تكون النار عذاباً لهما؛ لأنهما جماد، وإنما يفعل ذلك بهما زيادة في تبكيت الكافرين وحسرتهم. وهكذا قال بعض أهل العلم).
ولهذا المعنى يقرن الكفار بشياطينهم؛ ليكون أشد لعذابهم: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ *وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ *حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ *وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ *}[الزخرف: 36 ـ 39].
الحادي عشر: حسرتهم، وندمهم، ودعاؤهم:
عندما يرى الكفار النار يندمون أشد الندم، ولات ساعة مندم: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *} [يونس: 54] وعندما يطلع الكافر على صحيفة أعماله، فيرى كفره وشركه الذي يؤهله للخلود في النار؛ فإنه يدعو بالثبور والهلاك: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا *}[الانشقاق: 10 ـ 12].
ويتكرر دعاؤهم بالويل والهلاك عندما يلقون في النار، ويَصْلَوْن حرها: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا *لاَ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا *}[الفرقان: 13 ـ 14] وهناك يعلو صراخهم، ويشتدُّ عويلهم، ويدعون ربهم آملين أن يخرجهم من النار:{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37] وهم يعترفون في ذلك الوقت بضلالهم وكفرهم وقلة عقولهم:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأِصْحَابِ السَّعِيرِ *} [الملك: 10ـ 11] ولكن طلبهم يرفض بشدة، ويجابون بما يستحق أن تجاب به الأنعام: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ *رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ *قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ *}[المؤمنون: 106 ـ 108].
لقد حق عليهم القول، وصاروا إلى المصير الذي لا ينفع معه دعاء، ولا يقبل فيه رجاء: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ *وَلَوْ شِئْنَا لآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأِمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *}[السجدة: 12 ـ 14].
ويتوجه أهل النار بعد ذلك النداء إلى خزنة النار، يطلبون منهم أن يشفعوا لهم كي يخفف الله عنهم شيئاً مما يعانونه: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ *قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ *}[غافر: 49 ـ 50] وعند ذلك يسألون الشفاعة كي يهلكهم ربهم: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ *}[الزخرف: 77].
لقد خسر هؤلاء الظالمون أنفسهم وأهليهم عندما استحبوا الكفر على الإيمان، واسْتَمِعْ إلى عويلهم وهم يرددون حال العذاب: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وَجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ [الأحزاب: 66]. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *}[هود: 106 ـ 107].
قال الليث رحمه الله: (الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس، ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس).
وما ذكرت من صور العذاب في القرآن الكريم يدل على أن العذاب حسيٌّ، ومعنوي، وفيه من الوضوح والبيان ما يجعل الإنسان صاحب الفطرة السوية من أن يستجيب لأوامر الله، ويجتنب نواهيه، وهذه الصور الحية لا توجد في التوراة، ولا في الإنجيل ولا في غيرها من الكتب المقدسة، وهذا يدل على وسطية القرآن وحكمته في عرض اليوم الآخر بمشاهده الحية في الترهيب بدون إفراط، أو تفريط، أو زيادة، أو نقصان. وبإذن الله سنتكلم في الصفحات القادمة عن جانب الترغيب. والله الهادي إلى سواء السبيل.
يمكنكم تحميل كتاب :الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/29.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com