الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

«الآن نغزوهم، ولا يغزوننا» مرحلة غزو قريش :

الحلقة 99


كان الرسول صلى اله عليه وسلم يعمل حساب كلِّ القوى المجاورة، ولا يغفل عن أيِّ قوَّة منها، وقد صرَّح بعد غزوة الخندق بأنَّ الخطَّة القادمة هي غزو قريش؛ فقد تغيرت موازين القوى، وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر مِنْ قبل، فسعى (ص) لبسط سيادة الدَّولة على ما تبقَّى من قوى حول المدينة؛ لأنَّ ذلك له صِلةٌ بالإعداد لغزو قريش في مرحلةٍ لا حقةٍ، فقد قام (ص) خلال عامٍ واحدٍ - العام السَّادس - بغزوتين، وأرسل أربع عشرة سريَّةً، غير ما قام به في نهاية العام الخامس الهجري، وهذه الأعمال والتَّحرُّكات قصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش بإحكام الحصار، وتقليم أظفارها من خلال اقتطاع كلِّ ما يمدُّها بالقوَّة من حلفائها فقد استثمر رسول الله (ص) ، وأصحابه ما حقَّقوه من نجاح في صدِّ الأحزاب، وإفشال خططهم، وردِّهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطاً واسع النِّطاق ضدَّ خصومهم على الجبهات كافة، فقد ضيّقوا الخناق الاقتصاديَّ على قريشٍ من جديدٍ، كما نفَّذوا العديد من السَّرايا لمعاقبة المشركين في الأحزاب من جهةٍ، أو للثأر من القبائل الَّتي كانت قد غدرت بالدُّعاة، أو ناصبت الإسلام العداء، وقد تمثَّل النشاط العسكريُّ الإسلاميُّ خلال هذه الفترة فيما يلي:
أولاً: سريَّة محمَّد بن مسلمة إلى بني القرطاء:
كانت العشائر النَّجديَّة من أجرأ العناصر البدويَّة الوثنيَّة على المسلمين؛ لأن النَّجديين أهل قوَّةٍ، وبأسٍ، وعددٍ غامرٍ، وقد رأينا كيف أنَّ العمود الفقريَّ لقوَّات الأحزاب الضَّاربة كان من هذه القبائل النَّجديَّة؛ حيث كان رجال هذه القبائل الشَّرسة يشكِّلون الأغلبيَّة السَّاحقة من تلك القوَّة الضَّاربة، ستة الاف مقاتل من غطفان، وأشجع، وأسلم، وفزارة، وأسد، كانت ضمن الجيوش الَّتي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين، فحاصرهم أهل المدينة.
ولهذا فإنَّ أوَّل حملةٍ عسكريَّةٍ وجَّهها النَّبيُّ (ص) لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة الَّتي جرَّدها على القبائل النَّجديَّة من بني بكر بن كلاب؛ الَّذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضرية على مسافة سبع ليالٍ من المدينة، ففي أوائل شهر المحرَّم عام خمس للهجرة، وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجَّه (ص) سريَّةً من ثلاثين من أصحابه عليهم محمَّد بن مسلمة لشنِّ الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرَّم سنة (6 هـ)، وقد داهموهم على حين غِرَّةٍ، فقتلوا منهم عشرةً، وفرَّ الباقون، وغنم المسلمون إبلَهم، وماشيتهم، وفي طريق عودتهم أسروا ثُمامةَ بن أَثال الحنفيَّ سيِّد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه، فقدموا به المدينة، وربطوه بساريةٍ من سواري المسجد، فخرَج إليه النَّبيُّ (ص) ، فقال: «ماذا عندك يا ثُمامة؟!» فقال: عندي خيرٌ يا محمد! إن تقتلني، تقتل ذا دمٍ، وإن تُنعم؛ تُنعم على شاكرٍ، وإن كنت تريد المال؛ فسل منه ما شئت . فتركه حتَّى كان الغد، فقال: «ما عندك يا ثُمامة؟!» فقال: عندي ما قلت لك: إنْ تُنعم؛ تنعم على شاكرٍ.
فتركه حتَّى كان بعد الغد، فقال: «ما عندك يا ثُمامة؟!» فقال: عندي ما قلت لك. فقال: «أطلقوا ثُمامة» فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثمَّ دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسولُ الله، يا محمد! والله! ما كان على الأرض وجهٌ أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهُك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله! ما كان دينٌ أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدِّين إليَّ، والله! ما كان بلـدٌ أبغضَ إليَّ من بلـدك، فأصبح بلدُك أحبَّ البـلاد إلـيَّ، وإنَّ خيلك أخذتني وأنا أريد العُمرة، فماذا ترى ؟ فبشَّره رسولُ الله (ص) ، وأمره أن يعتمر.
فلـمَّا قدم مكَّة؛ قال له قائل: صَبَوْتَ؟ قال: لا والله! ولكنِّي أسلمت مع محمَّدٍ رسول الله (ص) ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّةُ حنطةٍ حتَّى يأذن فيها النَّبيُّ (ص) [البخاري (462)، ومسلم (1764/59)].
وقد برَّ بقسمه ممَّا دفع وجوه مكَّة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله (ص) يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثُمامة ليخلِّيَ لهم حمل الطَّعام، فاستجاب النَّبيُّ (ص) لرجاء قومه بالرَّغم من أنه في حالة حربٍ معهم، وكتب إلى سيِّد بني حنيفة ثُمامة: «أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم». فامتثل ثُمامة أمر نبيِّه، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكَّة، فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة.
وفي هذه القصَّة دروسٌ، وعبرٌ؛ منها:
1 - جواز ربط الكافر في المسجد.
2 - جواز المنِّ على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء، لأنَّ ثُمامة أقسم: أنَّ بغضه انقلب حبّاً في ساعةٍ واحدةٍ، لما أسداه النَّبيُّ (ص) إليه من العفو والمنِّ بغير مقابل.
3 - الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثُمامة حين أسلم.
4 - الإحسان يُزيل البُغض، ويُنبت الحُبَّ.
5 - يشرع للكافر إذا أراد عمل خيرٍ ثمَّ أسلم أن يستمرَّ في عمل ذلك الخير.
6 - الملاطفة لمن يُرجى إسلامه من الأسارى، إذا كان في ذلك مصلحةٌ للإسلام، ولاسيَّما مَنْ يتبعُه على إسلامه العددُ الكثيرُ مِنْ قومه.
7 - الإسلام يُغيِّر سلوك المؤمن حين يضع المسلم قدراته تحت الإسلام والمسلمين، كما فعل ثُمامة بعدم إرساله القمح لأهل مكَّة إلا بإذنٍ من الرَّسول (ص) .
8 - ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان وعند تركه للكفر كلَّ علاقاته السَّابقة، ثمَّ يلتزم بأوامر ربِّ العالمين بعد إيمانه.
ثانياً: سَرِيَّة أبي عبيدة بن الجرَّاح إلى سيف البحر:
تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر استمراراً لسياسة النَّبيِّ (ص) العسكريَّة لإضعاف قريش، ومحاصرتها اقتصاديّاً على المدى الطَّويل، فقد بعث (ص) أبا عبيدة ابن الجراح في ثلاثمئة راكبٍ قِبَل السَّاحل؛ ليرصدوا عيراً لقريش، وعندما كانوا ببعض الطَّريق فني الزَّاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش، فجُمع، فكان قَدْرَ مِزْوَدِ تمرٍ، يقوتهم منـه كلَّ يوم قليلاً قليلاً، حتَّى كان أخيراً نصيب الواحد منهم تمرةً واحدةً، وقد أدرك الجنود صعوبـة الموقف، فتقبَّلوا هـذا الإجراء بصدورٍ رَحْبَةٍ دون تذمُّرٍ، أو ضجرٍ، بل إنَّهم ساهموا في خطَّة قائدهم التَّقشُّفيَّة، فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقتٍ ممكنٍ، يقـول جابر رضي الله عنه أحد أفراد هذه السَّرِيَّة: (كنَّا نمصُّها كما يمصُّ الصَّبيُّ، ثمَّ نشرب عليها من الماء، فتكفينا يومنا إلى الَّليل)، وقد سـأل وهب بن كيسان جابراً رضي الله عنـه: ما تغني عنكم تمرةٌ؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فَنِيَتْ. [البخاري (4360)، ومسلم (1935/18)].
وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشَّجر، قال جابر رضي الله عنه: وكنَّا نضرب بعصيِّنا الخَبَط، ثمَّ نبلُّه بالماء، فنأكله، «فسمِّي ذلك الجيش جيش الخَبَط»، وقد أثَّر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السَّريَّة الشُّجاعة، وهو رجلٌ من أهل بيت اشتُهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر، ثمَّ نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثمَّ إنَّ أبا عبيدة نهاه. [البخاري (4361)، ومسلم (1935/19)].
فبينما هم كذلك من الجوع، والجهد الشَّديدين، إذ زفر البحر زفرةً أخرج الله فيها حوتاً ضخماً، فألقـاه على الشَّاطئ، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هـذا الحوت العجيب، فيقول: وانطلقنـا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضَّخم، فأتيناه فإذا هي دابةٌ تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتةٌ، ثمَّ قال: لا، بل نحن رسل رسول الله (ص) وفي سبيل الله، وقد اضطررتم، فكلُوا، قال: فأقمنا عليـه شهراً، ونحن ثلاثمئة حتَّى سَمِنّا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وَقْب عينيه بالقِلال الدُّهنَ، ونقتطع منه الفِدرَ كالثَّور، أو قدر الثَّور، فلقد أخذ منـا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعاً من أضلاعـه فأقامها، ثمَّ رحَّل أعظمَ بعيرٍ منـا، فمرَّ من تحتهاوتزوَّدنا من لحمه وشائق، فلـمَّا قدمنا المدينة أتينا رسول الله (ص) ، فقال: «ما حبسكم؟» قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدَّابة، فقال: «هو رزقٌ أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيءٌ، فتطعمونا» قال: فأرسلنا إلى رسول الله (ص) منه، فأكله. [البخاري (4362)، ومسلم (1435/17)].
كانت هذه السَّريَّة على الأرجح قبل صلح الحديبية، وليس في رجب سنة ثمانٍ كما ذكر ابنُ سعدٍ، وذلك لسببين: السَّبب الأول: أنَّ الرَّسول (ص) لم يغزُ، ولم يبعث سَرِيَّةً في الشَّهر الحرام، والثَّاني: أنَّ رجب سنة ثمانٍ هو ضمن فترة سريان صلح الحديبية.
وذكر ابن سعدٍ، والواقديُّ: أنَّ النبي (ص) بعثهم إلى حيٍّ من جهينة، وقال ابن حجر: إنَّ هذا لا يغاير ظاهره مافي الصَّحيح؛ لأنَّه يمكن الجمع بين كونهم يتلقَّون عيراً لقريشٍ، ويقصدون حيّاً من جُهينة، ويحتمل أن يكون تلقيهم للعير ليس لمحاربتهم، بل لحفظهم من جهينة، ويقوِّي هذا الجمع ما عند مسلمٍ، أنَّ البعث كان إلى أرض جُهينة [مسلم (1935/21)].
وفي هذه القصَّة دروسٌ، وعبرٌ؛ منها:
1 - حكمة أبي عبيدة رضي الله عنه حيث جمع الأزواد، وسوَّى بين المجاهدين في التوزيع؛ ليستطيع تجاوز الأزمة بهم، وذلك درسٌ تعلَّمه من رسول الله (ص) عمليّاً أكثر من مرَّةٍ.
2 - كرمُ قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما في وقت عصيب، ليس بيده يومها ما يخفِّف عن الناس، ففي رواية الواقديِّ: أنَّ قيس بن سعد رضي الله عنه استدان هذه النُّوق من رجلٍ جُهَنِيٍّ، وأنَّ أبا عبيدة رضي الله عنه نهاه قائلاً: تريد أن تخفر ذمَّتك، ولا مال لك، فأراد أبو عبيدة الرِّفق به.
وقد بدأ قيس بن سعد ينحر، وينحر حتَّى نهاه أبو عبيدة، فقال له قيس بن سعد: يا أبا عبيدة! أترى أنَّ أبا ثابتٍ يقضي ديون النَّاس، ويحمل الكلَّ، ويطعم في المجاعة، لا يقضي عنِّي تمر القوم مجاهدين في سبيل الله، وقال ذلك قيس لأبي عبيدة لأنَّه قد اتَّفق مع رجلٍ من جهينة على أن يشتري منه نوقاً ينحرها للجيش على أن يعطيه بدل ذلك تمراً بالمدينة، وقد وافق الجهنيُّ على تلك الصَّفقة.
عندما علم سعد بن عبادة بنهي أبي عبيدة لقيس بحجَّة: أنَّه لا مال له، وإنَّما المال لأبيه؛ وهب ابنه أربع حوائط أدناها يُجَذُّ منه خمسون وَسْقاً.
3 - الحلال والحرام:
إنَّ المسلمين في هذه السَّرِيَّة بلغ بهم الجوع غايته، فكانت التَّمرة الواحدةُ طعامَ الرَّجل طوال يومٍ كامل في سفرٍ، ومشقَّةٍ، ويمرُّون وهم على تلك الحال من فقد التَّمر، وأكل الخبط على الجهنيِّ - الَّذي اشترى منه قيس - أو على قومه، فما يخطر بفكرهم أن يغيروا عليهم لينتزعوا منهم طعامهم، كما كانت الحال في الجاهليَّة؛ لأنَّهم اليوم ينطلقون بدين الله الَّذي جاء ليحفظ على النَّاس أموالهم - في جملة ما حفظ - وهم اليوم يفرِّقون بين الحلال، والحرام الَّذي تعلَّموه من منهج ربِّ العالمين.
4 - جواز أكل ميتة البحر:
وتدل القصَّة على جواز أكل ميتة البحر، وأنَّها لم تدخل في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ أَلْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 3].
وقد قال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [المائدة: 96].
وقد صحَّ عن أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعبد الله بن عباسٍ، وجماعةٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم: (أنَّ صيد البحر ما صيد منه، وطعامهُ ما مات فيه).
وفي السُّنن عن ابن عمر مرفوعاً، وموقوفاً: (أُحلَّت لنا ميتتان، ودمان: فأمَّا الميتتان؛ فالسَّمك، والجراد، وأمَّا الدَّمان؛ فالكبِد، والطِّحال) [أحمد (2/97)، وابن ماجه (3218)، والدارقطني (4/271 و272)]
حديثٌ حسنٌ، وهذا الموقوف في حكم المرفوع؛ لأنَّ قول الصَّحابي: (أُحِلَّ لنا كذا، وحُرِّم علينا) ينصرف إلى إحلال النَّبيِّ (ص) وتحريمه، كما أنَّ في أكل الرَّسول (ص) من لحم الحوت الَّذي تغذَّى منه المسلمون مدَّةً دليلاً على مشروعية أكل ميتة البحر، كما يستحبُّ للمفتي أن يتعاطى بعض المباحات الَّتي يشكُّ فيها المستفتي؛ إذا لم يكن فيه مشقَّةٌ على المفتي، وكان فيه طمأنينةٌ للمستفتي، قاله النَّوويُّ.
5 - بعض الأحكام الَّتي ذكرها الإمام النَّوويُّ:
قال النَّوويُّ: في هذا الحديث جواز صدِّ أهل الحرب، واغتيالهم، والخروج لأخذ مالهم، واغتنامه، وأنَّ الجيوش لابدَّ لها من أميرٍ يضبطها، وينقادون لأمره، ونهيه، وأنَّه ينبغي أن يكون الأمير أفضلَهم، أو مِنْ أفضلِهم، قالوا: ويستحبُّ للرُّفقة من النَّاس، وإن قلُّوا أن يؤمِّروا أحدهم عليهم، وينقادوا له، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: يستحب للرُّفقة من المسافرين خلط أزوادهم، ليكون أبركَ، وأحسنَ في العشرة وألاَّ يختص بعضهم بأكلٍ دون بعضٍ، والله أعلم.
ثالثاً: سرية عبد الرَّحمن بن عوفٍ إلى دومة الجندل:
كانت هذه السَّريَّة قد وجهت إلى أبعد مدىً وصلت إليه الجيوش النَّبويَّة في الجزيرة العربيَّة، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشَّام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصَّحراء العربيَّة واسطة الصِّلة بين الرُّوم في أرض الشَّام، والعرب في الجزيرة، وسكَّانها من قبيلة كلبٍ الكبرى، وقد دخلوا في النَّصرانية نتيجة جوارهم، وتأثُّرهم بجوار الرُّوم النَّصارى، وهذه السَّرِيَّة تدخل ضمن مخطَّط النَّبيِّ (ص) في احتكاكه مع الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة.
وأمَّا أمير السَّرِيَّة فهو عبد الرَّحمن بن عوف أحد العشرة المبشَّرين بالجنَّة، ومن رجال الرَّعيل الأوَّل، فقد كان أحد الدَّعائم الكبرى للدَّعوة الإسلاميَّة منذ دخوله فيها على يد الصِّدِّيق رضي الله عنه.
ومهمَّة هذه السَّرية ذات جانبين: مهمَّةٌ دعويَّةٌ، ومهمَّةٌ حربيَّةٌ؛ لذلك انتدب لها عبد الرَّحمن بن عوف الَّذي تربَّى على محض الإسلام منذ أيَّامه الأولى.
وعن هذه السَّريَّة حدَّثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال: دعا رسول الله (ص) عبد الرحمن بن عوف، فقال: «تجهَّز فإنِّي باعثك في سرِيَّةٍ في يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله»، قال ابن عمر: فسمعت ذلك، فقلت: لأدخلنَّ، فلأُصلِّينَّ مع النَّبيِّ الغداة، فلأسمعنَّ وصيته لعبد الرَّحمن بن عوف.
قال: فغدوتُ، فصلَّيت، فإذا أبو بكرٍ، وعمر رضي الله عنهما، وناسٌ من المهاجرين فيهم عبد الرَّحمن بن عوف، وإذا رسول الله (ص) قد كان أمَره أن يسير من اللَّيل إلى دومة الجندل، فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله (ص) لعبد الرَّحمن: «ما خلَّفك عن أصحابك؟» قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السَّحر، فهم معسكرون بالجُرْف، وكانوا سبعمئة رجلٍ، فقال: أحببت يا رسول الله! أن يكون آخر عهدي بك، وعليَّ ثياب سفري.
قال: وعلى عبد الرَّحمن بن عوفٍ عمامةٌ قد لفَّها على رأسه، قال ابن عمر: فدعاه النَّبيُّ (ص) فأقعده بين يديه، فنقض عمامته بيده، ثمَّ عمَّمه بعمامةٍ سوداء، فأرخى بين كتفيه منها، ثمَّ قال: «هكذا فاعتم يا بن عوف!» قال: وعلى ابن عوف السَّيف مُتوشِّحـه، ثمَّ قال رسول الله (ص) : «اغزُ باسم الله، وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله، لا تَغُلَّ، ولا تغدر، ولا تقتُل وليداً». قال ابن عمر رضي الله عنهما: ثمَّ بسط يده، فقال: «يا أيها النَّاس! اتقوا خمساً قبل أن يُحلّ بكم: ما نقص مكيالُ قومٍ إلا أخذهم الله بالسِّنين، ونقصٍ من الثَّمرات لعلَّهم يرجعون، وما نكث قومٌ عهدهم إلا سلَّط الله عليهم عدوَّهم، وما منع قوم الزَّكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السَّماء، ولولا البهائم لم يُمْطَرُوا، وما ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سلط الله عليهم الطَّاعون، وما حكم قوم بغير اي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض».
قال: فخرج عبد الرَّحمن حتى لحق أصحابه، فسار حتى قدم دُومة الجندل، فلـمَّا حلَّ بها، دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أوَّل ما قدم لا يعطونه إلا السَّيف، فلـمَّا كان اليوم الثَّالث أسلم الأصبغ بن عمروٍ الكلبيُّ، وكان نصرانيّاً، وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النَّبيِّ (ص) يخبره بذلك، وبعث رجلاً من جُهينة يقال له: رافع بن مكيث، وكتب يخبر النَّبي (ص) : أنَّه أراد أن يتزوَّج فيهم، فكتب إليه النَّبيِّ (ص) أن يتزوَّج بنت الأصبغ تماضر، فتزوَّجها عبد الرحمن، وبنى بها، ثمَّ أقبل بها، وهي أمُّ أبي سلمة بن عبد الرَّحمن بن عوف، وذكر الواقديُّ: أنَّ هذه السَّريَّة في شعبان سنة ستٍّ. [البيهقي في دلائل النبوة (4/85)].
وفي هذه السَّريَّة دروسٌ، وعبرٌ، منها:
1 - تواضع النَّبيِّ (ص) لأصحابه، وشفقته عليهم، حيث ألبس عبد الرَّحمن بن عوف عمامته بيده، وهذا التَّواضع منه (ص) يرفع من معنويات الصَّحابة رضي الله عنهم، ويدفعهم إلى بـذل المزيد من الطَّاقة في سبيل خدمـة هـذا الدِّين؛ لأنَّ التَّلاحم والمـودَّة بين القائـد وجنوده من أهـمِّ عوامل نجاح العمل، وتحقيق الأهداف.
2 - كان جيش عبد الرَّحمن جيش مبادئ، وعقيدةٍ، فتحرَّك ضارباً في هذه الصَّحراء المترامية يحمل شرع الله إلى خلقه، وهدي رسوله إلى أمَّته، مستوعباً لمقاصد الجهاد، وأحكامه، فالجهاد ليس باسم محمَّد (ص) ، فهو عبد الله، ورسوله، ولا مكان لزعيمٍ، أو أمَّه، أو قبيلةٍ، أو رايةٍ، أو وطنٍ، أو جيشٍ، أو قوميَّةٍ بجوار هذه الرَّاية الخفَّاقة في هذا الوجود؛ راية الله تعالى. «اغزُ باسم الله» فحزب الله تعالى هو الَّذي يحيي هذه الصَّحراء الظَّمئ بغيث العقيدة الخالصة؛ عقيدة التَّوحيد، وهدفهم من هذا التحرُّك في سبيل الله وحدَه، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162 - 163]. قتالهم لمن كفر بالله وليس القتال على المبدأ الجاهليِّ:
وأحياناً عَلَى بَكْرٍ أَخِيْنَا إِذَا مَا لَمْ نَجِدْ إلاَّ أخَانَا
أمَّا هذا الجيش القويُّ الفتي، فهو يمضي في الأرض قُدُماً؛ ليقاتل من كفر بالله.
3 - ثمَّ نهى رسول الله (ص) عبد الرَّحمن بن عوفٍ عن الغُلول، وهو الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، ونهاه عن الغَدْر في العهود، وعن قتل الوِلْدان، وتلك نماذج من الأدب الإسلاميِّ في الجهاد، فالقتال نوعٌ من العنف، والقسوة، ولكنَّه بالنسبة للمسلمين؛ الَّذين طهَّر الله تعالى قلوبهم من الغلِّ، والحسد أمرٌ عارضٌ لإحقاق الحقِّ، وإزهاق الباطل، وحماية المحقِّين من المبطلين، وليس متأصِّلاً في نفوسهم، ولذلك كان محفوفاً بالاداب السَّامية الَّتي تجعل الإنسان الواحد جامعاً بين منتهى القوَّة، والبطش، ومنتهى الرَّحمة، والعطف.
4 - كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه سيِّداً من سادات هذه الأمَّة، وواحداً من أكبر دُعاتها، فهو يملك من الحلم، والحكمة، والثَّقافة، والتَّجربة، والعبقريَّة، والقِدَم في الإسلام، والبلاء فيه ما لا يملكه غيره، ولهذا بذل كلَّ طاقاته لتحقيق الهدف الرَّئيسيِّ الأوَّل، وهو الدُّخول في الإسلام، وكان متريثاً هادياً خبيراً بالنُّفوس والقلوب، فشحن كلَّ الإمكانات الفكريَّة، والحركيَّة لإنجاح هذه المهمَّة العظمى، وتكلَّل عمله بفضل الله تعالى بالنَّجاح الكبير، وخاصَّة: أنَّ الجهد انصبَّ على إقناع الرَّئيس، حسب توجيهات المصطفى (ص) .
5 - إنَّ إسلام سيد بني كلب في دومة الجندل الأصبغ بن عمرو على يد عبد الرَّحمن بن عوف، يذكرنا بجعفر بن أبي طالب الَّذي أسلم على يديه النَّجاشي ملك الحبشة، ومصعب بن عمير بالمدينة حيث استجاب له سادات الأوس، والخزرج وزعامتُهم للإسلام، وهذه الشَّخصيَّات العُظمى الثلاثة هم من الرُّوَّاد الأوائل، ومن المؤسِّسين في المدرسة الإسلاميَّة الأولى بمكَّة المكرَّمة.
هذا عبد الرَّحمن بن عوف الَّذي أصيب بواحدٍ وعشرين جرحاً (أي: في غزوة أحدٍ) أدَّت بعضها إلى أن يكون عنده عرجٌ من شدَّتها؛ يصنع ركائز العقيدة الإسلاميَّة بجيشه المظفَّر شمال الجزيرة العربيَّة وينضمُّ الكثيرون إلى الإسلام؛ لتغدو دومة الجندل موقعاً جديداً من المواقع الإسلاميَّة، في هذه الأطراف النائية، فلا غنى للمسلمين عن هذه القلعة، وعن هذه الموقعة للمستقبل القريب في المواجهة مع العرب، والرُّوم المناوئين للإسلام.
وهذه أوَّل مرَّةٍ يحكم الإسلام خارج حدوده، ويتعايش المسلمون، والنَّصارى في دولةٍ واحدةٍ، فالَّذين أسلموا تُطَبَّق عليهم أحكام الإسلام، والَّذين بقوا على نصرانيتهم تؤخذ منهم الجزية، وكان هذا الانفتاح تدريباً جديداً للصَّحابة على المجتمعات الجديدة الَّتي سينتقلون إليها فيما بعد، وينساحون في العراق، والشَّام، وفي قلب فارس، والرُّوم؛ ليعلِّموا النَّاس: أنَّ العقيدة تنبني من خلال الحوار، لا من خلال السَّيف، وأنَّ مبادئ الإسلام لها قوَّتها الذَّاتية الَّتي تشعُّ أنوارها على المجتمعات التي قد انغمست في الظَّلام البهيم.
6 - إنَّ زواج عبد الرَّحمن بن عوف من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل يقوِّي الرّوابط بين الزَّعيم المسلم الجديد بدومة الجندل، وبين دولة الإسلام في المدينة، ويربط مصيره بمصير دولة الإسلام، ومصير الإسلام نفسه حين يشعر: أنَّ فلذة كبده مقيمةٌ في العرين الإسلاميِّ الَّذي أصبح يحنُّ له حنينه لأرضه، وبلده(1).
وقد كان (ص) يحرص على أن يتزوَّج هو وقادتُه ببنات سادة القبائل؛ لأنَّ ذلك كسبٌ كبيرٌ لدعوة الإسلام، حيث تكون المصاهرة سبباً في القرب، وامتصاص أسباب العداء، ثمَّ الدُّخول في الإسلام.
رابعاً: تأديب الغادرين: غزوة بني لحيان، وغزوة الغابة، وغيرهما:
1 - بعد رحيل الأحزاب انتقل المسلمون من دور الدِّفاع إلى دور الهجوم، وأصبحوا يمسكون بأيديهم زمام المبادرة، وحان الوقت لتأديب بني لحيان - الَّذين غدروا بِخُبيب، وأصحابه يوم الرَّجيع - وأَخْذِ ثأر الشُّهداء، فخرج إليهم في مئتي صحابيٍّ، في ربيعٍ الأوَّل، أو جمادى الأولى سنة ستٍّ من الهجرة.
أ - تضليل العدوِّ:
كانت أرض بني لحيان من هُذيل تبعد عن المدينة أكثر من مئتين من الأميال، وهي مسافةٌ بعيدة، يلاقي مشاقاً كبيرة كلُّ مَنْ يريد قطعها، ولكنَّ النَّبيَّ (ص) كان حريصاً على الاقتصاص لأصحابه من الَّذين استُشْهدوا (غَدْراً) على يد هذه القبائل الهمجيَّة الَّتي لا قيمة للعهود عندها.
وكما هي عادة النَّبيِّ (ص) في تضليل العدوِّ الَّذي يريد مهاجمته، اتَّجه بجيشه نحو الشَّمال، بينما تقع منازل بني لحيان في أقصى الجنوب.
وقد أعلن النَّبيُّ (ص) قبل تحرُّكه نحو الشَّمال: أنَّه يريد الإغارة على الشَّام، وحتَّى أصحابه لم يعلموا: أنَّه يريد بني لحيان إلا عندما انحرف بهم نحو الجنوب، بعد أن اتَّجه بهم متوغِّلاً نحو الشَّمال حوالي عشرين ميلاً... في حركةٍ تمويهيَّةٍ - على العدوِّ - بارعةٍ.
وكان تغيير خطِّ سيره من الشَّمال إلى الجنوب عند مكانٍ يقال له: (البتراء)، ففي ذلك المكان عطف بجيشه نحو الغرب حتَّى استقام على الجادة مُنصبّاً نحو الجنوب.
ب - فرار اللِّحيانيِّين قبل وصول النَّبيِّ (ص) :
كانت بنو لحيان على غاية التَّيقُّظ، والانتباه، فقد بثَّت الأرصاد، والجواسيس في الطُّرق ليتحسَّسُوا لها، ويتجسَّسُوا لذلك، فما كاد النَّبيُّ (ص) يقترب بجيشه من منازلهم حتَّى انسحبوا منها فارِّين، وهربوا إلى رؤوس الجبال، وذلك بعد أن نقلت إليهم عيونُهم خبر اقتراب جيش المسلمين من ديارهم.
ولـمَّا وصل النَّبيُّ (ص) بجيشه عسكر في ديارهم، ثمَّ بثَّ السَّرايا من رجاله ليتعقبوا هؤلاء الغادرين، ويأتوا إليه بمن يقدرون عليه، واستمرَّت السَّرايا النَّبويَّة في البحث والمطاردة يومين كاملين، إلا أنَّها لم تجد أيَّ أثرٍ لهذه القبائل الَّتي تمنَّعت في رؤوس تلك الجبال الشَّاهقة، وأقام (ص) في ديارهم يومين لإرهابهم، وتحدِّيهم، وليظهر للأعداء مدى قوَّة المسلمين، وثقتهم بأنفسهم، وقدرتهم على الحركة، حتَّى إلى قلب ديار العدوِّ متى شاؤوا.
ج - إرهاب المشركين بمكَّة:
رأى النَّبيُّ (ص) أن يغتنم فرصة وجوده بجيشه قريباً من مكَّة، فقرَّر أن يقوم بمناورةٍ عسكريَّةٍ يرهبُ بها المشركين في مكَّة، فتحرَّك بجيشه حتَّى نزل به وادي عُسفَان، وهناك استدعى أبا بكر الصِّدِّيق، وأعطاه عشرة فوارس من أصحابه، وأمره بأن يتحرَّك بهم نحو مكَّة ليبثَّ الذُّعر، والفزع في نفوسهم، فاتَّجه الصِّدِّيق بالفرسان العشرة نحو مكَّة حتَّى وصل بهم كُراع الغميم، وهو مكانٌ قريب جداً من مكَّة، فسمعت قريش بذلك، فظنَّت: أنَّ النَّبيَّ (ص) ينوي غزوها، فانتابها الخوف، والفزع، والرُّعب، وساد صفوفها الذُّعر، هذا هو الَّذي هدف إليه النَّبيُّ (ص) بهذه الحركة الَّتي كلَّف الصِّديق أن يقوم بها.
أمَّا الصِّدِّيق وفرسانه العشرة فبعد أن وصلوا كُراع الغميم، وعلموا أنَّهم قد أحدثوا الذُّعر، والفزع في نفوس أهل مكَّة عادوا سالمين إلى النَّبيِّ (ص) ، فتحرَّك بجيشه عائداً إلى المدينة. [الواقدي (2/535 - 536)، وابن سعد (2/78 - 80)، والطبري في تاريخه (2/595)].
د - التَّرحُّم على الشُّهداء:
عندما وصل النَّبيُّ (ص) إلى بطن (غُرَان)، حيث لقي الشُّهداءُ من أصحابه مصرعهم على أيدي الخونة مِنْ هُذَيل؛ تَرَحَّم على هؤلاء الشُّهداء، ودعا لهم.
2 - غزوة الغابة:
لم تكد تمضي ليالٍ قلائلُ على عودة رسول الله (ص) من غزوته لبني لحيان، حتَّى أغار عيينة بن حصن الفزاري في خيلٍ لغطفان، كان عددها أربعين على لقاح (الإبل الحوامل ذوات الألبان) لرسول الله (ص) بالغابة، وقتلوا ذرَّ بن أبي ذرٍّ الغفاري، وأسروا زوجته ليلى، واستاقوا الإبل الَّتي كان عددها عشرين، ولـمَّا علم الرَّسول (ص) بخبر عُيَيْنَة؛ خرج في خمسمئةٍ من أصحابه في إثره، بعد أن استخلف سعد بن عبادة في ثلاثمئة من قومه، يحرسون المدينة.
وعند جبلٍ من ذي قَرَد، أدرك رسولُ الله (ص) العدوَّ، فقتل بعضَ أفراده، واستنقذ الإبل.
وقد أبدى سلمةُ بن الأكوع في هذه المعركة بطولةً نادرةً، وخاصَّة قبل وصول كتيبة الفرسان النَّبويَّة؛ حيث كان من ضمن الرُّعاة في منطقة الغابة، وظلَّ بمفرده يشاغل المغيرين، ويراميهم بالنَّبل، وكان من أعظم الرُّماة في عصره، وقد استخلص مجموعةً من الإبل المنهوبة قبل قدوم كتيبة الفرسان.
أمَّا المرأة التي أسرها المغيرون من غطفان وهي زوجة ابن أبي ذرٍّ الَّذي قتله المشركون أثناء الغارة في الغابة، فقد عادت سالمة إلى المدينة بعد أن تمكَّنت من الإفلات من القوم على ظهر ناقةٍ تابعةٍ لرسول الله (ص) ، وقد نذرت إن نجَّاها الله - عزَّ وجلَّ - لتنحرنَّ تلك النَّاقة، فلـمَّا أخبرت النَّبيَّ (ص) عن نذرها؛ تبسَّم، وقال: «بئسما جزيتيها» أي: أنَّها حملتك، ونجت بك من الأعداء فيكون جزاؤها النَّحر؟! ثمَّ قال لها (ص) : لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا تملكين. [أحمد (4/430)، ومسلم (1641)، وأبو داود (3316)].
وقد عاد رسول الله (ص) إلى المدينة بعد أن أمضى خمس ليالٍ خارجها.
وهذه الغزوة تعتبر من أكبر الغزوات التأديبيَّة الَّتي قادها رسول الله (ص) بنفسه ضدَّ أعراب نجد بعد غزوة الأحزاب، وبني قريظة، وقبل غزوة خيبر. وتتابعت سرايا رسول الله (ص) بعد غزوة قَرَد لتأديب المشركين، فنجت بعض هذه السَّرايا، وتعثر بعضُها الآخر، وكان أبرزها سريـة عكَّاشـة بن محصن الأسـديِّ؛ التي عُرفت بسريَّة الغَمْر، وقد بعثهـا رسولُ الله (ص) في شهر ربيع الأول سنة ستٍّ من الهجرة، إلى بني أسد، فوصلت إلـى موضعٍ يقال لـه: الغَمْر، فوجدت القوم قد هربوا، وتفرَّقوا في الجبال القريبـة، فأغار عكَّاشـة، وأصحابه على نعمٍ لهم، فغنموا مئتي بعير، وعادوا إلى المدينة.
ومن أبرزها أيضاً سريَّة محمَّد بن مسلمة الأنصاريِّ إلى ذي القَصَّة لإرهاب بني ثعلبة، وعُوال، ومنعهم من الإغارة على سرح المدينة، وفي شهر ربيع الثَّاني سنة ستٍّ من الهجرة خرج محمَّد بن مسلمة في عشرةٍ من المسلمين حتَّى وردوا عليهم ليلاً، فأحدق بهم القوم وهم مئة رجل، فتراموا ساعةً من الليل، ثمَّ حملت عليهم الأعراب بالرِّماح فقتلوهم، ووقع محمَّد بن مسلمة جريحاً، ولم يتمكَّن من العودة إلا بعد أن مرَّ به رجلٌ من المسلمين، فحمله حتَّى ورد به المدينة.
وعلى الأثر بعث رسول الله (ص) أبا عبيدة عامر بن الجراح في أربعين رجلاً إلى منازلهم، فلم يجدوا أحداً، ولكنَّهم غنموا بعض نعمهم، فساقوها، وعادوا بها إلى المدينة.
وفي شهر جُمادى الأولى من السَّنة نفسها كانت سريَّة زيد بن حارثة الثَّانية إلى العيص في سبعين ومئة راكب؛ لاعتراض قافلةٍ لقريش كانت مقبلةً من الشَّام، فأدركها، وأخذها، وما فيها، وأسر بعض أفرادها، كان منهم أبو العاص بن الرَّبيع زوج زينب بنت رسول الله (ص) ، وأمُّه هالة بنت خويلد أخت خديجة زوجة رسول الله (ص) ، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص. وفي شعبان سنة ستٍّ من الهجرة خرجت سريَّةٌ بقيادة عليِّ بن أبي طالبٍ لتأديب بني سعد بن بكر الَّذين جمعوا النَّاس لإمداد يهود خيبر، وقد بعثه رسول الله (ص) في مئةٍ من المسلمين، فأغار عليهم، وغنم بعض نَعَمِهم، وعاد بها إلى المدينة.
كانت هذه السَّريَّة تأديباً لكلِّ مَنْ تُسَوِّل له نفسه مساعدة اليهود في بغيهم المتوقع، حيث علمت تلك القبائل: أنَّ عين المدينة يقظة لكلِّ ما يدور حولها، وأنَّ جميع التَّحرُّكات كانت تحت المراقبة، فقد تميزت الدَّولة الإسلاميَّة بدقَّة رصدها لأعدائها، وهكذا يكون التَّخطيط الحربيُّ السَّليم، وذلك بقطع الطَّريق على تجمُّع الأعداد الكبيرة حتَّى بالإمدادات الصَّغيرة.
إنَّ حركة السَّرايا، والبعوث الَّـتي كان يقودها رسول الله (ص) ترشـد المسلمين إلى أهمِّية متابعة أخبار الأعداء، وجمع المعلومات عنهم، فقد كانت المعلومات تتجمَّع عند رسول الله (ص) من مصادر متعدِّدة: سراياه الاستطلاعيَّة، المسلمين المتخـفِّين المتعاطفين مع المسلمين، المعاهدين، الفراسة واستكشاف ما وراء السُّطور، المهم: أنَّ رسول الله (ص) ما كان يفاجأ بتامرٍ داخليٍّ، أو تهديدٍ خارجيٍّ، وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضيَّةٍ يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضَّوابط الشَّرعية.
خامساً: سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرنيِّين:
قدِم على رسول الله (ص) جماعةٌ من عُكَل وعُرينة، في شوال من العام الـسَّـادس الهجـري، وتكلَّموا بالإسلام، فقالوا: يا نبـي الله! إنَّا كنَّا أهل ضرعٍ، ولم نكن أهل ريف، واستوخموا المدينة، فأمر لهم رسول الله (ص) بذودٍ، وراعٍ، وأمرهم أن يخرجوا فيه، فيشربوا من ألبانها، ويتمسَّحوا بأبوالها، فانطلقـوا حتَّى إذا كانوا ناحيـة الحَرَّة؛ كفـروا بعـد إسلامهم، وقتلوا راعيَ النَّبيِّ (ص) ، واستـاقوا الـذَّود، فبلغ النَّبيَّ (ص) خبرُهم، فبعث الطَّلب في آثارهم، فقبضوا عليهم، فأمر بهم، فسملوا أعينهـم، وقطعـوا أيديهم، وأرجلهم، وتُركوا في ناحية الحرَّة حتَّى ماتوا على حالهم. قال قتادة راوي الحديث: بلغنا: أنَّ النبي (ص) بعد ذلك كان يحثُّ على الصَّدقة، وينهى عن المُثْلَة. [البخاري (4192)].
وقال أبو قلابة في حديثه: «هؤلاء قومٌ سرقوا، وقتلوا، وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسولَه (ص)». قال الجمهور: إنَّ الآية ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [المائدة: 33]، قد نزلت في هؤلاء العُرنييِّن، وقيلت أسباب أخرى في نزولها.
وعلى كلِّ حالٍ فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، فهذا الحكم باقٍ حتَّى يومنا هذا، وأدلُّ دليلٍ على ذلك ما أجمع عليه المسلمون من وجود حكم الحرابة في الإسلام، سواء كانت الآية نزلت في الكفَّار، أم في المسلمين، وهذه الآية نازلةٌ في المشركين، كما في البخاريِّ، فدلَّ ذلك على أنَّ العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
وكون المُثْلَة منسوخةً، أو منهياً عنها، وأنَّ النَّبيَّ (ص) سمل أعين العُرنيِّين لا يستدلُّ بـه في هذه القضيَّة ؛ لكون العُرنيِّين سملوا أعين الرُّعـاة، فصار سمل النَّبيِّ (ص) لهم قصاصاً لا مُثْلَةً.
إنَّ حادثة العُرَنيِّين ترتَّب عليها تنفيذ حكم الحرابة، ونزول آيات بيناتٍ في هذا الحكم، فقد حصر المولى - عزَّ وجلَّ - جزاء المحاربين في أربعة أمورٍ، وكان ذلك الحصر بأقوى أدوات الحصر، ثمَّ إنَّه وصف هؤلاء المحاربين بأوصافٍ يشمئزُّ منها كلُّ عاقل، ذلك أنَّه وصفهم بأنهم حاربوا الله تعالى، ورسوله (ص) ، وأنَّهم يريدون إفساد الأرض بتخويف سكَّانها، وتقتيلهم، وسلبهم، ونهب ممتلكاتهم ظلماً، وجوراً لا مستند لهم، ولا باعث إلا الإفساد، والطُّغيان، فكانت رحمةُ الله تعالى الرَّحيم بهم وبغيرهم مِنْ خلقه مقتضيةً الحكم عليهم بواحدٍ من أمورٍ أربعةٍ، وهي: القتل، أو الصَّلب، أو قطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو الإبعاد عن مخالطة العامَّة وعزلهم عنها بالنَّفي والتَّغريب؛ حتَّى لا تتكرَّر منهم تلك الجرائم الشَّنيعة، وحتى يرتدع غيرُهم عن ارتكاب مثل هذا الجرم الشَّنيع، ولكي يطهِّرَهم ما يوقع بهم من عقابٍ من الذُّنوب، والاثام؛ إن هم تابوا، ورجعوا إلى رشدهم، وصوابهم.
ثمَّ إنَّ هؤلاء لهم ذِلَّـةٌ، ومهانةٌ في الحياة الدُّنيا لأذيَّتهم المسلمين، وقد علَّل تعالى لحوق تلك الرَّذيلة بهم مدَّة الحياة الدُّنيا بسبب ما اقترفوه من جريمة الحرابة، وباقيةٌ معهم إلى يوم القيامة؛ لكون الرَّب جلَّ وعلا أعدَّ لهؤلاء في الآخرة عذاباً عظيماً.
ثمَّ استثنى جلَّ وعلا من هؤلاء مَنْ أناب إليه، ورجع في أسلوبٍ حكيم مؤثِّرٍ داعٍ إلى رجوعهم، وتوبتهم من هذه الجريمة المنكرة، فلقد عفا عنهم تعالى إذا ما رجعوا وجاؤوا تائبين قبل القدرة عليهم؛ لكون تلك التَّوبة مظنَّةً لصدقهم في توبتهم، ورجوعهم عن غيِّهم؛ لأنَّهم رجعوا قبل القدرة عليهم.
وبتقييد العفو عنهم بتوبتهم قبل القدرة عليهم يفهم: أنَّهم إن قدر عليهم قبل التَّوبة؛ لا ينالون من العفو ما ينالونه لو تابوا قبل القدرة عليهم ، وهذا نوعٌ من العلاج في غاية الدقَّة ، والإنصاف ، وفيه من الحفز على التَّقليل من هذه الجريمة، وتركها ما لا يخفى على ذي عقلٍ لبيب.
وكذلك الشَّأن في جميع أساليب القرآن الكريم العلاجيَّة، كلُّها توافق الذَّوق السَّليم، والعقل الرَّاجح المتَّزن المتمتِّع بصفاء الفطرة السَّليمة.
ثمَّ ختم تعالى الايتين الكريمتين بأنَّه غفورٌ رحيمٌ لمن تاب منهم، وأصلح، فلا يقنط أحدٌ من رحمته الواسعة، ولا يحول بين العبد ورحمة ربِّه، ومغفرته عظيمُ ذنبه، وجسيم خطئه، ما لم يقارف شِرْكاً. وفي الجملة فقد عالجت الآيات القرآنيَّة الحرابة في المجتمع الإسلاميِّ علاجاً لا مزيد عليه، وذلك واضحٌ ممَّا يلي:
1 - وصف المحارِب بأنَّه محاربٌ لله تعالى، ولرسوله (ص) .
2 - عظم الجزاء المترتِّب على الحَرابة أيَّـاً كان هو.
3 - مكانتُه الدَّنيئة في الدُّنيا، والآخرة؛ إن لم يتب.
4 - يظهر علاج القرآن الكريم لهذه الجريمة الشَّنعاء بفتحه باب التَّوبة لمتعاطيها على مصراعيه؛ حتَّى لا يكون سدُّه في وجهه حافزاً له على التَّمادي في جرمه، والاستمرار في عتُوِّه.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [المائدة: 33 - 34].
وهكـذا كانت حركـة بنـاء المجتمـع، وإقامـة الدَّولـة متشابكـةً فـي قضاياهـا العسكريَّة، والسِّياسيَّة، والاجتماعيَّـة، والأخلاقيَّـة، والاقتصاديَّـة..

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022