الإثنين

1446-03-13

|

2024-9-16

الحلقة الثالثة والتسعون (93)

 (حديث الإفك) محاولة المنافقين الطَّعن في عِرْض النَّبيِّ (ﷺ)

حاك المنافقون في غزوة بني المصطلق حادثة الإفك، بعد أن فشل كيدُهم في المحاولة الأولى لآثارة النَّعرة الجاهليَّة، فقد ألمَّتْ بالبيت النَّبويِّ هذه النازلة الشَّديدة، والمحنة العظيمة الَّتي كان القصد منها النَّيل من النَّبيِّ (ﷺ) ومن أهل بيته الأطهار.

هذا وقد أجمع أهل المغازي والسِّير على أنَّ حادثة الإفك كانَت في أعقاب غزوة بني المصطلق، وتابعهم في ذلك المفسِّرون، والمحدِّثون. وقد أخرج البخاريُّ، ومسلمٌ حديث الإفك في صحيحيهما. [البخاري (4141)، ومسلم (2770)]، وهذا سياق القصَّة من صحيح البخاريِّ: قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله (ﷺ) إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه؛ فأيتهنَّ خرج سهمها، خرج بها رسول الله (ﷺ) معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله (ﷺ) بعدما نزل الحجاب فأنا أُحْمَلُ في هَوْدَجِي وأنزل فيه.

فسرنا حتَّى إذا فرغ رسول الله (ﷺ) من غزوته تلك، وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، اذن ليلةً بالرَّحيل، فقمت حين اذنوا بالرَّحيل، فمشيت حتَّى جاوزتُ الجيشَ، فلـمَّا قضيت شأني، أقبلت إلى رحلي، فإذا عِقْدٌ لي من جَزْعِ ظَفَارٍ قد انقطع، فالتمست عِقْدي، وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرَّهط الَّذين كانوا يُرحِّلوني، فاحتملوا هَوْدَجي، فَرَحَّلُوه على بعيري الَّذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أنِّي فيه، وكان النِّساء، إذ ذاك خفافاً لم يثقلهنَّ اللَّحم إنَّما نأكل العُلقة من الطَّعام، فلم يستنكر القوم خفَّة الهودج حين رفعوه، وكنت جاريةً حديثة السِّنِّ، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عِقْدي بعدما استمرَّ الجيش، فجئت منازلهم، وليس بها داعٍ، ولا مجيب فتيمَّمت منزلي الَّذي كنت فيه، وظننت: أنَّهم سيفقدوني، فيرجعون إليَّ، فبينما أنا جالسةٌ في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطَّل السُّلمي ثم الذَّكوانيّ من وراء الجيش، فادَّلج، فأصبح ند منزلي، فرأى سواد إنسان نائمٍ، فأتاني، فعرفني حين راني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعـه حين عرفني فخمَّرتُ وجهـي بجلبابي، وواللهِ ما كلَّمني كلمـةً، ولا سمعت منه كلمةً غير استرجاعه، وهوى حتَّى أناخ راحلته، فوطئ على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الرَّاحلة حتَّى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين، في نحر الظَّهيرة وهم نزول قالت: فهلك مَنْ هلك، وكان الَّذي تولى كِبْرَ الإفك عبد الله بن أبيِّ بن سلول.

1 - انتشار الدِّعاية بالمدينة:

وقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهراً والنَّاس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله (ﷺ) اللُّطف الَّذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنَّما يدخل عليَّ رسول الله (ﷺ) فيسلِّم، ثمَّ يقول: «كيف تِيكُمْ» ثمَّ ينصرف، فذلك الَّذي يريبني، ولا أشعر بالشَّرِّ، حتَّى خرجتُ بعدما نَقِهْتُ، فَخَرَجَتْ معي أمُّ مِسْطَحٍ قِبَلَ المناصِع وهو متبرَّزنا، وكنَّا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليلٍ، وذلك قبل أن نتَّخذ الكُنُف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأوَل في التَّبَرُّز قِبَل الغائط، فكنَّا نتأذَّى بالكُنُفِ أن نتَّخذها عنـد بيوتنـا، فانطلقت أنا، وأمُّ مِسْطَح، وهي ابنة أبي رُهم بن عبد منافٍ، وأمُّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصِّدِّيق، وابنُها مسْطَحُ بنأُثاثة، فأقبلت أنا، وأم مِسْطَحٍ قِبَل بيتي حين فرغنا مِنْ شأننا، فعثرت أم مِسْطَح في مِرْطهافقالت: تَعِسَ مِسْطَح، فقلت لها: بئس ما قلت! أتسبِّين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هَنَتَاه! أولم تسمعي ما قال؟! قلت: وما قال؟ فأخبرتني بخبر أهل الإفك، فازدَدْت مرضاً على مرضي، قالت: فلـمَّا رجعت إلى بيتي، ودخل عليَّ رسولُ الله (ﷺ) - تعني: فسلَّم - ثمَّ قال: «كيف تِيكُم؟» فقلت له: أتأذن لي أن اتي أبويَّ؟ قالت: وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر مِنْ قِبَلِهما، قالت: فأذن لي رسول الله (ﷺ) ، فجئت أبويَّ ، فقلت لأمِّي: يا أمتاه ! ما يتحدَّث النَّاس؟ قالت: يا بنيَّة ! هوِّني عليك، فوالله! لقلَّما كانت امرأة قطُّ وضيئةٌ عند رجلٍ يحبُّها، ولها ضرائر إلاَّ أكثرن عليها.

قالت: فقلت: سبحان الله! لقد تحدث النَّاس بهذا؟! فبكيت تلك اللَّيلة حتَّى أصبحت لا يرقأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنومٍ حتَّى أصبحت أبكي.

2 - استشارة رسول الله (ﷺ) بعض أصحابه عند تأخَّر نزول الوحي:

ودعا الرسول (ﷺ) عليَّ بن أبي طالبٍ، وأسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما حين استلبث الوحي، يستأمرهما في فراق أهله، قالت: فأمَّا أسامة؛ فأشار على رسول الله بالَّذي يعلم من براءة أهله، وبالَّذي يعلم لهم من الودِّ، فقال: يا رسول الله! أهلُك، وما نعلم إلا خيراً، وأمَّا عليُّ بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله! لم يضيِّق الله عليك، والنِّساء سواها كثيرٌ، وإن تسأل الجارية؛ تصدقك.

قالت: فدعا رسول الله (ﷺ) بريرة، فقال: «أي بريرة! هل رأيت من شيءٍ يريبك؟» قالت بريرة: لا والَّذي بعثك بالحقِّ إنْ رأيت عليها أمراً أغمصُه عليها أكثر من أنَّها جاريةٌ حديثة السِّنِّ، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدَّاجن فتأكله، فقام رسول الله (ﷺ) فاستعذر يومئذٍ من عبد الله بن أبيِّ بن سلول، قالت: فقال رسول الله (ﷺ) وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين! من يَعْذِرني من رجلٍ قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله! ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي». فقام سعد بن معاذٍ الأنصاريُّ، فقال: يا رسول الله! أنا أعذرك منه إن كان من الأوس؛ ضربتُ عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج؛ أمرتنا ففعلنا أمرك.

3 - آثار فتنة الإفك:

قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيِّد الخزرج - وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحميَّة - فقال لسعد: كذبت لَعَمْرُ الله! لا تقتُله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يُقتل، فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عمِّ سعدٍ، فقال لسعد بن عبادة: لنقتلنَّه فإنَّك منافقٌ تجادل عن المنافقين، فثار الحيَّان: الأوسُ، والخزرج؛ حتَّى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله (ﷺ) قائمٌ على المنبر، فلم يزل رسول الله (ﷺ) يُخَفِّضُهم حتَّى سكتوا، وسكت.

قالت: فمكثت يومي لا يرقـأ لي دمعٌ، ولا أكتحل بنـومٍ، قالت: وأصبح أبواي عندي، وقد بكيت ليلتين، ويوماً، لا أكتحل بنومٍ، ولا يرقأ لي دمعٌ يظنَّان أنَّ البكاء فالق كبدي، قالت: فبينا هما جالسان عنـدي وأنا أبكي، فاستأذنتْ عليَّ امرأةٌ من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله (ﷺ) فسلَّم، ثمَّ جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ ما قيل قبلها.

4 - مفاتحة الرَّسول (ﷺ) لعائشة، وجوابها له:

وقد لبـث الوحي شهـراً لا يوحى إليـه في شـأني بشيءٍ، قالت: فتشهَّد رسول الله (ﷺ) حين جلس، ثمَّ قال: «أمَّا بعد: يا عائشة! فإنَّه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئةً فسيبرِّئك الله، وإن كنت ألممتِ بذنبٍ؛ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنَّ العبد إذا اعترف بذنبه، ثمَّ تاب إلى الله، تاب الله عليه» فلـمَّا قضى رسول الله (ﷺ) مقالته؛ قلص دمعي؛ حتَّى ما أحسُّ منه قطرةً، فقلت لأبي: أجب رسول الله (ﷺ) عنِّي فيما قال، قال: والله! ما أدري ما أقول لرسول الله (ﷺ) ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله (ﷺ) ، قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله (ﷺ) .

قالت: فقلت وأنا جاريةٌ حديثة السِّنِّ لا أقرأ كثيراً من القرآن: إنِّي والله! لقد علمتُ، لقد سمعتم هذا الحديث حتَّى استقرَّ في أنفسكم، وصدَّقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أنِّي بريئةٌ؛ لا تصدِّقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ، والله يعلم أنِّي منه بريئةٌ لتصدقُنِّي، والله! ما أجد لي، ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18] قالت: ثمَّ تحولت، فاضطجعت على فراشي، قالت: وأنا حينئذ أعلم أنِّي بريئةٌ، وأنَّ الله مبرِّئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظنُّ أنَّ الله منزلٌ في شأني وحياً يُتلى، وَلَشَأْنِي في نفسي كان أحقر من أن يتكلَّم الله فيَّ بأمرٍ يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله (ﷺ) في النَّوم رؤيا يبرِّئني الله بها.

5 - نزول الوحي ببراءة عائشة:

قالت: فوالله! ما رام رسول الله (ﷺ) ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتَّى أنزل عليـه، فأخذه ما كان يأخـذه من البُرَحاءِ حتَّى إنَّـه ليتحدَّر منـه العرق مثـل الجمان، وهو يومٌ شاتٍ من ثقل القول الَّذي ينزل عليه.

قالت: فلـمَّا سُرِّي عن رسول الله (ﷺ) ، وهو يضحك، فكانت أوَّل كلمةٍ تكلَّم بها: يا عائشة! أمَّا الله - عزَّ وجلَّ - فقد برَّأك، فقالت أمِّي: قومي إليه، قالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله - عزَّ وجلَّ -.

وأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 11 - 20].

6 - موقف أبي بكر الصِّديق ممَّن تكلَّم في عائشة رضي الله عنها:

فلـمَّا أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أُثاثة لقرابته منه، وفقره: والله! لا أنفق على مسطح شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 22 - 23].

قال أبو بكر: بلى والله! إنِّي أحبُّ أن يغفر الله لي، فأَرْجَعَ إلى مسطح النَّفقة الَّتي كان ينفق عليه، وقال: والله! لا أنزعها منه أبداً.

قالت عائشة: وكان رسول الله (ﷺ) يسأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: «يا زينب! ماذا علمت، أو رأيت؟» فقالت: يا رسول الله! أحمي سمعي، وبصري، وما علمت إلا خيراً، قالت: وهي الَّتي كانت تساميني من أزواج رسول الله (ﷺ) ، فعصهما الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت ممَّن هلك من أصحاب الإفك. [سبق تخريجه].

كانت قصَّة الإفك حلقةً من سلسلة فنون الإيذاء، والمحن الَّتي لقيها رسول الله (ﷺ) من أعداء الدِّين، وكان من لطف الله تعالى بنبيِّه وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها، وبطلانها، وقد سجَّل التَّاريخ برواياتٍ صحيحةٍ مواقف المؤمنين من هذه الفرية، لاسيما موقف أبي أيوبٍ، وأم أيوبٍ، وهي مواقف يتأسَّى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفِرْية، فقد انقطع الوحي، وبقيت الدُّروس، لتكون عبرةً، وعظةً للأجيال إلى أن يرث الله الأرض، ومن عليها.

- أهمُّ الاداب والأحكام الَّتي تؤخذ من آيات الإفك:

أخذ العلماء من الآيات الَّتي نزلت في حادثة الإفك أحكاماً، وآداباً، من أهمِّها ما يأتي:

1 - تبرئـة السَّيدة عائشة رضي الله عنها من الإفك بقرآن يُتْلَى إلى آخر الزَّمان، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.[النور: 11]

2 - أنَّ حكمة الله - تعالى - اقتضت أن يبزغ الخير من ثنايا الشَّرِّ، فقد كان ابتلاء أسرة أبي بكرٍ الصِّدِّيق رضي الله عنه بحديث الإفك خيراً لهم، حيث كُتِب لهم الأجر العظيم على صبرهم، وقوَّة إيمانهم، قال تعالى: ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.[النور: 11]

3 - الحرص على سمعة المؤمنين، وعلى حسن الظَّنِّ فيما بينهم، قال تعالى: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾.[النور: 12]

4 - تكذيب القائلين بالإفك، قال تعالى: ﴿لَوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾[النور: 13]

5 - بيان فضل الله على المؤمنين، ورأفته بهم: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾[النور: 14]

6 - وجوب التَّثبُّت من الأقوال قبل نشرها، والتَّأكُّد من صحَّتها، قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: 16]

7 - النَّهي عن اقتراف مثل هذا الذَّنب العظيم، أو العودة إليه، قال تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[النور: 17 18]

8 - النهي عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[النور: 19]

9 - بيان فضل الله - سبحانه - على عباده المؤمنين، ورأفته بهم، وكرَّر ذلك تأكيداً له، قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾[النور: 20]

10 - النَّهي عن تتبُّع خطوات الشَّيطان الَّتي تؤدِّي للهلاك قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21]

11 - الحثُّ على النَّفقة على الأقارب وإن أساؤوا قال تعالى: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾[النور: 22]

12 - غيرة الله - تعالى - على عباده المؤمنين الصَّادقين، ودفاعه عنهم، وتهديده لمن يرميهم بالفحشاء باللَّعن في الدُّنيا، والآخرة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *  يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *  يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾[النور: 23-25] قال صاحب الكشَّاف عند تفسيره لهذه الآيات: ولو فلَّيت القرآن كلَّه، وفتَّشت عمَّا أوعد به العُصاة؛ لم ترَ الله تعالى قد غلَّظ في شيءٍ تغليظَه في إفك عائشة رضوانُ الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشَّديد، والعتاب البليغ، والزَّجر العنيف، واستعظام ما ارتُكِبَ من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرقٍ مختلفةٍ، وأساليب مفتنةٍ، كلُّ واحد منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الآيات الثَّلاث لكفى بها؛ حيث جعل القَذَفَة ملعونين في الدَّارين جميعاً، وتوعَّدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأنَّ ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا، وبهتوا، وأنَّه يوفِّيهم جزاءهم الحقَّ الواجب الَّذي هم أهلُه.

13 - بيان سنَّةٍ من سنن الله الجارية في الكون، وهي أنَّ الطَّيبين يجعلهم الله من نصيب الطَّيبات، والطَّيبات يجعلهنَّ من نصيب الطَّيبين. قال تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: 26]

14 - والنَّاس عندما رُمِيَت الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق بالإفك كانوا على أربعة أقسام:

قال فضيلة الشَّيخ عبد القادر شيبة الحمد - عند تعليقه على حديثٍ يتعلَّق بقصَّة الإفك -: إنَّ النَّاس عندما رُمِيَتِ الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق بالإفك كانوا أربعة أقسام: قسمٌ - وهو أكثر النَّاس - حموا أسماعهم، وألسنتهم، فسكتوا، ولم ينطقوا إلا بخيرٍ ولم يصدِّقوا، ولم يكذِّبوا. وقسمٌ سارع إلى التَّكذيب، وهم: أبو أيوبٍ الأنصاريُّ، وأم أيوبٍ رضي الله عنهما، فقد وصفوه عند سماعه بأنَّه إفك، وبرَّؤوا عائشة ممَّا نسب إليها في الحال. أمَّا القسم الثالث؛ فكانوا جملةً من المسلمين، لم يصدِّقوا، ولم يكذِّبوا، ولم ينفوا، ولكنَّهم يتحدَّثون بما يقول أهل الإفك، وهم يحسبون: أنَّ الكلام بذلك أمرٌ هيِّنٌ لا يُعرِّضهم لعقوبة الله؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافرٍ، وحاكي الإفك ليس بقاذفٍ، ومن هؤلاء: حمنة بنت جحش، وحسَّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أمَّا القسم الرَّابع فهم الذين جاؤوا بالإفك، وعلى رأس هؤلاء عدوُّ الله عبد الله ابن أُبَيِّ بن سلول، رأسُ المنافقين، لعنه الله، وهو الَّذي تولَّى كبره.

وقد أشار الله - عزَّ وجلَّ - إلى فضل القسم الثاني من هذه الأقسام، وأنَّه كان ينبغي لجميع المسلمين أن يقفوا هذا الموقف، فقال: ﴿لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾[النور: 12]

أمَّا القسم الثَّالث؛ فقد أشار الله - عزَّ وجلَّ - إلى أنَّه ما كان ينبغي لهم أن يتحدَّثوا بمثل هذا الحديث، حيث يقول: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾[النور: 16].

وقد أثبت الله عزَّ وجلَّ لأهل هذا القسم فضائلهم الَّتي عملوها، حيث أثبت لمسطح هجرته، وإيمانه عندما حلف أبو بكر: أنه لن ينفق على مسطح ولن يتصدَّق عليه، وهو من ذوي قرابته، فقال عزَّ وجلَّ : ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: 22].

أمَّا القسم الرَّابع وهو جماعة عبد الله بن أُبَيٍّ الَّذين جاؤوا بالإفك واخترعوا هذا الكذب؛ فقد أشار الله إلى موتهم على الكفر، وأنَّه لن يقبل منهم توبةً، وأنَّه أنزل عليهم لعنته في الدُّنيا، والآخرة؛ حيث قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾[النور: 23-25].

- فوائد، وأحكامٌ، ودروسٌ من حادثة الإفك، وغزوة بني المصطلق:

1 - بشريَّة الرَّسول (ﷺ) :

جاءت محنة الإفك منطويةً على حكمةٍ إلهيَّةٍ استهدفت إبراز شخصيَّة النَّبيِّ (ﷺ) ، وإظهارها صافيةً مميَّزةً عن كلِّ ما قد يلتبس بها، فلو كان الوحي أمراً ذاتيّاً غير منفصلٍ عن شخصيَّة الرَّسول (ﷺ) ؛ لما عاش الرَّسول (ﷺ) تلك المحنة بكلِّ أبعادها شهراً كاملاً، ولكن الحقيقة الَّتي تجلَّت للنَّاس بهذه المحنة أن ظهرت بشرية الرَّسول (ﷺ) ونبوَّته، فعندما حسم الوحي اللَّغط الَّذي دار حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ عادت المياه إلى مجاريها بينها وبين الرَّسول (ﷺ) ، وفرح الجميع بهذه النَّتيجة بعد تلك المعاناة القاسية، فدلَّ ذلك على حقيقة الوحي، وأنَّ الأمر لو لم يكن من عند الله تعالى؛ لبقيت رواسب المحنة في نفس رسول الله (ﷺ) بصفةٍ خاصَّةٍ، ولانعكس ذلك على تصرُّفاته مع زوجته عائشة رضي الله عنها، وهكذا شاء الله أن تكون هذه المحنة دليلاً كبيراً على نبوَّة محمَّدٍ (ﷺ)  .

2 - حدُّ القذف، وأهمِّيته في المحافظة على أعراض المسلمين:

كان المجتمع الإسلاميُّ يتربَّى من خلال الأحداث، فعندما وقعت حادثة الإفك أراد المولى - عزَّ وجلَّ - أن يشرِّع بعض الأحكام الَّتي تسهم في المحافظة على أعراض المؤمنين، ولذلك نزلت سورة النُّور، الَّتي تحدَّثت عن حكم الزَّاني والزَّانية، وعن قبح فاحشة الزِّنى، وعمَّا يجب على الحاكم أن يفعله إذا ما رمى أحد الزَّوجين صاحبه، وعن العقوبة الَّتي أوجبها الله على الَّذين يرمون المحصنات، ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء، إلى غير ذلك من الأحكام.

إنَّ الإسلام حرم الزِّنى، وأوجب العقوبة على فاعله، وقد حرَّم أيضاً كل الأسباب المسبِّبة له، وكلَّ الطُّرق الموصلة إليه؛ ومنها إشاعة الفاحشة، والقذف بها؛ لتنزيه المجتمع من أن تسري فيه ألفاظ الفاحشة، والحديث عنها؛ لأنَّ كثرة الحديث عن فاحشة الزِّنى وسهولة قولها في كلِّ وقتٍ يهون أمرها لدى سامعيها، ويجرِّئ ضعفاء النُّفوس على ارتكابها، لهذا حرَّمت الشَّريعة الإسلاميَّة القذف بالزِّنى، وأوجبت على من قذف عفيفاً، أو عفيفةً، طاهراً، أو طاهرةً، بريئاً، أو بريئةً من الزِّنى، حدَّ القذف، وهو الجلد ثمانون جلدةً، وعدم قبول شهادته إلا بعد توبته توبةً صادقةً نصوحاً.

هذا وقد أقام رسول الله (ﷺ) حدَّ القذف على مِسْطحٍ، وحسَّانَ، وحمنةَ، وروى محمَّد بن إسحاق، وغيره: أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) جلد في الإفك رجلين، وامرأة: مسطحاً، وحسَّاناً، وحمنة. وذكره التِّرمذيُّ. [الترمذي (3181)، ولم يُصرِّح بذكر الأسماء، وقد صرَّح بها أبو داود (4475)].

قال القرطبيُّ: والمشهور من الأخبار، والمعروف عند العلماء: أن الَّذي حُدَّ حسانُ، ومسطحٌ، وحمنةُ، ولم يُسْمَع بحدٍّ لعبد الله بن أُبَيٍّ، وقد وردت آثار ضعيفةٌ تدل على أنَّ عبد الله بن أُبَيٍّ أقيم عليه الحدُّ، ولكنَّها كلَّها ضعيفةٌ لا تقوم بها حجَّة.

وقد ذكر ابن القيِّم وجه الحكمة في عدم حدِّ عبد الله بن أبيٍّ، فقال:

أ - قيل: لأنَّ الحدود تخفيفٌ عن أهلها، وكفارةٌ، والخبيث ليس أهلاً لذلك، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، ويكفيه عن الحدِّ.

ب - وقيل: كان يستوشي الحديث، ويجمعه، ويحكيه، ويخرجه في قوالب من لا ينسب إليه.

جـ  وقيل: الحدُّ لا يثبت إلا ببيِّنةٍ، أو إقرارٍ، وهو لم يقرَّ بالقذف، ولا شهد به عليه أحدٌ، فإنَّه كان يذكره بين أصحابه، ولم يشهدوا عليه، ولم يكن يذكره بين المؤمنين.

د - وقيل: بل ترك حدَّه لمصلحةٍ هي أعظم من إقامته عليه، كما ترك قتله مع ظهور نفاقه، وتكلُّمه بما يوجب قتله مراراً، وهي تأليف قومه، وعدم تنفيرهم من الإسلام.

ثمَّ قال - في ختام كلامه -: ولعلَّه ترك لهذه الوجوه كلِّها.

3 - اعتذار حسان رضي الله عنه للسيدة عائشة رضي الله عنها:

قد بيَّنت الرِّوايات: أنَّ من خاض في الإفك قد تاب - ما عدا ابن أبيٍّ - وقد اعتذر حسَّان رضي الله عنه عمَّا كان منه، وقال يمدح عائشة رضي الله عنها بما هي أهلٌ له:

 

رَأيتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللهُ حُرَّةً

 

مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرَ ذَاتِ غَوَائِلِ

 

 

حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنُّ بِرِيْبَةٍ

 

وَتُصْبِحَ غَرْثَى مِنْ لُحُوْمِ الغَوَافِلِ

 

 

وَإِنّ الَّذي قَدْ قِيْلَ لَيْسَ بِلاَئِقٍ

 

بِكِ الدَّهْرَ بَـلْ قَـوْلُ امْرِئ مُتَناحِلِ

 

 

فَإنْ كُنْتُ أَهْجُوكُمْ كَمَا بلَّغُوكُمُ

 

فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنَامِلِي

 

 

فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيْتُ وَنُصْرَتِي

 

لالِ رَسُوْلِ اللهِ زَيْنُ المَحَافِلِ

 

 

وَإِنَّ لَهُمْ عِزّاً يَرَى النَّاسُ دُوْنَهُ

 

قِصَاراً، وَطَالَ العِزُّ كلَّ التَّطاوُلِ
 

 

4 - من الأحكام المستنبطة في غزوة بني المصطلق:

جواز الإغارة على مَنْ بلغتهم دعوة الإسلام دون إنذارٍ. ومنها: صحَّة جعل العتق صداقاً، كما فعل (ﷺ) مع جويرية بنت الحارث في هذه الغزوة. ومنها: مشروعية القرعة بين النِّساء عند إرادة السَّفر ببعضهن. ومنها: جواز استرقاق العرب، كما حدث في الغزوة، وهو قول جمهور العلماء.

وقد أجمع العلماء قاطبةً على أنَّ من سبَّ عائشة رضي الله عنها بعد براءتها براءةً قطعيَّة بنصِّ القرآن، ورماها بما اتُّهمت به؛ فإنه كافرٌ ؛ لأنه معاندٌ للقرآن، ومن الأحكام الَّتي عرفت في هذه الغزوة حكم العزل عن النِّساء، حيث سأل الصَّحابة الرَّسول (ﷺ) عنه، فأذن به، وقال: «ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا وهي كائنةٌ» [البخاري (5210)، ومسلم (1438/125)، وأحمد (3/68 و72). فذهب الجمهور إلى جواز العزل عن الزَّوجة الحرَّة بإذنها، ونزلت آية التَّيمُّم في هذه الغزوة؛ تنويهاً بشأن الصَّلاة، وتنبيهاً على عظيم شأنها، وأنَّه لا يحول دون أدائها فقدُ الماء، وهو وسيلةُ الطَّهارة الَّتي هي أعظم شروطها، كما لا يحول الخوف، وفقدُ الأمن من إقامتها .

 

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

                        على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC-169.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022