الأحد

1446-06-28

|

2024-12-29

معجزات عيسى ابن مريم عليه السلام (1)

الحلقة: الثالثة و الأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ أبريل 2020م

شاء الله الحكيم أن يجعل عيسى -عليه السلام -آية، ولذلك جعل معجزاته عديدة في حياته، فقد كان حمل أمه به من غير زوج آية، وإنزال عيسى -عليه السلام -من بطن أمه متكلماً آية، وإنطاق عيسى أمام أهلها، وفقدان نفسه إليهم آية، وهذه آيات ومعجزات رافقت خلقه وميلاده وطفولته.
ولما صار شاباً وبعثه الله نبياً ورسولاً، قدم الله له عدداً من الآيات والمعجزات لبني إسرائيل، أقام عليهم فيها الحجَّة، وكذلك لما صمّم اليهود على صلبه وقتله، حماه الله منهم، ورفعه إلى السماء، وجعل هذا آية، وهو الآن حيٌّ في السماء بروحه وبدنه، حياة غيبية لا نعرف كيفيتها، وجعل الله هذه آية، وسينزله الله في آخر الزمان إلى الأرض، فسيكون إنزاله آية.
وهكذا صاحبت الآيات والمعجزات عيسى - عليه السلام - منذ خلقه إلى موته قبل قيام الساعة، ولهذا قال الله عنه وعن أمّه ﴿ وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ (الأنبياء:91).
حيث نصَّ على أنّه جعلها آية للعالمين، والعالمون هنا هم الناس أجمعون، جعلها الله آية من آياته الدالَّة على وحدانيَّته وقدرته وحكمته، واللطيف هو التعبير القرآنيّ أنه عبّر عن الاثنين عيسى وأمّه بالمفرد، وذلك في قوله (وجعلناها وابنها آية للعالمين).
وحكمة الإفراد (آية(أنهما متلازمان لا ينفصلان، فلا يذكر عيسى عليه السلام إلا تُذكر أمّه معه، ولا تذكر مريم رضي الله عنها إلا بذكر ابنها معها، فهما )آية( معاً.
وإن الآيات التي جعلها الله في مريم هي تمهيدٌ لآيات عيسى عليه السلام، فقصة مريم هي قصة عيسى باعتبارها أمُّه، فالمقصود من الآيات هو عيسى، ولذلك عبّر بالمفرد )آية(. وعيسى هو الآية، وأمه جزء منه، وآيتها هي آيته، ويهمُّنا في هذا الموضوع الحديث عن آيات عيسى عليه السلام، التي قدمها لبني إسرائيل، فهو رسول بعثه الله إليهم، وجعل الله معه آيات معجزات دالّة على صدقه ونبوَّته.
هذا وقد أيَّد الله عيسى -عليه السلام -بالروح القدس، وهو جبريل عليه السلام، قال تعالى:﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾(البقرة:253).
وامتنَّ الله عليه بتأييده بروح القدس، قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ﴾ (المائدة: 110).
وأُطلق على جبريل روح القدس؛ لأن أساس معنى الروح هو ماء به حياة الإنسان سواء كانت حقيقة أو معنوية، فالروح الحقيقية هي التي يجعلها الله في الإنسان، وهي سرٌّ من أسراره سبحانه، لا يعلم حقيقتها أحد من خلقه، وهي أساس حياة الإنسان، فإن خرجت الروح منه مات.
والروح المعنوية هي التي بها حياة القلوب والنفوس والأرواح، وبهذا الاعتبار أطلق على جبريل كما أطلق على القرآن في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (الشورى:52)، وأضاف الروح إلى القدس في قوله (وأيدناه بروح القدس) أي جبريل، أي: هو الطاهر المطهر المبارك.
وقد خلق الله تعالى: جبريل عليه السلام من طهارة محضة، فهو ملك خلقه الله من النور، وقيل: سمي بذلك من حيث أنه ينزل من الله بالقدس، أي: بما يطهِّر به نفوس عباده من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.
و(روح القدس) -جبريل عليه السلام-ليس خاصّاً بعيسى ابن مريم عليه السلام، فقد ورد في القرآن الكريم في سياق إنزال كتاب الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل:101-102)، والشاهد في الآية الثانية (قد نزله روح القدس من ربك)أي: نزَّل عليك القرآن من ربك بواسطة جبريل وهو روح القدس.
والخلاصة: أن الله تعالى آتى عيسى عليه السلام الآيات والمعجزات البينات، وأيَّده بجبريل تأييداً (وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس).
وهذا معناه أن الله كان ينزل عليه روح القدس جبريل وهو يقوم بالدعوة ويواجه بني إسرائيل، وكان جبريل عليه السلام يؤيده ويقوِّيه ويشجعه، وليس هذا خاصَّاً بعيسى عليه السلام، فكل أنبياء الله ورسله أيدهم الله وقوّاهم ونصرهم بروح القدس جبريل عليه السلام، وكان لرسولنا صلى الله عليه وسلم نصيب كبيرٌ من تأييده به، حيث كان ينزل عليه معلماً موجهاً، وفي المعارك مع الكفار كان ينزل يقود الملائكة مدداً مساعداً معيناً، بأمر الله، كما حصل في بدرٍ وأُحد والأحزاب.
هذا وقد تحدث العلماء -حديثاً وقديماً -عن معجزات عيسى عليه السلام، التي أعطاها الله تعالى: له شهادة له على نبوته ورسالته، وعبوديته لله عز وجل منها:
1. ميلاده من أمٍّ بلا أب:
يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران:59).
وقال تعالى أيضاً: ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ (مريم:21).
2. تأييده بروح القدس:
روح القدس هو جبريل عليه السلام، ونطقه ببيان دقيق وهو لم يزل في المهد: ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾ (مريم:30-33).
3. تعليمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل:
بعد فقدان جميع الكتب السماوية السابقة، وفي مقدمتها )التوراة( و )الزبور( التي كان غلاة اليهود قد قاموا بتحريفها بعد ضياع أصولها، كما كانوا قد أجرَوا العديد من الحذف والإضافة لما كان قد بقي عندهم من ذكريات عن هاتين الرسالتين.
4. إبراء الأكمه والأبرص:
الأكمه هو الذي ولد أعمى، أي: لم يطرأ عليه العمى بعد ولادته، فالعمى نوعان: عمى أصليّ، وعمى عرضيّ، فالعمى العرضي يمكن علاجه، حيث إن العمى قد طرأ على المبصر لعلّة، فربما إذا زالت عاد البصر كما كان، وأما العمى الأصلي وهو الأكمه فصاحبه من المستحيل علاجه في عالم الأسباب، ومن هنا صار الإعجاز أيضاً، فلو أن القوم استطاعوا علاج رجل أعمى أصابه العمى بعد أبصارٍ فإنهم لو اجتمعوا لا يستطيعون علاج رجل أكمه وولد أعمى بلا عينين ليجعلوه مبصراً. وكذلك البرص، وهو بياض يظهر في الجلد في بقع متناثرة في الجسد، وهو مرض صعب لم يكن باستطاعتهم علاجه، ولكن عيسى عليه السلام -بإذن الله -يستطيع شفاء هذا الأبرص من مرضه، ويعود إليه.
كانت هذه المعجزة في زمن اشتهر فيه الطب وتقدم، فكان من معجزات عيسى عليه السلام هذه المعجزة (إبراء الأكمه والأبرص) معجزة فيما لم يقدر عليه البشر حتى الآن، وكأي معجزة من معجزات الأنبياء، تبقى هذه المعجزة خالدة أبد الدهر، لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، وحتى لو قدِّر للبشر معالجة الأكمه الذي ولد أعمى ولم يصب بداء فقدان بصره بأدية يخترعونها، فلن يستطيعوا علاجه بمسحة من اليد على عينيه، فيقوم من لحظته مبصراً، وحتى لو قدِّر للبشر معالجة الأبرص الذي ابيضَّ جلده بأدوية يخترعونها، فلن يستطيعوا أن يعالجوه بمسحةٍ من اليد على جلده، فيقوم من لحظته مشافى معافى، وكان هاتين المعجزتين موجهتان إلى أكثر الأمم نجاحاً في الطب، وهي الأمة التي كان فيها أكثر أتباعه.
قال الله تعالى: ﴿ في كتابه العزيز وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ ﴾ (آل عمران:49). وقال تعالى: ﴿ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ﴾ (المائدة:110) .
فقد كان عيسى -عليه السلام -يمسح بيده على الأكمه، وهو الذي لم ير النور منذ ولادته، فيُعيد الله له بصره، ويزول عنه عماه، ويكون مبصراً قويّ البصر، وإبراء عيسى عليه السلام للأكمه والأبرص بإذن الله، دليل على نبوته، لأن الكمه والبرص لا علاج لهما من قبل الأطباء، لأنه لا يقدر طبيب على علاجهما، فكان علاج عيسى لهذين المرضين، وإبراء المريضين بدون علاج، وهو غير طبيب، دليلٌ على أنه رسول الله، وأن الله أيده بهذه الآية والمعجزة، أن الله هو الذي أبرأ وشفى على يدي عيسى عليه السلام.
5. إحياء الموتى بإذن الله:
- قال تعالى:﴿ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾(آل عمران:49). وقال تعالى:﴿ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾ (المائدة:11).
إنَّ إحياء عيسى -عليه السلام -الموتى هو بإذن الله جلت قدرته، والمحيي في الحقيقة هو الله العلي القدير، ولكن أجرى الإحياء على يد المسيح عليه السلام؛ ليكون ذلك برهان نبوته، ودليل رسالته.
وظاهر هذه الآية الباهرة أن عيسى عليه السلام كان يمرُّ بالموتى فيدعو الله أن يحييهم، فيستجيب الله دعاءه ويحييهم، فيخرجون من قبورهم أحياء.
إنَّ إحياء عيسى عليه السلام للموتى مظهر عمليّ لإرادة الله، فالله سبحانه هو الذي أحياهم في الحقيقة وهو المسبب والمقدّر والمريد، لأنه هو الذي يحيي ويميت، وما يفعله عيسى عليه السلام لإحيائهم هو سبب ظاهريّ الله هو الذي مكّنه من ذلك وأقدره عليه، وجعل الحياة تدبُّ في ذلك الميت على يديه، فلا نقف عند السبب وننسى إرادة المسبب سبحانه وتعالى.
وإنَّ إحياء الموتى آية بينة دالّة على نبوة عيسى -عليه السلام -؛ لأن البشر جميعاً لا يستطيعون إحياء ميت، فخروج الميت من قبره حيّاً بدعاء عيسى -عليه السلام -دليل على أن الله تعالى هو الذي أحياه وجعل حياته على يد عيسى -عليه السلام -ليكون ذلك آية بينة على أنه رسول من عند الله.
ومن لطائف تعبير القرآن الكريم عن آية إحياء عيسى للموتى أنه فيه نوع من التعاقب والمرحلية.
- في سورة آل عمران قال لبني إسرائيل: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ).
- في سورة المائدة قال الله ممتنّاً عليه: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي).
فهو أولاً أحياهم بإذن الله، فدبّت فيهم الحياة، وصاروا أحياء، وهذا ما تكفلت بالإشارة له آية سورة آل عمران.
وهو ثانياً أخرجهم من قبورهم أحياء، فبعد أن دبت فيهم الحياة دعاهم إلى الخروج من قبورهم، فخرجوا منها بإذن الله، وهذا ما تكفلت بالإشارة له آية سورة المائدة.
فلا تكرار في إخبار القرآن عن الحالة الواحدة أكثر من مرة، وإنما هو التنوع في العرض، وإفادة جديد في كل مرة جديدة، وسبحان من أنزل القرآن.
إنَّ زمن عيسى قد سادهم إنكار الروح في أقوال بعضهم، وأفعال جميعهم، فجاء عليه السلام بمعجزة هي في ذاتها أمر خارق للعادة، مصدق لما يأتي به الرسول وهي في الوقت ذاته إعلان صادق للروح، وبرهان قاطع على وجودها.
فهذا طين مصور على شكل طير، ثم ينفخ فيه فيكون حياً، ما ذاك إلا لأن شيئاً غير الجسم وبيس من جنسه فاض عليه، فكانت معه الحياة، وهذا ميت قد أكله البلى، وأخذت أشلاؤه في التحلل، وأوشكت أن تصر رميماً، أو صارت يناديه المسيح عليه السلام، فإذا هو حي يجيب نداء من ناداه، وما ذاك إلا لأن روحاً غير الجسم الذي غيره البلى حلت فيه بذلك النداء، ففاضت عليه الحياة، وهكذا.
لقد كانت معجزة عيسى عليه السلام من جنس دعايته، وتناسب أخص رسالته، وهو الدعوة إلى تربية الروح، والإيمان بالبعث والنشور، وأن هناك حياة أخرى يجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، إن خبرا فخبر، وإن شرا فشر. وهل ترى أن معجزة إحياء الموتى تسمح لمنكر الآخرة بالاستمرار في إنكاره أو تسمح لجاحد البعث والنشور أن يستمر في جحوده. وقد أسلفنا لك القول إن اليهود كان يسود تفكيرهم عدم الاعتراف بوجود الآخرة. وعدم الإيمان باليوم الآخر. إن لم يكن بالقول فبالعمل. فكان إحياء الموتى صوتاً قوياً يحملهم على الإيمان حملاً. ولكنهم كانوا بآيات الله يجحدون.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (303:296)
- حمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، المملكة العربية السعودية، الرياض، ط4، 1404ه ص20.
- عبد المجيد العرابلي، أحبك أيُّها المسيح، مطبعة أروى، الأردن، ط2، 1426ه، 2006م، ص 166.
- محمود صافي، الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه، دار الرشيد، بيروت، ط1، 1411ه، 1990م، 1/192.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022