عيسى (عليه السلام) والحواريون
الحلقة: الخامسة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ أبريل 2020م
وردت كلمة الحواريون في القرآن خمس مرات، وكلها وصف لأتباع عيسى عليه السلام المؤمنين به وكلها واردة بصيغة الجمع، وتعددت الأقوال في سبب تسمية أنصار عيسى عليه السلام بالحواريين: والحواريون أنصار عيسى عليه السلام: كانوا قصّارين وقيل صيادين، وقال بعض أهل العلم: إنما سمّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس، بإفادتهم الدين والعلم -وحرصهم على تربية النفوس وتزكيتها-، وقال بعض العلماء: إنما كانوا صيادين لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة وقيادتهم إلى الحق.
وأورد الإمام الطبري ثلاثة أقوال في سبب تسميتهم بالحواريين ورجَّحَ الأول منها: اختلف أهل التأويل في سبب تسميتهم (الحواريين):
- فقال بعضم: سُمّو بذلك لبياض ثيابهم.
- وقال آخرون: كانوا قصّارين يبيضون الثياب.
- قال آخرون: هم خاصة أتباع الأنبياء وصفوتهم والراجح هو القول الأول عند الطبري.
وأما الإمام ابن كثير فقد رجَّحَ أنهم سُمّوا حواريين لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام وأيّدوه ونصروه وبين أن الحواري هو الناصر.
والراجح ما رجحه ابن كثير ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب؟ فقال الزبير رضي الله عنه: أنا ثم قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكلّ نبيّ حواريًا وحواريّ الزبير.
فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم واحد من أصحابه لينظر ما يفعل المشركون يوم الأحزاب، فندبهم وخبرهم وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه هو الذي يقوم في المرات الثلاث، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الزبير في المرات الثلاثة بأن الله جعل لكل نبي حواريًا يؤيده وينصره، وإن حواريّه هو الزبير بن العوام رضي الله عنه، أي أن الزبير هو ناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومؤيده ومتابعه وليس معنى هذا قصر النصرة على الزبير وحده ونفيها عمن سواه من المهاجرين والأنصار، وإنما معناه أنه كان أبرز حواري وناصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة، وإلا فإن الصحابة كانوا جميعاً حواريّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه واتّبعوه وأيدوه، وكانوا أفضل من الحواريين أتباع عيسى عليه السلام.
إن هذا الحديث الصحيح يدل على أن (الحواريين) ليسوا خاصين بعيسى عليه السلام، وأن لقب (الحواريين) ليس مقصورًا عليهم.
إن (الحواريين) هم أتباع كل نبي وإن هذا اللقب يطلق على كل من أيّدوا نبيًا ونصروه، فأتباع موسى عليه السلام حواريون، وأتباع عيسى -عليه السلام -حواريون، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم حواريون وهكذا، والحديث صريح في هذا المعنى، وذلك في قوله: (إن لكلّ نبيّ حواريًا...).
وإذا كان أتباع وأنصار كل نبي حواريّين له، فإن هذا يدلنا على أن سبب تسمية أنصار عيسى عليه السلام حواريون، ليس لأنهم كانوا قصّارين أو صيادين، أو ذوي ملابس بيضاء وإنما لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام وأيدوه ونصروه.
أ- عيسى عليه السلام يدعو الحواريين لنصرته:
وقد دعا عيسى عليه السلام أتباعه الحواريين إلى نصرته لما رأى كفر معظم بني إسرائيل قال الله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنهُمُ ٱلكُفرَ قَالَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ * رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾(آل عمران: 52-53).
لقد أحسّ عيسى عليه السلام الكفر من بني إسرائيل وأصبح بارزًا وواضحًا وظاهر ولذلك أحسه عيسى عليه السلام ببدايته بعدما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها وتؤيد من جاءت على يده، ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف عندئذ دعا دعوته.
- (قَالَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ): من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ أي من الذين رضوا أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التخيير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:
- المعنى الأول: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ولذلك عبر بقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنهُمُ ٱلكُفرَ) فنسب الكفر إليهم وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلّة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى.
- المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودًا بالأذى وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون الحق منعة وقوّة من جهة ويكونون مدرسة الدعاية له والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
- المعنى الثالث: الذي يشير إليه النص هو أنّ النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله والاتجاه إليه وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلًا فهم بمعونة الله كثيرون:﴿ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (الحج:40).
- (قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ): الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام أخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده وكان الحواريون من خاصة عيسى عليه السلام وقد صفت نفوسهم وخلصت من أدران الدنيا، وأهوائها بفضل الله ثم صحبتهم لعيسى عليه السلام وقد أجاب الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء.
- (نَحنُ أَنصَارُ): وهم بذلك بيّنوا اهتداءهم لأمرين:
1) الأمر الأول: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله وأنه رسول أمين ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ولذا قالوا: (نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ) ولم يقولوا أنصارك.
2) الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى حتى خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى.
- (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ): فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام قالوا (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ) أي آمنا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وأنه خلق الأشياء وجود المعلول عن العلة والمسبب عن السبب، كما يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى وإخلاص نيتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم (وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
إنَّ الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم وقد خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته ملبيين نداءه معلنين نصرته.
وقد جهروا بإيمانهم بالله وطلبوا من نبيهم عيسى عليه السلام أن يشهد لهم أمام الله بأنهم مؤمنون مسلمون أنصار الله وقد طلبوا منه أن يشهد بأنهم يعلمون أن شهادته لهم عظيمة عند الله، ثقيلة في ميزان الله، لأن رسول الله الشاهد الشهيد عليهم وتصريحهم بأنهم مسلمون (وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ)؛ لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام ودخلوا في دينه وبذلك يكونون قد استسلموا وخضعوا لله، لأن الإسلام -في معناه العام- هو الخضوع المطلق لله واعتبارهم مسلمين دليل على أن كل نبي جاء بالإسلام وأن دين كل نبي هو الإسلام، وأن أتباع كل نبي مسلمون وهذه الآية صريحة بأن عيسى عليه السلام جاء بالإسلام وأن دينه هو الإسلام وأن أتباعه هم المسلمون فها هم الحواريون يصرّحون قائلين (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:
- (رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ): وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوى في ثناياه الاعتراف بالإلوهية الحق، لأن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل فقالوا (رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ)؛ أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم هداية بما أنزلت وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات، فالإيمان الصادق يقتضي العمل، لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم: (وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ) وهو عيسى عليه السلام واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنّته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربّهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوى الله سبحانه وتعالى إيمانه وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة، ولذا قالوا:
- (فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ) أي: إذا كنا قد امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين، ومن هم الشاهدون؟ هم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية الذي قال في أمثالهم محمد صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فهذه مرتبة من الإيمان والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان، وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأنقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأنقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحسَّ عيسى - عليه السلام - بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون معهم مدرسة الحق وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديًا مرشدًا باعثًا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكنهم جحدوا بالحق بعد أن ظهرت أماراته وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته ودعوة الحق التي يدعو بها ولما رؤوا أن نور الحق يزداد انتشارًا، قرروا أنه لا بدَّ أن يقطعوا حركته نهائيًا بتدبير الشر لشخصه، ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم ولذا قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها.
- (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ): أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ورآه عيانًا منهم بعد أن كوّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته والمكر كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به، ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل لله تعالى إلا خيرًا، فمكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن أن يكون خير، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا أن يكون خيرًا. وقد دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام والله دبر حمايته وقد تمَّ ما أراد الله تعالى ولذا قال تعالى: (وَٱللَّهُ خَيرُ ٱلمَٰكِرِينَ) والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار.
وفي قول الحواريين (فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ) دعاء من الأعماق أن يكتبهم الله مع الشاهدين لدينه، أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حياة لهذا الدين وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة وإقامته مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج ولو أدّوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من (الشهداء) على حق هذا الدين. وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقين.
لقد تحدثت الآيات الكريمة في القرآن الكريم عن أهم صفات الحواريين وهي:
- الإيمان بالله ورسوله.
- اعترفوا بالإسلام دينًا ورسالة إلى الناس.
- ثم أنهم كانوا مسلمين مستسلمين لله سبحانه مطيعين تعليماته مجيبين لنداءاته.
- ثم أنهم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يكون لهم شاهدًا عند الله يوم تشخص فيه الأبصار ويقوم الناس ليوم الحساب.
إن هذه الصفوة تتلمذت على يد السيد المسيح وعرفت منه أحكام التوراة التي نزلت على موسى وكذا تفاصيل ما جاء به الإنجيل كما انتهلوا منه عليه السلام التقوى والزهد والجهاد والصبر والعزم وانتشروا من بين الناس لنشر أحكام دين الله تعالى والتبليغ بشريعته الغراء.
إنَّ عيسى عليه السلام قد أعدّ هؤلاء النخبة ورعاهم بتربية خاصة ومحّصهم وهيأهم للمهمات الدعوية وجعلهم ذراعًا يتحرك بهم وعينًا تسهر على رسالة الله سبحانه ولسانًا يحاور ويجادل في سبيل الحق ويدًا يضرب بها أعداءه وإيمانا ورجالًا ربانيون يسيحون في الأرض ويتفقهون بحبل الله ومنهجه.
إنَّ بناء النخبة ضرورة رسالية وخاصّة عملية حركية وعدّة موضوعية لابد منها في كل زمان ومكان لقادة التغيير وأبطال الصراع من أجل المثل العليا، فهم نواة الحق وخميرة الهدى وعدّة أهل الإيمان، وهذا ما سبق أن اتّخذه موسى عليه السلام منهجًا من قبل عيسى، فقد كان الأصحاب في عهده، وكذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم فقد اتخذ الأنصار والأصحاب في عهده، ذلك أن الأبرار من النخب تعني المنتخبين من العامة وصفوتهم وعصارة المجتمع وأهل الرأي والتقوى والعزم والاجتهاد فيهم فضلًا عن الصلاح والاستقامة في كل المقاطع الدعوية وتمثل النخب ذراع القيادة الرسالية وأداتها الضاربة في عملية التغيير والتبليغ، وحلقاتها الموصولة مع الأمة والعامة ولذلك فإنها تشكل أداة فاعلة وعونًا أساسيًا لحملة مبادئ الحق في كافة المراحل ومختلف العصور.
إن من دواعي النجاح اعتمادُ هذا النهج قدوة، ونعني به الاقتداء بأنبياء الله ورسله واقتفاء بتجاربهم وتأسيًا بالقويم من الأساليب وكل أساليب رسل الله قويمة تهدي إلى الرشد وإلى صراط مستقيم.
ب- الاقتداء بالحواريين:
قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ لِلحَوَارِيِّنَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فََٔامَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسرَٰءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَة فَأَيَّدنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِم فَأَصبَحُواْ ظَٰهِرِينَ ﴾ (الصف:14).
والحواريون هم تلاميذ المسيح -عليه السلام-قيل: الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به، ويتقطعون للتلقي عنه وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه، والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضوع من سورة الصف.
- (يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ ٱللَّهِ): إن الله يدعو المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بالحواريين في موقفهم الإيماني العظيم ويطالبهم أن يكونوا أنصارًا له، ينصرون دينه، ويعاونون رسوله أن يفعلوا كما فعل الحواريون مع عيسى عليه السلام، قالوا (نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ).
- (فََٔامَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسرَٰءِيلَ): سبب دعوة عيسى والحواريون، (وَكَفَرَت طَّائِفَة) منهم فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين (فَأَيَّدنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِم)، أي قويناهم ونصرناهم عليهم (فَأَصبَحُواْ ظَٰهِرِينَ) عليهم وقاهرين لهم فأنتم يا أمة محمد كونوا أنصار الله ودعاة دينه ينصركم كما نصر من قبلكم ويظهركم على عدوكم.
الحلقة: الخامسة و الأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ أبريل 2020م
وردت كلمة الحواريون في القرآن خمس مرات، وكلها وصف لأتباع عيسى عليه السلام المؤمنين به وكلها واردة بصيغة الجمع، وتعددت الأقوال في سبب تسمية أنصار عيسى عليه السلام بالحواريين: والحواريون أنصار عيسى عليه السلام: كانوا قصّارين وقيل صيادين، وقال بعض أهل العلم: إنما سمّوا حواريين لأنهم كانوا يُطهرون نفوس الناس، بإفادتهم الدين والعلم -وحرصهم على تربية النفوس وتزكيتها-، وقال بعض العلماء: إنما كانوا صيادين لاصطيادهم نفوس الناس من الحيرة وقيادتهم إلى الحق.
وأورد الإمام الطبري ثلاثة أقوال في سبب تسميتهم بالحواريين ورجَّحَ الأول منها: اختلف أهل التأويل في سبب تسميتهم (الحواريين):
- فقال بعضم: سُمّو بذلك لبياض ثيابهم.
- وقال آخرون: كانوا قصّارين يبيضون الثياب.
- قال آخرون: هم خاصة أتباع الأنبياء وصفوتهم والراجح هو القول الأول عند الطبري.
وأما الإمام ابن كثير فقد رجَّحَ أنهم سُمّوا حواريين لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام وأيّدوه ونصروه وبين أن الحواري هو الناصر.
والراجح ما رجحه ابن كثير ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: من يأتيني بخبر القوم يوم الأحزاب؟ فقال الزبير رضي الله عنه: أنا ثم قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لكلّ نبيّ حواريًا وحواريّ الزبير.
فقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوم واحد من أصحابه لينظر ما يفعل المشركون يوم الأحزاب، فندبهم وخبرهم وكان الزبير بن العوام رضي الله عنه هو الذي يقوم في المرات الثلاث، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الزبير في المرات الثلاثة بأن الله جعل لكل نبي حواريًا يؤيده وينصره، وإن حواريّه هو الزبير بن العوام رضي الله عنه، أي أن الزبير هو ناصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من البشر، ومؤيده ومتابعه وليس معنى هذا قصر النصرة على الزبير وحده ونفيها عمن سواه من المهاجرين والأنصار، وإنما معناه أنه كان أبرز حواري وناصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الحادثة، وإلا فإن الصحابة كانوا جميعاً حواريّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه واتّبعوه وأيدوه، وكانوا أفضل من الحواريين أتباع عيسى عليه السلام.
إن هذا الحديث الصحيح يدل على أن (الحواريين) ليسوا خاصين بعيسى عليه السلام، وأن لقب (الحواريين) ليس مقصورًا عليهم.
إن (الحواريين) هم أتباع كل نبي وإن هذا اللقب يطلق على كل من أيّدوا نبيًا ونصروه، فأتباع موسى عليه السلام حواريون، وأتباع عيسى -عليه السلام -حواريون، وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم حواريون وهكذا، والحديث صريح في هذا المعنى، وذلك في قوله: (إن لكلّ نبيّ حواريًا...).
وإذا كان أتباع وأنصار كل نبي حواريّين له، فإن هذا يدلنا على أن سبب تسمية أنصار عيسى عليه السلام حواريون، ليس لأنهم كانوا قصّارين أو صيادين، أو ذوي ملابس بيضاء وإنما لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام وأيدوه ونصروه.
أ- عيسى عليه السلام يدعو الحواريين لنصرته:
وقد دعا عيسى عليه السلام أتباعه الحواريين إلى نصرته لما رأى كفر معظم بني إسرائيل قال الله تعالى:﴿ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنهُمُ ٱلكُفرَ قَالَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ * رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ﴾(آل عمران: 52-53).
لقد أحسّ عيسى عليه السلام الكفر من بني إسرائيل وأصبح بارزًا وواضحًا وظاهر ولذلك أحسه عيسى عليه السلام ببدايته بعدما أراهم كل تلك المعجزات التي لا تتهيأ لبشر والتي تشهد بأن الله وراءها، وأن قوة الله تؤيدها وتؤيد من جاءت على يده، ثم على الرغم من أن المسيح جاء ليخفف عن بني إسرائيل بعض القيود والتكاليف عندئذ دعا دعوته.
- (قَالَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ): من أنصاري إلى دين الله ودعوته ومنهجه ونظامه؟ أي من الذين رضوا أن يكونوا أنصاري لأواجه بهم الذين يحاربون دعوتي على أن يكون أولئك الأنصار منصرفين متجهين إلى الله تعالى لا يبغون غير رضاه، وهذا التخيير الكريم فيه إشارة إلى معان ثلاثة:
- المعنى الأول: أن الأكثرين لم يكونوا مؤمنين ولذلك عبر بقوله: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنهُمُ ٱلكُفرَ) فنسب الكفر إليهم وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة، والمؤمنون هم القلّة المغمورة، حتى بحث عنهم السيد المسيح بقوله: من أنصاري إلى الله تعالى.
- المعنى الثاني: الذي يشير إليه النص الكريم: أن السيد المسيح عليه السلام أحس بأنه أصبح مقصودًا بالأذى وأن الدعوة الحق أصبحت مهاجمة من تلك الكثرة الساحقة ولذلك طلب أن يكون له نصراء يجعلون الحق منعة وقوّة من جهة ويكونون مدرسة الدعاية له والخلية التي تدرس فيها حقائقه من جهة أخرى.
- المعنى الثالث: الذي يشير إليه النص هو أنّ النصرة الحقيقية في مثل هذا المقام أساسها إخلاص النية لله والاتجاه إليه وتفويض الأمور إليه، فإنهم إن كانوا قليلًا فهم بمعونة الله كثيرون:﴿ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ (الحج:40).
- (قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ): الحواريون هنا هم أنصار عيسى عليه السلام أخلصوا له ولازموه، وكانوا عونه في الدعاية إلى الحق بعد الله تعالى الذي أمده بنور من عنده وكان الحواريون من خاصة عيسى عليه السلام وقد صفت نفوسهم وخلصت من أدران الدنيا، وأهوائها بفضل الله ثم صحبتهم لعيسى عليه السلام وقد أجاب الحواريون عيسى عليه السلام عندما أخذ يبحث عن النصراء.
- (نَحنُ أَنصَارُ): وهم بذلك بيّنوا اهتداءهم لأمرين:
1) الأمر الأول: أنهم علموا أنه يتكلم عن الله وأنه رسول أمين ولذلك اعتبروا إجابة دعوته هي من إجابة دعوة الله وأنهم إذا كانوا نصراءه فهم نصراء الله تعالى ولذا قالوا: (نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ) ولم يقولوا أنصارك.
2) الأمر الثاني: أنهم فهموا أن نصرته تكون بإخلاص النية لله تعالى وتصفية نفوسهم من كل أدران الهوى حتى خالصة لله تعالى، ولذلك أردفوا قولهم هذا بما حكاه سبحانه وتعالى عنهم بقوله تعالى.
- (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ): فهذا النص الكريم يفيد مقدار إدراكهم لمعنى نصرة الله تعالى ونصرة رسوله عيسى عليه السلام قالوا (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ) أي آمنا بأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وأنه خلق الأشياء وجود المعلول عن العلة والمسبب عن السبب، كما يدعي بعض الفلاسفة في عصرهم، وأردفوا قولهم بما يدل على الإذعان المطلق لله تعالى وإخلاص نيتهم وقلوبهم له سبحانه بقولهم (وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
إنَّ الشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة، فهم يطلبون من سيدنا عيسى أن يعلم علم معاينة بأنهم مسلمون أي مخلصون قد أسلموا وجوههم لله رب العالمين وصاروا بتفكيرهم وقلوبهم وجوارحهم لله تعالى، وإن ذلك فوق أنه إعلام لحقيقة نفوسهم هو إشهاد من قبلهم بما خلصت به أرواحهم وقد خاطبوا بهذا الخطاب نبي الله تعالى مجيبين دعوته ملبيين نداءه معلنين نصرته.
وقد جهروا بإيمانهم بالله وطلبوا من نبيهم عيسى عليه السلام أن يشهد لهم أمام الله بأنهم مؤمنون مسلمون أنصار الله وقد طلبوا منه أن يشهد بأنهم يعلمون أن شهادته لهم عظيمة عند الله، ثقيلة في ميزان الله، لأن رسول الله الشاهد الشهيد عليهم وتصريحهم بأنهم مسلمون (وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ)؛ لأنهم آمنوا بعيسى عليه السلام ودخلوا في دينه وبذلك يكونون قد استسلموا وخضعوا لله، لأن الإسلام -في معناه العام- هو الخضوع المطلق لله واعتبارهم مسلمين دليل على أن كل نبي جاء بالإسلام وأن دين كل نبي هو الإسلام، وأن أتباع كل نبي مسلمون وهذه الآية صريحة بأن عيسى عليه السلام جاء بالإسلام وأن دينه هو الإسلام وأن أتباعه هم المسلمون فها هم الحواريون يصرّحون قائلين (ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشهَد بِأَنَّا مُسلِمُونَ).
ثم اتجهوا بعد ذلك إلى الله تعالى ضارعين إليه قائلين:
- (رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ): وقد صدروا ضراعتهم إلى الله تعالى بالاعتراف الكامل بالربوبية وفي الاعتراف بالربوبية إحساس صادق بجلال النعم وتقديم شكر المنعم، ثم الاعتراف بالربوبية الحق يطوى في ثناياه الاعتراف بالإلوهية الحق، لأن كمال الخضوع لله لا يكون إلا بالإيمان بالربوبية ووراء هذا كله الإفراد بالعبودية ثم بعد الضراعة بلفظ الربوبية أعلنوا الخضوع والإذعان الكامل فقالوا (رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنزَلتَ)؛ أي صدقنا تصديق إذعان وتسليم هداية بما أنزلت وما أنزل الله تعالى على عيسى عليه السلام هو تكليفات، فالإيمان الصادق يقتضي العمل، لأن العمل يدل على كمال الإيمان، ولأن المخالفة من غفوة الإيمان وقد تأكد ذلك المعنى وهو العمل بمقتضى ما أنزل لهم بعد ذلك في ضراعتهم: (وَٱتَّبَعنَا ٱلرَّسُولَ) وهو عيسى عليه السلام واتباع الرسول يكون بالعمل بهديه، والأخذ بسنّته.
وإذا كانوا قد ضرعوا إلى ربّهم بهذا الإيمان تلك الضراعة، فقد اتجهوا مع ذلك إلى دعائه راجين بإجابته أن يقوى الله سبحانه وتعالى إيمانه وأن ينقلهم من الإيمان الغيبي إلى الإيمان الذي يصل إلى درجة تشبه المشاهدة، ولذا قالوا:
- (فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ) أي: إذا كنا قد امتلأت قلوبنا بربوبيتك، وألوهيتك وعبوديتك فارفعنا إلى مرتبة أعلى هي أن نكتب مع الشاهدين، ومن هم الشاهدون؟ هم الذين صفت نفوسهم وزكت مداركهم، حتى وصلوا إلى درجة العلم الذي يكون كعلم المشاهدة والرؤية الذي قال في أمثالهم محمد صلى الله عليه وسلم: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فهذه مرتبة من الإيمان والمعرفة أعلى من مجرد الإيمان، وإن النص الكريم يدل على وجود ذلك الصنف من العباد الأصفياء الأنقياء الأبرار، وأنهم في أعلى درجات اليقين، بدليل أن هؤلاء الأنقياء طلبوا أن يكونوا في هذا الصنف، وحكى العلي القدير للأجيال طلبهم الذي رشحهم له فرط ضراعتهم وتقواهم وأولئك الشاهدون هم الأنبياء والصديقون والشهداء.
أحسَّ عيسى - عليه السلام - بحدة كفر الكافرين، وشدة نضالهم ولذلك اتجه إلى أن يكون له دعاة مناصرون أطهار، تكون معهم مدرسة الحق وأخذ يبث تعاليمه في تلاميذه، وينتقل في أراضي بيت المقدس وجبالها وآكامها هاديًا مرشدًا باعثًا الأرواح إلى الإيمان بالحق، ولكنهم جحدوا بالحق بعد أن ظهرت أماراته وقامت بيناته، ثم أخذوا يحولون بينه وبين هدايته ودعوة الحق التي يدعو بها ولما رؤوا أن نور الحق يزداد انتشارًا، قرروا أنه لا بدَّ أن يقطعوا حركته نهائيًا بتدبير الشر لشخصه، ويستفاد من الإشارات القرآنية أنهم حاولوا قتله ولا يستغرب على اليهود عمل فاجر، فهم في ماضيهم كما نراهم اليوم في حاضرهم ولذا قال تعالى بعد أن بلغت دعوة الحق أقصاها وأعلاها.
- (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ): أي أن هؤلاء الذين أحس عيسى عليه السلام منهم الكفر ورآه عيانًا منهم بعد أن كوّن فيهم مدرسة الهداية بالحواريين، وأخذوا يدبرون التدبير للقضاء عليه أو على دعوته والمكر كما يظهر من عبارات القرآن: هو التدبير الذي يجتهد صاحبه في إخفائه عمن يمكر به، ولذا نسب المكر إلى الله تعالى، ولا يمكن أن يكون عمل لله تعالى إلا خيرًا، فمكر الفجار لإيذاء الأبرار لا يمكن أن يكون خير، ومكر الله تعالى لإحباط تدبير الأشرار لا يتصور إلا أن يكون خيرًا. وقد دبر أولئك قتل عيسى عليه السلام والله دبر حمايته وقد تمَّ ما أراد الله تعالى ولذا قال تعالى: (وَٱللَّهُ خَيرُ ٱلمَٰكِرِينَ) والله من وراء كل من يدبر الشر للأطهار وهو الذي يحفظ بعلمه وقدرته الأبرار.
وفي قول الحواريين (فَٱكتُبنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ) دعاء من الأعماق أن يكتبهم الله مع الشاهدين لدينه، أي أن يوفقهم ويعينهم في أن يجعلوا من أنفسهم صورة حياة لهذا الدين وأن يبعثهم للجهاد في سبيل تحقيق منهجه في الحياة وإقامته مجتمع يتمثل فيه هذا المنهج ولو أدّوا ثمن ذلك حياتهم ليكونوا من (الشهداء) على حق هذا الدين. وهو دعاء جدير بأن يتأمله كل من يدعي لنفسه الإسلام فهذا هو الإسلام، كما فهمه الحواريون وكما هو في ضمير المسلمين الحقيقين.
لقد تحدثت الآيات الكريمة في القرآن الكريم عن أهم صفات الحواريين وهي:
- الإيمان بالله ورسوله.
- اعترفوا بالإسلام دينًا ورسالة إلى الناس.
- ثم أنهم كانوا مسلمين مستسلمين لله سبحانه مطيعين تعليماته مجيبين لنداءاته.
- ثم أنهم طلبوا من عيسى عليه السلام أن يكون لهم شاهدًا عند الله يوم تشخص فيه الأبصار ويقوم الناس ليوم الحساب.
إن هذه الصفوة تتلمذت على يد السيد المسيح وعرفت منه أحكام التوراة التي نزلت على موسى وكذا تفاصيل ما جاء به الإنجيل كما انتهلوا منه عليه السلام التقوى والزهد والجهاد والصبر والعزم وانتشروا من بين الناس لنشر أحكام دين الله تعالى والتبليغ بشريعته الغراء.
إنَّ عيسى عليه السلام قد أعدّ هؤلاء النخبة ورعاهم بتربية خاصة ومحّصهم وهيأهم للمهمات الدعوية وجعلهم ذراعًا يتحرك بهم وعينًا تسهر على رسالة الله سبحانه ولسانًا يحاور ويجادل في سبيل الحق ويدًا يضرب بها أعداءه وإيمانا ورجالًا ربانيون يسيحون في الأرض ويتفقهون بحبل الله ومنهجه.
إنَّ بناء النخبة ضرورة رسالية وخاصّة عملية حركية وعدّة موضوعية لابد منها في كل زمان ومكان لقادة التغيير وأبطال الصراع من أجل المثل العليا، فهم نواة الحق وخميرة الهدى وعدّة أهل الإيمان، وهذا ما سبق أن اتّخذه موسى عليه السلام منهجًا من قبل عيسى، فقد كان الأصحاب في عهده، وكذلك رسول الهدى محمد صلى الله عليه وسلم فقد اتخذ الأنصار والأصحاب في عهده، ذلك أن الأبرار من النخب تعني المنتخبين من العامة وصفوتهم وعصارة المجتمع وأهل الرأي والتقوى والعزم والاجتهاد فيهم فضلًا عن الصلاح والاستقامة في كل المقاطع الدعوية وتمثل النخب ذراع القيادة الرسالية وأداتها الضاربة في عملية التغيير والتبليغ، وحلقاتها الموصولة مع الأمة والعامة ولذلك فإنها تشكل أداة فاعلة وعونًا أساسيًا لحملة مبادئ الحق في كافة المراحل ومختلف العصور.
إن من دواعي النجاح اعتمادُ هذا النهج قدوة، ونعني به الاقتداء بأنبياء الله ورسله واقتفاء بتجاربهم وتأسيًا بالقويم من الأساليب وكل أساليب رسل الله قويمة تهدي إلى الرشد وإلى صراط مستقيم.
ب- الاقتداء بالحواريين:
قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ لِلحَوَارِيِّنَ مَن أَنصَارِي إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلحَوَارِيُّونَ نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فََٔامَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسرَٰءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَة فَأَيَّدنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِم فَأَصبَحُواْ ظَٰهِرِينَ ﴾ (الصف:14).
والحواريون هم تلاميذ المسيح -عليه السلام-قيل: الاثنا عشر الذين كانوا يلوذون به، ويتقطعون للتلقي عنه وهم الذين قاموا بعد رفعه بنشر تعاليمه وحفظ وصاياه، والآية هنا تهدف إلى تصوير موقف لا إلى تفصيل قصة، فنسير نحن معها في ظلالها المقصودة إلى الغاية من سردها في هذا الموضوع من سورة الصف.
- (يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ ٱللَّهِ): إن الله يدعو المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الاقتداء بالحواريين في موقفهم الإيماني العظيم ويطالبهم أن يكونوا أنصارًا له، ينصرون دينه، ويعاونون رسوله أن يفعلوا كما فعل الحواريون مع عيسى عليه السلام، قالوا (نَحنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ).
- (فََٔامَنَت طَّائِفَة مِّن بَنِي إِسرَٰءِيلَ): سبب دعوة عيسى والحواريون، (وَكَفَرَت طَّائِفَة) منهم فلم ينقادوا لدعوتهم، فجاهد المؤمنون الكافرين (فَأَيَّدنَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِم)، أي قويناهم ونصرناهم عليهم (فَأَصبَحُواْ ظَٰهِرِينَ) عليهم وقاهرين لهم فأنتم يا أمة محمد كونوا أنصار الله ودعاة دينه ينصركم كما نصر من قبلكم ويظهركم على عدوكم.
مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (318:310)
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/318.
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (318:310)
- صلاح الخالدي، القصص القرآني: عرض وقائع وتحليل أحداث، دار القلم، دمشق، ط1، 1419ه – 1998م، 4/318.