الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة

الحلقة: الحادية والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020

ذكرت كُتب السيرة والدلائل أن وفدًا من نصارى نجران قدِموا على النبيّ صلى الله عليه وسلم وجادلوه وناظروه في أمر المسيح وألوهيته، وقد رويت هذه الواقعة بأسانيد متعددة وروايات كثيرة وألفاظ متقاربة في بعض الأحيان، ومختلفة في أحيان أخرى، وتسهيلًا للأمر، وتوضيحًا له، ومحاولة لاستقراء ما فيه من قواعد وأساليب للحوار والمناقشة، بل والمجادلة والمناظرة، ولرصد أهم المعطيات لممارسة الحوار والجدال بالآتي هي أحسن.
أولًا: موقف نصارى نجران من دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم:
عندما وصل كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل نجران يدعوهم فيه إلى الإسلام ووصل إلى الأسقف الكتاب وقرأهُ، خاف خوفًا شديدًا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له "شرحبيل بن وداعة" وكان من أهل همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الأبهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى شرحبيل فقرأهُ، فقال الأسقف: يا أبا مريم، ما رأيك؟، فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذريّة إسماعيل من النبوّة، فما يُؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النبوّة رأي، لو كان أمر من أمور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك، فقال له الأسقف: تنحَّ فاجلس. فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل، وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب، وسأله الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل. فقال له الأسقف: فاجلس، فتنحى فجلس ناحية، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبّار بن فيض من بني الحارث بن كعب، أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه، فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله، فأمره الأسقف فتنحّى فجلس ناحية، فلمّا اجتمع الرّأي منهن على تلك المقالة جميعًا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنّهار، وإذا كان فزعهم ليلًا ضربوا بالناقوس، ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح، أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، وعشرون ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهن على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبّار بن فيّاض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولقد استقرَّ الرأي بعد حوارات ومناقشات، ومشاورات بين زعماء نصارى نجران على إرسال وفد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم لمعرفة أمره وتثبت القوم عن حقيقة هذا النّبي.
• وفود بعض نصارى نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترافهم بنبوَّته:
توجَّه وفد إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -من نجران، حيث جلس أبو حارثة على بغلة له متوجهًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى جنبه أخ له يقال له (كوز بن علقمة)، فعَثرت بغلة أبي حارثة فقال كوز: تعس الأبعد -يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم -فقال أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال: ولمَ يا أخي؟ قال: والله إنه النّبي الأمي الذي كنّا ننتظره، فقال له كوز: فما يمنعك من إتّباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم -يعني ملوك الروم -شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا منا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كوز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك.
وكان رؤساء نجران يتوارثون كتبًا عندهم، فكلما مات رئيس منهم وأفضت الرئاسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتمًا مع الخواتم التي كانت قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر، فقال له ابنه: تعس الأبعد –يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم– فقال له أبوه: لا تفعل، فإنه نبي واسمه في الوضائع –يعني الكتب-فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد في الكتب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم فحسن إسلامه وحجَّ.
وبالنظر في هذا المقطع من الروايات الخاصة بوفد نصارى نجران، يمكننا أن نقف عند بعض الموضوعات كما يلي:
- الموضوع الأول:
إنَّ أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا على علم ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم عرفوه بصفته، وتحققوا مما في كتبهم من الإشارات وموافقتها وانطباقها على شخصه صلى الله عليه وسلم، ومن حكمة الله أن يبشر الأنبياء السابقون برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليكون ذلك دليلًا على صِدقه، وحجّة على أقوالهم، وحثًّا لهم على الإيمان به، والإذعان لدعوته والإقرار برسالته، ونصرة دينه.
وإليك شاهدة هرقل ملك الروم حين اعترف بصحة نبوَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على الكفر، فقد اعترف ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وأنه بُشِّر به في الكتب السابقة، وقال هرقل لدحيّة الكلبيّ حين قدم عليه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك، والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ضغاطر الأسقف، فاذكر له أمر صاحبكم، فهو أعظم في الروم مني، وأجوز قولا مني عندهم، فانظر ما يقول، فجاء دحية فأخبره بما جاء به من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ضغاطر: صاحبك، والله نبي مرسل، نعرفه في صفته ونجده في كتابنا باسمه، ثم ألقى ثياباً كانت عليه سودا، ولبس ثياباً بيضاً، ثم أخذ عصاه، ثم خرج على الروم وهم في الكنيسة، فقال: يا معشر الروم، إنه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا فيه إلى الله، وإنني لأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن أحمد رسول الله، فوثبوا عليه وثبة رجل واحد، فضربوه فقتلوه، فرجع دحية إلى هرقل فأخبره الخبر، فقال: قد قلت لك: إنا نخافهم على أنفسنا، وضغاطر كان ، والله ، أعظم عندهم مني".
وفي الحديث المطوّل الذي ذكره البخاريّ ومسلم وغيرهما أن هرقل حينما جاءه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -طلب من جنوده أن يأتوه بأحد من قومه ليسألهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فجيء له بأبي سفيان الذي كان في تجارة إلى الشام وكان لا يزال على شركه، فسأله عدة أسئلة وأجاب عنها أبو سفيان، ثم قال هرقل: وهذه صفة نبي قد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أعلم أنه منكم وإن يكُ ما قلت حقًا فيوشك أن يملك موضع قدميَّ هاتين ولو أرجو أن أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت قدميه.
وفي رواية ابن إسحاق أن هرقل حينما جاءه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرأه، أخذه فجعله بين فخذته وخاصرته، ثم كتب إلى رجل من أهل روميّة كان يقرأ العبرانية ما يقرأ بخبره مما جاءه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب إليه أنّه النّبيّ المنتظر لا شك فيه فاتبعه، فأمر بعظماء الروم فجمعوا له في دسكرة ملكه ثم أمر بها فأسرجت عليهم واطلع عليهم من عليّة له وهو منهم خائف، فقال: "يا معشر الروم إنه جاءني كتاب أحمد، وإنه والله للنّبيّ الذي كنّا ننتظره، ونجد ذكره في كتبنا نعرفه بعلاماته، فأسلموا واتّبعوه تسلم لكم دنياكم وآخرتكم، فنخروا نخرة رجل واحد، وابتدروا أبواب الدسكرة، فوجودها مغلقة دونهم، فخافهم فقال: كرُّوهم عليَّ فكرّوهم عليه، فقال لهم: يا معشر الروم إني إنما قلت لكم هذه المقالة أغمزكم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم، فلقد رأيت منكم ما سرَّني فوقعوا له سُجدًا، ثم فتحت لهم أبواب الدسكرة فخرجوا".
لقد عرف زعماء الروم نبوَّته -صلى الله عليه وسلم -القادة السياسيّين والدينيّين، ولكنهم انحازوا إلى مصالحهم ومتاع الفانية والحرص على المناصب.
- الموضوع الثاني:
إنَّ اعتراف أهل الكتاب بنبوّة النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلهم في دين الإسلام، إذ لا يكفي للإيمان الاعتراف بنبوّته ولا تكفي المعرفة بها، بل يجب الانقياد له فيما أمر وتصديقه فيما أَخبر.
فقد أقرَّ هرقل عظيم الروم بنبوّته، ولكنه لم ينقاد وبقي على دين قومه، وكذلك عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أبو طالب، فقد شهد للنبي بالصدق للنبي صلى الله عليه وسلم وشهد أنّ دينه خير الأديان إلّا أنه لم يدخل في الإسلام، وقال في ذلك شعرًا:
والله لن يَصلوا إليكَ بجمعهم
حتَّى أُوسدَ في الترابِ دفينًا

فاصدع بأمركَ ما عليك غضاضة
وابشر بذاك وقرَّ منك عيونًا

ودعوتني وزعمتَ أنّك ناصحي
فلقد صدقتَ وكنت قبلُ أمنيًا

وعرضت دينًا قد عرفت بأنّه
من خير أديان البريّةِ دينًا

لولا الملامة أو حذار مسبّة
لوجدتني سمحًا بذاك يقينًا

وهذا يدلّ على أنّ الاعتراف بصدق النبي صلى الله عليه وسلم وصحّة نبوّته لا يعني الدخول في الإسلام، ولذلك يقول ابن القيم: ومن تأمّل ما في السّير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة وأنه صادق، فلم تدخلهم هذه الشهادة في الإسلام، علم أنّ الإسلام أمر وراء ذلك وأنّه ليس هو المعرفة فقط ولا المعرفة والإقرار فقط، بل المعرفة والإقرار والانقياد والتزام طاعته ودينه ظاهرًا وباطنًا.
- الموضوع الثالث:
وهو خاص بالحديث عن سبب امتناع هؤلاء عن الدخول في الإسلام رغم علمهم ومعرفتهم بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم، ففي الرّواية التي مرّت معنا في هذا المبحث أنّ كوز قال لأبي حارثة: فما يمنعك من اتّباعه وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه ولو فعلت نزعوا منّا كلّ ما ترى.
إنَّ الذين منعتهم الرّياسة والسّيادة والمأكل والسلطان من اختبار الهدى كثيرون، وقد صرّحوا بهذا لخاصّتهم وعامّتهم، ولا أدلّ على ذلك موقف هرقل الذي عرف الحقّ وهمّ بالدخول في الإسلام فلم يطاوعه قومه وخافهم على نفسه، فاختار الكفر على الإسلام بعد ما تبيّن له الهدى ولذلك يقول الخفاجي عن هرقل: وكان يعرف أمره صلى الله عليه وسلم في الكتب ولكن أحبَّ الملك فحكم بشقائه مالك الملك، كما أنّ الحسد كان من أكبر وأعظم الأسباب المانعة من دخولهم الإسلام واتباعهم شريعة النّبيّ محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كانوا يعرفون النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصرّحوا بذلك، بل وأقرّوا بصحّة نبوّته وصدق دعوته، منهم من آمن ودخل في دين الإسلام ومنهم من أعرض عنادًا وحسدًا، وقد اعترف بهذا العناد والحسد كثيرون.
ثانيًا: هيئة الوفد النجراني:
لما قدموا -رؤساء نجران -على رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فدخلوا عليه مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات، جبب وأردية في جمال ورجال بني الحارث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدًا مثله، وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم فصلّوا إلى المشرق.
وفي رواية للبيهقي: أنهم قاموا يصلّون في مسجده فأراد الناس منعهم فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دعوهم فاستقبلوا المشرق فصلّوا صلاتهم، ثم أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأعرض عنهم ولم يكلمهم، فقال لهم عثمان بن عفان رضي الله عنه: ذلك من أجل زيكم هذا، فانصرفوا من يومهم ذلك ثم عادوا عليه بعد أن وضعوا حللهم وخواتيمهم ولبسوا زي الرهبان، فسلّموا عليه فردَّ السلام ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرّة الأولى وإن إبليس لمعهم. وقد أعرض النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -عنهم ولم يرد السلام عليهم لما رأى منهم التعاظم والتكبّر من خلال ما يلبسون من حلل وخواتيم وذهب، وحينما رجعوا ولبسوا ملابس متواضعة ردَّ عليهم السلام وبدأ حديثه معهم.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (376:369)
- ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، مكتبة المنار الإسلامية، بيروت، ط27،1994م، 3/631 -632؛
- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، دار التراث العربي، القاهرة، 1979م، 2/376 -377.
- أحمد علي عجينة، نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص11.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022