وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم" (٢)
الحلقة: التاسعة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
1. اضطراب الأناجيل في أحداث تلك الليلة وأقربها إنجيل برنابا:
إنَّ الأناجيل الأربعة: (متى، لوقا، مرقس، يوحنا)، وهي المعتمدة عند النصارى اضطربت في حديثها عن الأرض اضطرابًا كبيرًا، واختلفت اختلافًا بينًا وتناقضت تناقضًا واضحًا، حيَّر النصارى المؤمنين بهذه الأناجيل، وجعلهم في شك واضطراب لا يعرفون ماذا جرى في تلك الليلة.
وأقرب ما سجل في تلك الأناجيل من الحقيقة القرآنية التي عرضناها، هو ما ورد في إنجيل (برنابا) هو الإنجيل الذي لا يؤمن به النصارى، ولا يعتمدونه، حيث يرى (برنابا) - أحد حواريي عيسى عليه السلام - أن أحد الحواريين وهو (يهوذا الإسخريوطي) هو الذي وشى بعيسى وتآمر عليه وخانه واتفق مع اليهود للمجيء إليه واعتقاله، ولما جاء بهم ألقى الله شبه عيسى عليه، فأخذوا (يهوذا) وصلبوه على إنه عيسى، ويختلف برنابا في هذه النقطة مع ما سبق ذكره من قول ابن عباس وجمهور العلماء من أن المشبّه الفدائي هو أحد الحواريين الصالحين، تبرع وتطوع ليُقتل وينجو عيسى عليه السلام والله أعلم بالذي حصل.
ورد في الفصل الحادي عشر بعد المئتين من إنجيل برنابا أن عيسى عليه السلام أخبرهم قبل أيام من الحادثة، أنه حان وقت مغادرته لهذا العالم: "ولما كان يسوع في بيت (نيقوديموس) وراء جدول (قدرون) عزّى تلاميذه قائلًا: لقد دنت الساعة التي أنطلق فيها من هذا العالم، تعزَّوا ولا تحزنوا، لأنني أمضي ولا أشعر بمحنة".
وورد في الفصل الثالث عشر بعد المئتين من إنجيل برنابا حوار بين عيسى عليه السلام والحواريين ومنهم يهوذا الإسخريوطي: "وقال يسوع أيضاً الحق أقول لكم: إن واحدًا منكم سيسلمني، فأباع كخروف، ولكن ويلٌ له، لأنه سيتم كل ما قال داود أبونا عنه أنه سيسقط في الهوة التي أعدّها للآخرين؟ فنظر من ثمّ التلاميذ بعضهم إلى بعض، قائلين بحزن: من سيكون الخائن.فقال حينئذ يهوذا: أنا هو يا معلم؟ أجاب يسوع: لقد قلت أنت لي من الذي سيسلمني".
وخُصّصَ الفصل الخامس عشر والسادس عشر بعد المئتين في الإنجيل للحديث عن ليلة رفع عيسى والقبض على الخائن. قال: "ولما دنت الجنود مع يهوذا من المحل الذي كان فيه يسوع، سمع يسوع دنو جمع غفير، فلذلك انسحب إلى البيت خائفًا وكان الأحد عشر نيامًا فلما رأى الله الخطر على عبده أمر جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل سفراءه أن يأخذوا يسوع من العالم فجاء الملائكة الأطهار وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب فحملوه ووضعوه في السماء الثالثة، في صحبة الملائكة التي تسبّح الله إلى الأبد، ودخل يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أُصعد منها يسوع وكان التلاميذ كلهم نيامًا، فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغيّر يهوذا في النطق والوجه، فصار شبهًا بيسوع، حتى اعتقدنا أنه يسوع، أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش، لينظر أين كان المعلّم، لذلك تعجبنا أجبنا: أنت يا سيد هو معلمنا، أنسيتنا الآن؟
أما هو فقد قال مبتسمًا: هل أنتم أغبياء حتى لا تعرفوا يهوذا الإسخريوطي وبينما كان يقول هذا، دخلت الجنود، وألقوا أيديهم على يهوذا لأنه كان شبيهًا بيسوع من كلّ وجه أما نحن فلما سمعنا قول يهوذا ورأينا جمهور الجنود هربنا كالمجانين، ويوحنا الذي كان ملتفًا بملحفة من الكتان ترك ملحفة الكتان وهرب عريانًا لأنّ الله سمع دعاء يسوع، وخلص الأحد عشر من الشر، فأخذ الجنود يهوذا، وأوثقوه، ساخرين منه، لأنه أنكر وهو صادق أنه يسوع.
فقال الجنود مستهزئين به: يا سيدي لا تخف لأننا قد أتينا لنجعلك ملكًا على بني إسرائيل، وإنما أوثقناك لأننا نعلم أنك ترفض المملكة. أجاب يهوذا: لعلكم جننتم: إنكم أتيتم بسلاح ومصابيح لتأخذوا يسوع الناصري كأنه لص، أفتوثقونني، أنا الذي أرشدتكم إليه".
ويكمل برنابا سرد القصة إلى أن صلب يهوذا الإسخريوطي، ودفن على أنه عيسى؛ لأن الله ألقى شبه عيسى عليه.
وهذا العرض من برنابا -وهو شاهد عيان -يتوافق مع قوله تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم).
2. فكرة الصلب والفداء، ومفهومها في عقيدة النصارى:
صُلب المسيح في معتقدهم للتكفير عن خطيئة البشر، هو الأساس الثاني في عقائد النصارى، بل هو الركن الأعظم الذي تدور حوله هذه العقائد، فمسألة النبوة والتأليه في نظرهم هذه علة لمسألة الصلب.
وتقوم هذه العقيدة -كما تقول المسيحية -على أن الجنس البشري قد وُصم بوصمة المعصية، وأن هذه الوصمة قد نالته من جراء أكل آدم من الشجرة المحرمة، بإيعاز من الحية، فأصبح على ذلك مستحقًا للعنة الله محكومًا عليه بالهلاك الأبدي في الجحيم.
ويقولون بجانب ذلك إن رحمة الله شاءت تخليص هذا العالم والتجاوز عن ذلك الذنب الفطري المورث له فوجب تقديم الترضية اللازمة لله، ويقولون إنه لما كان المحكوم عليه بالموت يجب تنفيذ الحكم عليه أو تقديم غيره أو تطوع سواه بدلًا عنه فقد سمح الله بتضحية ابنه على الصليب كفارة على الناس لأن خطيئة آدم ظلت عالقة في ذريته حتى جاء يسوع الذي جمع بين الألوهية والبشرية، فهو ابن الله وابن مريم فصلب جسمه البشري ليمحوا الخطيئة عن أبناء آدم، وبالرغم من ذلك فإنهم يدّعون أنه لا ينجو من آمن بهذه الدعوى واتخذها له عقيدة.
وعليه فإن الفداء عند النصارى: هو الخلاص من الموت الناتج عن الخطيئة التي دخلت إلى البشرية بآدم.
ويعتقد النصارى أن المسيح مات مصلوبًا فداء للخليقة وذلك أن الله -لشدة حبه للبشر- قد أرسل وحيده ليخلص العالم من الخطيئة التي ارتكبها آدم حينما أكل من الشجرة المحرمة، وأن عيسى قد صلب عن رضى تام فتغلب بذلك عن الخطيئة وأنه دفن بعد صلبه وأنه قام بعد ثلاثة أيام متغلبًا على الموت ثم ارتفع إلى السماء ومن لم يؤمن بقضية الصلب لا يُعد نصرانيًا لذلك أدمجوا قضية الصلب في دستور إيمانهم الذي يجمع كل عقائدهم، وعلى هذا فالله كما يزعم النصارى نزل من السماء وتجسد في الروح القدس ومريم العذراء، وتأنس وصلب بإراقته دمه ليرفع عن البشر وزر خطيئة آدم.
وعقيدة الصلب هذه باطلة من أولها إلى آخرها؛ لأن عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله لم يصلب، بل رفعه الله إليه، والمسيح عليه السلام لم ينسب إلى نفسه الخلاص، كذلك لم ينسب الحواريون إلى عيسى الخلاص وإنما الذي نسب إلى المسيح أنه مخلص هو بولس، الذي كان من ألد أعداء المسيحية، قم انقلب فجأة وبدون مقدمات إلى المسيحية وأصبح عقلها المفكر وراعيها المدبر، وكان أول إعلان له أن المسيح ابن الله، ونسب إلى المسيح أنه الإله المتجسد الذي نزل ليصلب ويخلص البشرية على غرار الآلهة المخلصين الوثنين.
ولقد انتشرت عقيدة بولس في الخلاص بسبب الأسلوب الذي استخدمه لنشر دعوته، والطريقة التي سار عليها إذ رأى أن يخرج بالمسيحية من دائرتها الضيقة في بيت المقدس إلى الميدان الواسع في البيئات غير اليهودية ولكي تناسب دعوته هذا المجتمع الجديد أجرى بعض التعديلات للعقائد التي لا يرضى عنها هذا المجتمع الجديد.
إنَّ عقيدة الخلاص المسيحية، التي هي من وضع (بولس) قائمة على أسس باطلة، وهي أن آدم عليه السلام أخطأ، وهذه الخطيئة انتقلت بالوراثة إلى كل أبنائه والطريق الوحيد للخلاص منها هو ما زعموه من أن الله نزل وتجسّد في صورة بشرية ليصلب ويتغلب على الموت فيقوم، وبذلك ينال الناس الخلاص.
إننا نُنزِّه المسيح -عليه السلام -عمّا جاء في كتب النصارى من الصلب والإهانات التي تعرض لها، وما ذلك التنزيه إلا لأن المسيح عليه السلام واحد من رسل الله المصطفين الأخيار الذين اختارهم الله لتبليغ رسالته إلى خلقه، فكيف يهان هذه الإهانة وقد جعله الله مباركًا كما أخبر المسيح عن نفسه:﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ ﴾ (مريم:21).
إنَّ النصارى استندوا في قولهم بالصلب على الأناجيل، وقد بينا أنها محرفة ومبدلة ومتناقضة وذلك بالدليل والبرهان وأنها لم تنقل عن طريق التواتر، فهي أخبار آحاد مقطوعة الصلة بالمسيح؛ لانقطاع سندها فكل ما جاء فيها من أخبار، مشكوك فيه ولا يرقى أبدًا إلى درجة الصدق واليقين.
وقد أجمعت الفرق النصرانية المثلثة على أن المسيح صلب تكفيرًا عن خطيئة آدم التي ارتكبها وتوارثها أبناؤه من بعده ومن أجل أن تمحى الخطيئة لا بدَّ أن يتجسد الإله ويقتل، وأن يدخل نار جهنم ويعذب نفسه عذابًا أليمًا ثم يصير الإله ملعونًا بذلك الصليب كل ذلك فعله الإله في زعم -النصارى-ليمحو خطيئة آدم، فهل يعقل في حق الله سبحانه وتعالى؟
ولا شك أن هذا الاعتقاد به جهل بالغ وفاضح، تنكره العقول السليمة والفطر المستقيمة، والعلوم الراسخة التي مصدرها هدايات السماء من الوحي المعصوم الذي من عند الله عز وجل والذي بيّناه في الصفحات السابقة ومن الردود التي ذكرها العلماء في هذا الباب:
أ- ليس عند الله خطيئة موروثة:
تحتاج إلى التكفير عنها بصلب نبي أو ابن الله بل آمن المسلم أن كل إنسان مسؤول عمّا اقترفه ومحاسب عليه، والإنسان يولد مُبرأ من كل خطيئة ومن كل ذنب، وإنما يولد على الفطرة مهيئًا لقبول الحق، ذلك أن الفطرة هادية إلى الخير والحق، فالإنسان يولد نظيفًا لا يحمل شيئًا من أوزار من سبقه، وإذا كان الإنسان لا يحمل وزر غيره، فإن غيره لا يحمل وزره وإنما كل إنسان مسؤول عن عمله.
- قال الله تعالى:﴿ وَلَا تَكسِبُ كُلُّ نَفسٍ إِلَّا عَلَيهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَة وِزرَ أُخرَىٰ﴾(الأنعام:164).
والشرائع السماوية اتفقت على هذا المبدأ.
- قال الله تعالى:﴿ أَم لَم يُنَبَّأ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبرَٰهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَة وِزرَ أُخرَىٰ * وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَٰنِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعيَهُۥ سَوفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجزَىٰهُ ٱلجَزَاءَ ٱلأَوفَىٰ﴾(النجم: 36-41).
وإن القول الكريم ليصور لنا أخذ البريء بالمذنب لا على أنه مضاد للشريعة، فحسب بل هو مع ذلك غير متوافق مع الفكرة الأساسية للعدالة الإنسانية، قال تعالى:﴿ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأخُذَ إِلَّا مَن وَجَدنَا مَتَٰعَنَا عِندَهُۥ إِنَّا إِذا لَّظَٰلِمُونَ ﴾(يوسف:79).
ب- إذا كان آدم عليه السلام قد أخطأ فما ذنب ذريته حتى يتوارثوا خطيئته من بعده:
هذا مبدأ قد نهت عنه كل الشرائع وهل من العدل أن يضار البشر جميعًا بسبب خطيئة ارتكبها آدم وكيف رضي الله أن يخلد موسى وإبراهيم وسائر الأنبياء والمرسلين في النار بسبب خطيئة آدم؟ ثم ما بال المسيح يتحملُ وزر جريرة آدم ويلقى ذلك العذاب الذي استغاث عنه استغاثة شديدة، ويا ليته المسيح فحسب، بل الإله -في زعم النصارى -فالخطيئة لم تقتصر على النوع الإنساني بل تعدته إلى الإله فذاق مرارة العذاب ألوانًا.
إن أكل آدم من الشجرة، لا يعدُّ خطيئة يترتب عليها العقاب، ذلك آدم عليه السلام كان نبيًا والأنبياء معصومون من الخطأ وما وقع منه من الأكل من الشجرة -إنما هو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين التي لا يؤاخذ عليها آدم -على أن آدم أكل من الشجرة ناسيًا والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يؤاخذ عبدًا على ذنب فعله ناسيًا.
هذا إلى جانب أن آدم تاب، والتوبة تغسل الحوبة وتغفر الذنب، والله سبحانه وتعالى قبل توبته فهو سبحانه وتعالى التواب الرحيم، كل ذلك ينفي الذنب عن آدم، وبالتالي ينفي وراثته حيث إنه لا يوجد ذنب، كما أن إهباط آدم إلى الأرض ليس عقوبة كما يتوهم النصارى، بل تكريمًا وتشريفًا حيث باشر مهمة استخلافه في الأرض، كما وعد الله من قبل في قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِل فِي ٱلأَرضِ خَلِيفَة).
والله تعالى ما نزل بآدم إلى الأرض لينقصه، ولكن نزل به إلى الأرض ليكمله ولقد أنزله إلى الأرض قبل أن يخلفه لقوله: (إِنِّي جَاعِل فِي ٱلأَرضِ خَلِيفَة) وما قال في الجنة ولا في السماء، فكان نزوله إلى الأرض نزول كرامة لا نزول إهانة، فإنه كان يعبد الله في الجنة بالتشريف، فأنزله إلى الأرض ليعبده بالتكليف، فلمّا توافرت فيه العبوديتان استحقّ أن يكون خليفة.
ويدل على ذلك أيضًا أن القرآن الكريم أشار إلى أن إهباط آدم إلى الأرض كان بعد التوبة في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ ٱجتَبَٰهُ رَبُّهُۥ فَتَابَ عَلَيهِ وَهَدَىٰ * قَالَ ٱهبِطَا ﴾ (طه:122-123)، وهذا يدل على أن إهباط آدم إلى الأرض كان تكريمًا وتشريفًا، إذ أن التوبة تمحو الذنب، فلا بدَّ أن يكون لإهباط آدم معنى آخر غير العقوبة على الذنب، وأقرب المعاني إلى الاجتباء هو التكريم والتشريف، هذا إلى جانب أن نزول آدم إلى الأرض ليكون خليفة في الأرض وليحصل على معيشته بالكد والتعب والمشقة، ولاشك أن الثواب مع المشقة والتعب أكثر، فثوابه وهو على الأرض أكثر، وهذا يدل على أن إهباط آدم إلى الأرض ليحصل على ثواب عظيم ولحكمة بالغة أرادها الله في خلقه وتعمير ملكه.
ج- إنَّ الأناجيل التي تحدثت عن الصلب تختلف اختلافًا شديدًا وتتناقض تناقضًا بيّنًا:
تختلف في ذكرها لقصة الصلب سواء كان حامل الصليب وهو المسيح أم إنسان غيره وسواء كان الشراب الذي شربه المصلوب خمرًا عادية أم خمرًا ممزوجة بمرارة، وهل اللصان اللذان كانا مصلوبين معه كانا يعيرانه؟ أو واحد منهما هو الذي كان يعيره، وهل وقع الصلب في الساعة الثالثة أو السادسة؟ وهل صرخ المصلوب أم أنه أسلم الروح. وهل النساء اللاتي شاهدت المصلوب كنّ كثيرات لا حصر لعددهن أو نساء معدودات معروفات؟
اختلفت الأناجيل في كل جزئية من النصوص التي تحدثت عن الصلب، اختلفت حول حامل الصليب، وشراب المصلوب، وسبب الصلب، وموقف اللصين من المصلوب، ووقت الصلب، وصلاة المصلوب وصراخه، وغيرها من الأحداث التي أعقبت الصلب والشهود وغيرها، وهذا الاختلاف الشديد يكفي لرفض ما جاء في هذه الأناجيل، لأنه بتصديق بعضها يتعين تكذيب الباقي، وحيث إنه لا يعرف الصادق من الكاذب، فيترتب على ذلك تطرق الشك والكذب إليها جميعًا، ولم يقف اختلاف النصارى حول قضية الصلب عند هذا الحد، بل وصل بهم الأمر إلى أنهم اختلفوا في شكل الصليب الذي علق عليه المصلوب فقد ذكر في قاموس الكتاب المقدس أن للصليب ثلاثة أشكال وهي :
- الصليب (x)
- والصليب(T)
- والصليب (+).
فإذا كان النصارى مختلفين في شكل الصليب فهذا يؤكد أنهم اشتبه عليهم كل شيء فيما يتصل بقضية الصلب، وأن الحقيقة قد غابت عنهم وصدق الله تعالى إذ يقول:﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم ﴾(النساء:157).
لقد كان موقف القرآن الكريم واضحًا في ذلك الشأن حيث نقض الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم دعوى الزاعمين قتل المسيح وصلبه ونفى وقوع القتل والصلب وإنما وقع على شخص آخر شبيه له وهذا هو القدر الذي يتحتم الجزم به.
لقد اختلفت الأناجيل المعتمدة عند النصارى في ذكر أحداث الصلب اختلافًا كثيرًا وصدق الله العظيم إذ يقول:﴿ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا* بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما ﴾(النساء:157-158).
وإذا كانت عقيدة الصلب عند النصارى باطلة ولا أساس لها فإن ما يترتب عليها باطل وبذلك بطلت عقيدة قيامة المسيح من القبر، وبقدر ما أخذت مسألة صلب المسيح في العقيدة النصرانية من أهمية فقد أخذت قيامته الأهمية الأكبر في هذه العقيدة، حيث تأسست عليها قضايا عقيدية غاية في الحساسية وغاية في الخطورة، والسبب في ذلك ربط هذه القيامة بألوهية المسيح وما يترتب على ذلك من رُؤى عقدية، وفلسفية مسيحية وشرع آباء الكنيسة الأسرار الكنسية والتي لم تكن معروفة زمن المسيح عليه السلام ولم تكن من الأمور التعبدية ولا التشريعية التي جاء بها، واختلفوا في عددها وجعلوا لها طقوسًا تمارس عند أدائها وكان من أهمها، التمهيد والعشاء الرباني وتقديس الصليب وحمله.
إنَّ الخلاص المسيحي تأثر بالعقائد الوثنية، فالتجسّد الإلهي من أجل الخلاص من المعتقدات الوثنية التي كانت منتشرة في البلاد اليونانية ثم الرومانية قبل ظهور المسيح بمئات السنين وكان لظهورها في هذا البلاد أكبر الأثر في تأثر دعاة المسيحية بها كما أن صلب وتعذيب الإله من أجل الخلاص صورة وثنية أخرى كانت سائدة في المجتمعات الوثنية قبل المسيحية، وقيامة المخلص من أجل الخلاص صورة وثنية ثالثة ظهرت بين الوثنيين قبل المسيحية وعليه فالخلاص عقيدة وثنية انتقلت إلى المسيحية بفضل بولس وأتباعه ولم يفعلوا شيئًا سوى وضع اسم المسيح عيسى ابن مريم بدلًا من هؤلاء الآلهة المخلّصين الوثنيين.
- لقد ظلت التعاليم التي جاء بها المسيح عليه السلام على نقائها إلى أن دخل بولس النصرانية، فطمس معالم الديانة وصاغها صياغة جديدة من الخرافات الوثنية التي ورثها من الديانات القديمة وضمنها رسائله التي تقارب نصف العهد الجديد الذي يقدسه النصارى فجاء بعقيدة الصلب والفداء والخطيئة وألغى الختان وأحل لحم الخنزير، ويمكن القول بأن المسيحية الحالية هي مسيحية بولس وليست مسيحية عيسى عليه السلام.
- لقد كان لدخول الوثنيين في النصرانية أمثال الإمبراطور قسطنطين الأثر الأكبر على تلقيح النصرانية بالتعاليم الوثنية واقتباسها منها الكثير، وقد بيَّن الباحثون من أمثال الدكتور محمد علي عبد المعطي، والدكتور أحمد علي عجيبة أستاذ العقيدة والأديان، إن ما يؤخذ من عقائد وشرائع في النصرانية لها ما يماثلها في الديانات الوثنية كالبوذية والزرداشتية، والمصرية القديمة.
- لقد تولدت عقيدة التثليث من قرارات المجامع المتعددة، وفي أزمنة مختلفة: فمجمع نيقية سنة 325م قرّر ألوهية المسيح. ومجمع القسطنطينية الأول سنة 381م قرّر ألوهية الروح القدس. ومجمع أفس الأول سنة 431م قرّر أن الآلهة ثلاثة: أب، ابن، وروح القدس، ثم اختلفوا بعد ذلك في طبيعة المسيح هل هو:
ذو طبيعة واحدة؟
أم ذو طبيعتين؟
هل هو منشق من الأب وحده أم من الأب وروح القدس معًا؟
وبهذا يتضح أن عقيدة التثليث التي يؤمن بها النصارى لم يأتِ بها المسيح عليه السلام، ولم يأمر بها أتباعه.
ذلك لأنّ عيسى عليه السلام كما بين هذا الكتاب رسول الله، ما دعا الناس إلّا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وأنه عليه السلام لم يدع لنفسه منصبًا أكثر من أنه عبد الله:﴿ قَالَ إِنِّي عَبدُ ٱللَّهِ ءَاتَىٰنِيَ ٱلكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا ﴾(مريم:30)، وقال تعالى:﴿ وَقَالَ ٱلمَسِيحُ يَٰبَنِي إِسرَٰءِيلَ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم ﴾(المائدة:72).
ولقد بين القرآن الكريم أنه عليه السلام سيتبرأ من معتقدات النصارى الحالية يوم القيامة، وذلك حين سؤال الله له: قال تعالى:﴿ءَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَينِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبحَٰنَكَ مَا يَكُونُ لِي أَن أَقُولَ مَا لَيسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلتُهُۥ فَقَد عَلِمتَهُۥ تَعلَمُ مَا فِي نَفسِي وَلَا أَعلَمُ مَا فِي نَفسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّٰمُ ٱلغُيُوبِ * مَا قُلتُ لَهُم إِلَّا مَا أَمَرتَنِي بِهِۦ أَنِ ٱعبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم﴾ (المائدة:116-117). إن مغفرة الله للذنوب والخطأ لا تتوقف على الفداء، وإنما تأتي نتيجة الايمان الصحيح بالله عز وجل وتحقيق العبودية له سبحانه والتوبة إليه وعمل الصالحات ابتغاء مرضاته واجتناب الكبائر والمنكرات.
إن طريق الخلاص من عذاب الله والوصول إلى مرضاته سبحانه وتعالى ثم دخول جناته الواسعة يحتاج إلى توبة صادقة، فعلى العبد أن يتوب عن كل إثم ويمتنع عن كل عمل يبعده عن الله عز وجل، وعليه أن يخلص النية في هذه التوبة.
- يقول سبحانه وتعالى:﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعدِ ظُلمِهِۦ وَأَصلَحَ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُور رَّحِيمٌ ﴾(المائدة:39).
- ويقول تعالى:﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحا فَأُوْلَٰئِكَ يَدخُلُونَ ٱلجَنَّةَ وَلَا يُظلَمُونَ شَئا ﴾(مريم:60).
- ويقول تعالى:﴿ وَإِنِّي لَغَفَّار لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَٰلِحا ﴾(طه:82).
- ويقول تعالى:﴿ إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَٰلِحا فَأُوْلَٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَئَِّاتِهِم حَسَنَٰت وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورا رَّحِيما ﴾(الفرقان:70).
وفي قوله: (يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَئَِّآتِهِم حَسَنَٰت)، جاء في تفسير الآية أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات، وما ذاك إلا لأنه كلما مال وأذنب، ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار يوم القيامة، وإن وجده مكتوبًا عليه، فإنه لا يغيره وينقلب حسنة في صحيفته.
- وأما الايمان فقد قال سبحانه وتعالى:﴿ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلمُؤمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَد مِّن رُّسُلِهِۦ ﴾(البقرة:285).
- وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين:﴿يَأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلكِتَٰبِ ٱلَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلكِتَٰبِ ٱلَّذِي أَنزَلَ مِن قَبلُ وَمَن يَكفُر بِٱللَّهِ وَمَلَٰئِكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱليَومِ ٱلأخِرِ فَقَد ضَلَّ ضَلَٰلَا بَعِيدًا﴾ (النساء: 136).
إذًا فالإيمان هو أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر، والإيمان هوا الخطوة الثانية على طريق الخلاص القرآني، والمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا ربّ سواه ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرّقون بين أحد منهم، فلا يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديون هادون الى سبيل الله ويؤمنون بوجود الملائكة ويؤمنون باليوم الآخر وأن هناك يوم سيحاسب فيه الجميع فيثاب المحسن ويعاقب المسيء.
- قال تعالى:﴿ وَإِن تَكُ حَسَنَة يُضَٰعِفهَا وَيُؤتِ مِن لَّدُنهُ أَجرًا عَظِيما﴾(النساء:40)، ليس هذا فقط ولكن الله سبحانه وتعالى يضاعف الحسنة بعشر أمثالها، وأما السيئة فلا يجازى العبد إلا مثلها، قال تعالى:﴿مَن جَاءَ بِٱلحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشرُ أَمثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجزَىٰ إِلَّا مِثلَهَا وَهُم لَا يُظلَمُونَ ﴾(الأنعام:160).
- وأما من ينفق أمواله في سبيل الله وابتغاء مرضاته فإن الحسنة تتضاعف الى سبعمائة ضعف، يقول الله عز وجل:﴿ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَموَٰلَهُم فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَت سَبعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَة مِّاْئَةُ حَبَّة وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ ﴾(البقرة:261).
- إن طريق الجنة كما رسمه الله تعالى في القرآن الكريم يكون عبر الإيمان الصحيح بالله عز وجل وأركان الإيمان الستة، الإيمان بالله واليوم الآخر، وكتبه ورسله وملائكته والقدر خيره وشره، والعمل الصالح من صلاة وزكاة، وحج وصيام وذكر وتلاوة وصدقة واستغفار وثناء وحمد على الله ...إلخ، حتى تكون الموازين ثقيلة يوم القيامة برحمة الله تعالى وتوفيقه، قال تعالى:﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَت مَوَٰزِينُهُۥ * فَهُوَ فِي عِيشَة رَّاضِيَة ﴾(القارعة: 6-7).
- والعمل الصالح الذي يثقل موازين العبد يوم القيامة هو كل طاعة أمر الله بها سبحانه وتعالى بالامتثال لأوامره واجتناب نواهيه، قال تعالى:﴿ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ يُدخِلهُ جَنَّٰت تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلأَنهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ ٱلفَوزُ ٱلعَظِيمُ ﴾(النساء:13).
مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (358:345)
- صلاح الدين الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، د. ، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419ه، 1998م. 4/386..
- صلاح أبو السعود، إزهاق الباطل والرد على شبهات القمص زكريا بطرس، مكتبة النافذة، مصر، ط1، 2009م، ص 286.
- أحمد علي عجينة، الخلاص المسيحي ونظرة الإسلام إليه، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2006، ص 755.