نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة(2)
الحلقة: الثانية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
أولا: مجالس الجدل والمناظرات:
1. أمر الله لرسوله بجدال أهل الكتاب:
دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وإلى تصديقه فيما يدعو إليه من دين الله وشريعته، مبيّنًا أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأنّ شريعته ناسخة للشرائع السابقة.
والإيمان بالله وبالرّسل يقتضي الإيمان بالأنبياء والرّسل السّابقين ومن فرَّق بين رسل الله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرًا، ولذلك دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى الإيمان بدعوته وتصديقه وجادل وناظر أهل الكتاب واندفع اليهود لمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين وناقشوهم مناقشة دينيّة أخذت أولًا دورًا دينيًّا هادئًا –كما يقول الشيخ أبو زهرة- ثم أخذت من جانبهم سبّاً واستهزاء وخيانة، حتى اضطرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إجلاء بعضهم ومحاربة الآخرين، وفي دور المجادلة كانت المجادلة واسعة النّطاق غير محدودة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب أقوامًا يقرّون بكتاب ويؤمنون برسل، فالنّبيّ كان يلزمهم بما جاء في كتبهم وينفي عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم وهم كانوا لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة فيها شيءٌ من الدقّة والمعرفة وإن كانوا ضالّين.
وقد أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم -أن يدعو أهل الكتاب إلى دين الله وأن يجادلهم إن استدعى الأمر ذلك، وأرشده إلى الجدل بالحسنى، قال تعالى:﴿ ٱدعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلحِكمَةِ وَٱلمَوعِظَةِ ٱلحَسَنَةِ وَجَٰدِلهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ﴾(النحل:125)، كما جاء في قوله تعالى:﴿ وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهلَ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ﴾(العنكبوت:46)، لذا فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناظرة ومجادلة أهل الكتاب خير قيام وممن ناظرهم رسول الله وفد نجران.
2. حضور أطراف عديدة مجالس المناظرة:
لم تكن مجالس المناظرات بمعزل عن الناس، حيث حضرها أطراف عديدة من المسلمين واليهود والنصارى وكانت جلسات المناظرة حاشدة، إذ شهدها أعضاء الوفود، وشهدها فريق كبير من المسلمين أو كبارهم، وحضرها بعض سكان المدينة من اليهود وجادلوا النصارى في بعض مسائل العقيدة.
قال ابن إسحاق: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيءٍ وكفر بعيسى والإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيءٍ وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿ وَقَالَتِ ٱليَهُودُ لَيسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيء وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيسَتِ ٱليَهُودُ عَلَىٰ شَيء وَهُم يَتلُونَ ٱلكِتَٰبَ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ مِثلَ قَولِهِم فَٱللَّهُ يَحكُمُ بَينَهُم يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَختَلِفُونَ﴾ (البقرة: 113).
وتنازعوا أيضًا في إبراهيم عليه السلام فاليهود يدّعون أنّه يهودي وأنهم على دينه، بينما يدّعي النصارى أن إبراهيم عليه السلام ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ ياأَهلَ ٱلكِتَٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبرَٰهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ ٱلتَّورَىٰةُ وَٱلإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعدِهِۦ أَفَلَا تَعقِلُونَ * هَٰأَنتُم هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجتُم فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيسَ لَكُم بِهِۦ عِلم وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ * مَا كَانَ إِبرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفا مُّسلِما وَمَا كَانَ مِنَ ٱلمُشرِكِينَ * إِنَّ أَولَى ٱلنَّاسِ بِإِبرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلمُؤمِنِينَ﴾ (آل عمران: 65-68).
ويبدو أيضًا أن اليهود تدخلوا في بعض المناظرات التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ونصارى نجران، فقد قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟، فقال رجل من أهل نجران نصراني -يقال له الربيس-: أوذاك تريد منّا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره وما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلكِتَٰبَ وَٱلحُكمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّنَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ ٱلكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ * وَلَا يَأمُرَكُم أَن تَتَّخِذُواْ ٱلمَلَٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّنَ أَربَابًا أَيَأمُرُكُم بِٱلكُفرِ بَعدَ إِذ أَنتُم مُّسلِمُونَ﴾ (آل عمران: 79-80).
ثانيا: موضوعات الجدل:
جادل نصارى نجران رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في موضوعات عديدة تتعلّق بالعقيدة النصرانيّة، من أهمها:
1. ادعاؤهم أُلوهية المسيح لولادته من غير أب:
ناقش رسول الله -صلى الله عليه وسلم -نصارى نجران فيما يعتقدون بأن ولادة المسيح من غير أب هي دليل على ألوهيته، وقد رُويت روايات عديدة بشأن المناظرات حول هذه الشبهة، نذكر بعضًا منها فيما يلي:
روى ابن جرير الطبري عن الربيع في قوله تعالى:﴿ الم * ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:1-2)، قال: إن النصارى أَتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا.
فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟
قالوا: بلى. فقال: ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا: بلى. وقال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّمٌ على كل شيءٍ يكلأه ويحفظه ويرزقه؟
قالوا: بلى. ثم قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟
قالوا: لا. فقال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى. فقال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟
قالوا: لا.
قال: فإن ربنا صوّرَ عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون ذلك؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غُذِّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب، ويُحدث الحدث؟
قالوا: بلى.
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
قال: فعرفوا، ثم أَبوا إلّا جحودًا، فأنزل الله عز وجل:﴿ الم * ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:1-2).
وواضح من الرواية السابقة أن محور هذه المناظرة كان هو الحديث عن بشريّة عيسى عليه السلام، وقد ساق لهم النبي صلى الله عليه وسلم الدلائل والبراهين الواضحة على كون عيسى عبد الله ورسوله وفنّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم شبهة أنه إله أو ابن إله لكونه ولد من غير أب، ويبدو أن هذا الموضوع أخذ حيّزًا كبيرًا من المناقشات والمناظرات؛ لأنه أساس عقيدتهم النصرانيّة.
وقد نزلت الآيات القرآنية تردُّ على عقائد النصارى في صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية اشتملت على الحجج الدامغة لبطلان شبه النصارى.
2. ادعاؤهم ألوهية المسيح بسبب معجزاته:
روى ابن جرير الطبري عن ابن جرير عن عكرمة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران:59)، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم السيّد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال: من صاحبكما؟ قالا: عيسى بن مريم، تزعم أنه عَبد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا، فأرنا عبدًا يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله. فسكت حتى أتاه جبريل فقال: يا محمد:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...﴾(المائدة: 72).
ونزل القرآن الكريم وأوضح حقيقة هذه المعجزات كما بيّنها في الصفحات السابقة، فالمسيح عليه السلام لم ينسب المعجزة إلى نفسه بل نسبها إلى الله، كما هو واضح في الآيات السابقة في قوله: (بِإِذنِ ٱللَّهِ)، أي بتكوين الله وتخليقه، فالخالق والمحيي في الحقيقة هو الله ولذلك لم ينسب المسيح إلى نفسه أي قدرة في فعل هذه المعجزات.
إن هذه المعجزات قد بينّا في حديثنا عنها أنها تدلُّ على نبوّته ورسالته لا على ألوهيته، من أراد التوسع فليرجع إلى ما فصّلنا.
3. تأويلاتهم لوصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه:
ناقش النصارى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وجادلوه في معنى وصف الله لعيسى بأنه روح الله وكلمته، حاجّوه وخاصموه وقالوا: ألست تزعم أنّه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا، وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
فأنزل الله تعالى:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنهُ ٱبتِغَاءَ ٱلفِتنَةِ ﴾(آل عمران:7)، ثم إن الله جلّ ثناؤه أنزل:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾(آل عمران: 59).
بيّنت الآية الأولى أن سؤالهم فيه مغالطة وردّت عليهم مفنّدة، إذ قرّرت أن هناك آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وفيها جوهر الدعوة وأسسها التي لا تتحمل تأويلًا، وهناك آيات متشابهات فلا يتمسّك بهذه ويتجاهل ذلك، أو يريد أن ينقض تلك بهذه على تأويل خاطئ، إلا من في قلبه زيغ.
لقد أورد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -لهم الآيات المحكمة التي تقرّ بجلاء ووضوح وحدانية الله بحيث لا يجوز في حقه سبحانه أبوّة ولا نبوّة ولا تعدد ولا تجزّؤ، ولا انفصال، وعليه إذا جاء في القرآن الكريم أنّ عيسى كلمة الله ومن روحه الذي أريد به بالتنويه بالمعجزة الربانيّة التي تمت بولادته بلا أب، فلا يصح أن يحاول بهذه نقض تلك الآيات المحكمة، فوحدانيّة الله أمرٌ محكم لا يتحمل أي كلام أو تأويل.
فعيسى عليه السلام مخلوق ويدلّ على ذلك قول الله تعالى:﴿ إِذ قَالَتِ ٱلمَلَٰئِكَةُ يَٰمَريَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنهُ ٱسمُهُ ٱلمَسِيحُ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ وَجِيها فِي ٱلدُّنيَا وَٱلأخِرَةِ وَمِنَ ٱلمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلمَهدِ وَكَهلا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * قَالَت رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَد وَلَم يَمسَسنِي بَشَر قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾(آل عمران: 45-47).
فهذه الآيات تبيّن أنّ عيسى عليه السلام ليس كما يقول النصارى أنّ قوله تعالى: (بِكَلِمَة مِّنهُ) نكرة في الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله وليس هو كلامه كما يقول النصارى، وبيّن سبحانه مراده بقوله: (بِكَلِمَة مِّنهُ) حيث قال في الآيات التالية:
- قال تعالى:﴿ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾(آل عمران: 47).
- كما قال في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران:59).
- وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ قَولَ ٱلحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَد سُبحَٰنَهُۥ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (مريم: 34-35)، فهذه الآيات كلها تبيّن أنه سبحانه وتعالى قال له (كُن فَيَكُونُ)، وهذا تفسير كونه كلمة منه.
وأما قول الله تعالى عن المسيح في سورة النساء: ﴿ إِنَّمَا ٱلمَسِيحُ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ أَلقَىٰهَا إِلَىٰ مَريَمَ وَرُوح مِّنهُ ﴾ (النساء: 171)، فقد بيّن مراده أنه خلقه بـــ (كُن) من غير واسطة الأب، فالمراد بها كلمة التكوين، فكلمة كُنْ تدلّ على التكوين وقدرة الله عند إرادته إيجاد الشيء وقد خلق المسيح بهذه (كُن) فكان عيسى، فالكُن من الله وعيسى بالكن كان ولذلك هو مخلوق.
وأمّا وصف المسيح بأنّه (وَرُوح مِّنهُ)، فلا يوجب أن يكون منفصلًا من ذات الله:
- كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرضِ جَمِيعا مِّنهُ ﴾ (الجاثية:13).
- وقوله تعالى:﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعمَة فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾(النحل:53).
- وقوله تعالى:﴿ مَّا أَصَابَكَ مِن حَسَنَة فَمِنَ ٱللَّهِ﴾(النساء:79).
- وقوله تعالى:﴿لَم يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ وَٱلمُشرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأتِيَهُمُ ٱلبَيِّنَةُ * رَسُول مِّنَ ٱللَّهِ يَتلُواْ صُحُفا مُّطَهَّرَة ﴾ (البيّنة:1-2).
فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة، وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة. و(وَرُوح مِّنهُ) ليست للتبعيض؛ لأنّ روح الله لا تتبعض ولا تتجزأ ولا تنقسم إلى أبعاض وجزيئات وأقسام، وإنّ (مِّنهنا لابتداء الغاية، فهي من عند الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى (وَرُوح مِّنهُ) إضافة الروح إلى الله هي إضافة أعيان منفصلة عن الله، فهي إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه، لكنها تقتضي تخصيصًا وتشريفًا يتميز به المضاف عن غيره، يعني أنها روح خيريّة مطيعة لله تعالى.
ولم يقتصر القرآن الكريم إضافة المسيح فقط إلى الله، بل إنه أضاف إلى الله الأمور الآتية، وكلها إضافات إليه تعالى إضافة تشريف:
- روح آدم عليه السلام في قول الله تعالى للملائكة عنه:﴿ وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَٰئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُ بَشَرا مِّن صَلصَٰل مِّن حَمَإ مَّسنُون * فَإِذَا سَوَّيتُهُۥ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ﴾(الحجر:28-29).
- الناقة إضافتها إلى الله وهي معجزة صالح عليه السلام إلى قومه ثمود، وذلك في قوله تعالى:﴿ كَذَّبَت ثَمُودُ بِطَغوَىٰهَا * إِذِ ٱنبَعَثَ أَشقَىٰهَا * فَقَالَ لَهُم رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقيَٰهَا ﴾(الشمس:11-13). ويتبيّن إذًا أنّ المقصود بالكلمة والروح غير ما قصده النصارى.
4. من مناقشات القرآن الكريم للموضوعات المشارة في الجدال:
إنَّ الآيات القرآنية التي نزلت على رسول الله بسبب وفد نصارى نجران -وهي من أول سورة آل عمران حتى بضع وثمانين آية منها -اشتملت على أغراض عدة، منها مناقشتها لعقيدتهم والتعرض لشبههم ومفترياتهم وبيان زيغها وبطلانها، وبُيّنت في افتتاحية سورة آل عمران بطلان عقيدة النصارى.
قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﴾(آل عمران:2)، أخبر الله عباده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الآلهة والأنوار وأن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا له لانفراده بالرّبوبية وتوحيده بالألوهية وأن كل ما دونه فَمِلكه وأن كل ما سواه فَخلقه لا شريك في سلطانه وملكه، فبيّن الله سبحانه وتعالى أن أحدًا لا يستحق العبادة سواه وهذا رد على النصارى لأنهم يقولون بعبادة عيسى عليه السلام.
وفي قوله:﴿ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:2)، ردّ عليهم في قولهم بأنّ المسيح ابن الله لأن الحيّ القيّوم يستحيل أن يكون له ولد، يقول فخر الدين الرازي: ثبت أنّ الولاء له يجب أن يكون حيًّا قيومًا، وثبت أنّ عيسى ما كان حيًّا قيومًا لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنّه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيًّا قيومًا وذلك يقتضي القطع والجزم بأنّه ما كان إلهًا فهذه الكلمة وهي قوله (ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُجامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.
وبعد هذه الدلائل الباهرة حذرهم الله سبحانه وتعالى من العذاب الشديد في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُم عَذَاب شَدِيد وَٱللَّهُ عَزِيز ذُو ٱنتِقَامٍ ﴾ (آل عمران: 4)، وفي قوله تعالى (ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ) أي هم الذين جحدوا آيات الله، وهي أعلام الله وأدلّته حججه.
يقول الطبري: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلّته على توحيده وأُلوهيته، وأنّ عيسى عبد الله واتخذوا المسيح إلهًا وربًا، أو ادّعوا لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
وفي قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخفَىٰ عَلَيهِ شَيء فِي ٱلأَرضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَاءِ ﴾(آل عمران: 5)، يعني بذلك جلّ ثناؤه: إنّ الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء، أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غير ذلك غرَّةً بالله وكفرًا به.
وبعد أن بيّن الله بالبراهين بطلان عقيدة النصارى وفسادها، بتقرير أنّ عيسى ما كان إلهًا، وما ينبغي له أن يكون إلهًا ولذلك لا يستحق العبادة وشرع في الرد على شبههم التي يتمسكون بها والتي من أهمها تلك الشبهة المتعلقة بولادة المسيح من غير أب.
قال تعالى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُم فِي ٱلأَرحَامِ كَيفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ ﴾ (آل عمران:6)، يعني بذلك جلّ ثناؤه: الله الذي يصوركم فيجعلكم صورًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وكيف أحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر، يعرّف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليهم أرحام النساء، وأن عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمّه وخلقه فيها كيف شاء وأحب، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمّه؛ لأن خلَّاق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة وإنّما تشتمل على المخلوقين.
لقد كان عيسى ممن صور في الأرحام، لا يدفعون بذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟
وذكرت الآيات في سورة آل عمران: أنّ حبّ الشهوات من الأموال والأولاد والجاه هو المانع لهم من اتباع الحق بعد معرفتهم به، مع أنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى وأعظم للمؤمنين المستغفرين الصابرين، وذكرت الآيات وجوهًا من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بألوهية المسيح وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، فلم يترك شبهة من شبههم إلا وناقشها ودحضها وأورد الدلائل والآيات والحجج والبراهين على فسادها وبطلانها وختم بما يدل على فساد كلامهم بالمباهلة.
وأمر الله نبيّه بأن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى عليه السلام بعد ظهور البيان.
ثالثا: المباهلة الحد الفاصل في الجدال:
إنَّ معنى المباهلة هو: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا لعنة الله على الظالم منّا وأن يخلص كلا الطرفين في الدعاء واللعن على كذب منهم.
وعندما فصل الله سبحانه وتعالى بين نبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم -وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل -أمره -إن هم تولّوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنّه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبده ورسوله، وأبَوا إلا الجدل والمخاصمة أن يدعوهم إلى الملاعنة.
ولذلك قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-:﴿ فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلعِلمِ فَقُل تَعَالَواْ نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلكَٰذِبِينَ ﴾(آل عمران:61).
- (فَمَن حَاجَّكَ) أي جادلك يا محمد.
- (فِيهِ) في المسيح عيسى ابن مريم.
- (مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلعِلمِ) الذي بيّنه الله لك في عيسى أنّه عبد الله ورسوله.
- (فَقُل) لهم قولًا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل.
- (تَعَالَواْ) هلمّوا.
- (نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل) نلتقي.
- (فَنَجعَل لَّعنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلكَٰذِبِينَ) منّا ومنكم في أنّه عيسى عبد الله ورسوله.
أي فإن استمروا على مُحاجّتهم إيّاك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة، والملاعنة، ذلك أنّ تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبيّنت لهم، فلم يبقَ أوضح مما حاججتهم به فاعلم إنما يحاجّوك عن مكابرة وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة في الآية السابقة.
ولذلك قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله تعالى أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك.
وبعد مشاورات بين وفد نصارى نجران كان القرار النهائي رفض المباهلة بأي حال من الأحوال، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا.
1. لماذا امتنعوا عن المباهلة:
لقد امتنعوا عن المباهلة خوفًا من عذاب الله لما يعلمون من صدقه صلى الله عليه وسلم وصحّة نبوّته، فقد أكدت الروايات الواردة عنهم اعتراضهم بأنّه النبيّ الذي بشّرت به الكتب.
- حيث قال عبد المسيح -العاقب-لهم: لقد علمتم ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم.
- وقال السيد للعاقب: قد والله علمتم أنّ الرجل لنبيٌّ مرسل ولإن لاعنتموه إنه لاستئصالكم.
- ولما رأى وفد نصارى نجران رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ومعه فاطمة والحسن والحسين وعلي، قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على أن الله أنّ يزيل الجبال لأزالها ولم يباهلوا.
إنَّ امتناعهم عن المباهلة برهانٌ واضح على نبوّته -صلى الله عليه وسلم-، فما الذي كان يمنعهم من المباهلة لولا أنّهم عرفوا يقينًا أنّه نبي، وأنهم عرفوا صحّة نبوّته بالدلائل وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين.
وإذ كان امتناعهم عن المباهلة يدل على صحّة نبوّته -صلى الله عليه وسلم -فإنّه أيضًا يدل بالضرورة على صحّة ما جاء به من أنّ عيسى عبد الله ورسوله وأنّه ليس كما يقول النصارى إله أو ابن إله، ولذلك لو كانوا متيقنين من صحّة ما يقولونه في عيسى لما خافوا من المباهلة والدعاء باللعنة على الكاذبين.
إنّه قد ظهر بالدعوة إلى المباهلة انقطاع حجج المكابرين، ودلّ نكولهم عنها على أنهم ليسوا على يقين من اعتقادهم ألوهية المسيح وفاقد اليقين يتزلزل عندما يدعى إلى شيءٍ يخاف عاقبته.
2. طلب وفد نجران الصلح:
رفض القوم المباهلة وأرادوا صلحًا يدفعون بسببه الجزية، وواقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلح، وحدّد لهم الجزية وكيفية تأديتها، وشرح لهم فيه الحقوق والواجبات، وأسس التعامل بينهم وبين المسلمين.
وقالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال صلى الله عليه وسلم: لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قدم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا أمين هذه الأمّة.
وفي قولهم: (إنّا نعطيك ما سألتنا) أي ما صالحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم -ألف حلّة في رجب وألف حلّة في صفر.
وقد أكّد الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لأهل نجران عدالة الإسلام وسماحته في التعامل مع غير المسلمين وفيه أيضًا التأكيد على حقوقهم وعلى التزام الدولة الإسلامية بحمايتهم وتوفير الأمن لهم وعدم التدخل في شؤونهم الدينيّة بالتغيير أو خلافه، فلا يغير أسقف ولا راهب، ولا كاهن، ولا حق من حقوقهم ولا سلطانهم لهم جوار الله ورسوله وأمانه وحمايته ما داموا ملتزمين بالصلح.
3. الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى:
عندما بين الله سبحانه وتعالى القول الحق في شأن عيسى عليه السلام وأقام الحجج والدلائل على الغالين فيه -يجعله ربًا وإلهًا -ثم إلزامهم عن طريق الوجدان بما دعاهم إلى المباهلة، لم يبقَ إلا أن يأمر نبيّه بأن يدعوهم إلى الحق واجب اتّباعه في الإيمان، ويدعوهم إلى أصل الدين الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء والرسل.
قال تعالى: ﴿قُل يَٰأَهلَ ٱلكِتَٰبِ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ ٱشهَدُواْ بِأَنَّا مُسلِمُونَ﴾ (آل عمران:64).
إنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -كان حريصًا على هداية القوم، وأورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وأقام الحجة عليهم، ودعاهم إلى المباهلة كما أمره ربّه، ثم بعد الصّلح أمره بدعوتهم إلى كلمة سواء، والوصول إلى الحقيقة الإيمانية المجرّدة من الهوى والتعصّب، والتقييد الأعمى.
فالإيمان بالله وحده لا شريك له هو هدف الرسالات السماويّة، ولذلك دعاهم النّبيّ إلى هذا الإيمان الذي هو الأساس والأصل الذي يربط بين الرسالات السماويّة كلها.
لقد دعاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الالتقاء عند هذا الأصل المشترك الذي يؤمن به كل أتباع الرّسل﴿ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ (آل عمران: 64).
ولذلك كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الآية أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت في كتبه إلى هرقل، والمقوقس، وغيرهما، ولولا أن هذه الآية الكريمة أساس الدين وعموده لما جعلها آية الدعوة إلى الإسلام.
الحلقة: الثانية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
أولا: مجالس الجدل والمناظرات:
1. أمر الله لرسوله بجدال أهل الكتاب:
دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم الناس إلى الإيمان بالله وحده لا شريك له وإلى تصديقه فيما يدعو إليه من دين الله وشريعته، مبيّنًا أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وأنّ شريعته ناسخة للشرائع السابقة.
والإيمان بالله وبالرّسل يقتضي الإيمان بالأنبياء والرّسل السّابقين ومن فرَّق بين رسل الله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرًا، ولذلك دعا النّبيّ صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إلى الإيمان بدعوته وتصديقه وجادل وناظر أهل الكتاب واندفع اليهود لمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين وناقشوهم مناقشة دينيّة أخذت أولًا دورًا دينيًّا هادئًا –كما يقول الشيخ أبو زهرة- ثم أخذت من جانبهم سبّاً واستهزاء وخيانة، حتى اضطرّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى إجلاء بعضهم ومحاربة الآخرين، وفي دور المجادلة كانت المجادلة واسعة النّطاق غير محدودة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب أقوامًا يقرّون بكتاب ويؤمنون برسل، فالنّبيّ كان يلزمهم بما جاء في كتبهم وينفي عليهم مخالفتهم لما جاءت به رسلهم وهم كانوا لعلمهم بالكتاب يوجهون أسئلة فيها شيءٌ من الدقّة والمعرفة وإن كانوا ضالّين.
وقد أمر الله نبيّه -صلى الله عليه وسلم -أن يدعو أهل الكتاب إلى دين الله وأن يجادلهم إن استدعى الأمر ذلك، وأرشده إلى الجدل بالحسنى، قال تعالى:﴿ ٱدعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلحِكمَةِ وَٱلمَوعِظَةِ ٱلحَسَنَةِ وَجَٰدِلهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ﴾(النحل:125)، كما جاء في قوله تعالى:﴿ وَلَا تُجَٰدِلُواْ أَهلَ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحسَنُ ﴾(العنكبوت:46)، لذا فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمناظرة ومجادلة أهل الكتاب خير قيام وممن ناظرهم رسول الله وفد نجران.
2. حضور أطراف عديدة مجالس المناظرة:
لم تكن مجالس المناظرات بمعزل عن الناس، حيث حضرها أطراف عديدة من المسلمين واليهود والنصارى وكانت جلسات المناظرة حاشدة، إذ شهدها أعضاء الوفود، وشهدها فريق كبير من المسلمين أو كبارهم، وحضرها بعض سكان المدينة من اليهود وجادلوا النصارى في بعض مسائل العقيدة.
قال ابن إسحاق: ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شيءٍ وكفر بعيسى والإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيءٍ وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله تعالى في ذلك: ﴿ وَقَالَتِ ٱليَهُودُ لَيسَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ عَلَىٰ شَيء وَقَالَتِ ٱلنَّصَٰرَىٰ لَيسَتِ ٱليَهُودُ عَلَىٰ شَيء وَهُم يَتلُونَ ٱلكِتَٰبَ كَذَٰلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ مِثلَ قَولِهِم فَٱللَّهُ يَحكُمُ بَينَهُم يَومَ ٱلقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَختَلِفُونَ﴾ (البقرة: 113).
وتنازعوا أيضًا في إبراهيم عليه السلام فاليهود يدّعون أنّه يهودي وأنهم على دينه، بينما يدّعي النصارى أن إبراهيم عليه السلام ما كان إلا نصرانيًّا، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ ياأَهلَ ٱلكِتَٰبِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبرَٰهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ ٱلتَّورَىٰةُ وَٱلإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعدِهِۦ أَفَلَا تَعقِلُونَ * هَٰأَنتُم هَٰؤُلَاءِ حَٰجَجتُم فِيمَا لَكُم بِهِۦ عِلم فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيسَ لَكُم بِهِۦ عِلم وَٱللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعلَمُونَ * مَا كَانَ إِبرَٰهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصرَانِيّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفا مُّسلِما وَمَا كَانَ مِنَ ٱلمُشرِكِينَ * إِنَّ أَولَى ٱلنَّاسِ بِإِبرَٰهِيمَ لَلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا ٱلنَّبِيُّ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلمُؤمِنِينَ﴾ (آل عمران: 65-68).
ويبدو أيضًا أن اليهود تدخلوا في بعض المناظرات التي كانت بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ونصارى نجران، فقد قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟، فقال رجل من أهل نجران نصراني -يقال له الربيس-: أوذاك تريد منّا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غيره وما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ ٱللَّهُ ٱلكِتَٰبَ وَٱلحُكمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادا لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّنَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ ٱلكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ * وَلَا يَأمُرَكُم أَن تَتَّخِذُواْ ٱلمَلَٰئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّنَ أَربَابًا أَيَأمُرُكُم بِٱلكُفرِ بَعدَ إِذ أَنتُم مُّسلِمُونَ﴾ (آل عمران: 79-80).
ثانيا: موضوعات الجدل:
جادل نصارى نجران رسول الله -صلى الله عليه وسلم - في موضوعات عديدة تتعلّق بالعقيدة النصرانيّة، من أهمها:
1. ادعاؤهم أُلوهية المسيح لولادته من غير أب:
ناقش رسول الله -صلى الله عليه وسلم -نصارى نجران فيما يعتقدون بأن ولادة المسيح من غير أب هي دليل على ألوهيته، وقد رُويت روايات عديدة بشأن المناظرات حول هذه الشبهة، نذكر بعضًا منها فيما يلي:
روى ابن جرير الطبري عن الربيع في قوله تعالى:﴿ الم * ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:1-2)، قال: إن النصارى أَتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا.
فقال لهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟
قالوا: بلى. فقال: ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا: بلى. وقال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّمٌ على كل شيءٍ يكلأه ويحفظه ويرزقه؟
قالوا: بلى. ثم قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟
قالوا: لا. فقال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى. فقال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟
قالوا: لا.
قال: فإن ربنا صوّرَ عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون ذلك؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غُذِّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب، ويُحدث الحدث؟
قالوا: بلى.
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
قال: فعرفوا، ثم أَبوا إلّا جحودًا، فأنزل الله عز وجل:﴿ الم * ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:1-2).
وواضح من الرواية السابقة أن محور هذه المناظرة كان هو الحديث عن بشريّة عيسى عليه السلام، وقد ساق لهم النبي صلى الله عليه وسلم الدلائل والبراهين الواضحة على كون عيسى عبد الله ورسوله وفنّد النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهم شبهة أنه إله أو ابن إله لكونه ولد من غير أب، ويبدو أن هذا الموضوع أخذ حيّزًا كبيرًا من المناقشات والمناظرات؛ لأنه أساس عقيدتهم النصرانيّة.
وقد نزلت الآيات القرآنية تردُّ على عقائد النصارى في صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية اشتملت على الحجج الدامغة لبطلان شبه النصارى.
2. ادعاؤهم ألوهية المسيح بسبب معجزاته:
روى ابن جرير الطبري عن ابن جرير عن عكرمة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران:59)، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم السيّد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال: من صاحبكما؟ قالا: عيسى بن مريم، تزعم أنه عَبد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا، فأرنا عبدًا يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله. فسكت حتى أتاه جبريل فقال: يا محمد:﴿ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...﴾(المائدة: 72).
ونزل القرآن الكريم وأوضح حقيقة هذه المعجزات كما بيّنها في الصفحات السابقة، فالمسيح عليه السلام لم ينسب المعجزة إلى نفسه بل نسبها إلى الله، كما هو واضح في الآيات السابقة في قوله: (بِإِذنِ ٱللَّهِ)، أي بتكوين الله وتخليقه، فالخالق والمحيي في الحقيقة هو الله ولذلك لم ينسب المسيح إلى نفسه أي قدرة في فعل هذه المعجزات.
إن هذه المعجزات قد بينّا في حديثنا عنها أنها تدلُّ على نبوّته ورسالته لا على ألوهيته، من أراد التوسع فليرجع إلى ما فصّلنا.
3. تأويلاتهم لوصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه:
ناقش النصارى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وجادلوه في معنى وصف الله لعيسى بأنه روح الله وكلمته، حاجّوه وخاصموه وقالوا: ألست تزعم أنّه كلمة الله وروح منه؟ قال: بلى. قالوا: فحسبنا، وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
فأنزل الله تعالى:﴿ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم زَيغ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَٰبَهَ مِنهُ ٱبتِغَاءَ ٱلفِتنَةِ ﴾(آل عمران:7)، ثم إن الله جلّ ثناؤه أنزل:﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ ﴾(آل عمران: 59).
بيّنت الآية الأولى أن سؤالهم فيه مغالطة وردّت عليهم مفنّدة، إذ قرّرت أن هناك آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وفيها جوهر الدعوة وأسسها التي لا تتحمل تأويلًا، وهناك آيات متشابهات فلا يتمسّك بهذه ويتجاهل ذلك، أو يريد أن ينقض تلك بهذه على تأويل خاطئ، إلا من في قلبه زيغ.
لقد أورد النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -لهم الآيات المحكمة التي تقرّ بجلاء ووضوح وحدانية الله بحيث لا يجوز في حقه سبحانه أبوّة ولا نبوّة ولا تعدد ولا تجزّؤ، ولا انفصال، وعليه إذا جاء في القرآن الكريم أنّ عيسى كلمة الله ومن روحه الذي أريد به بالتنويه بالمعجزة الربانيّة التي تمت بولادته بلا أب، فلا يصح أن يحاول بهذه نقض تلك الآيات المحكمة، فوحدانيّة الله أمرٌ محكم لا يتحمل أي كلام أو تأويل.
فعيسى عليه السلام مخلوق ويدلّ على ذلك قول الله تعالى:﴿ إِذ قَالَتِ ٱلمَلَٰئِكَةُ يَٰمَريَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَة مِّنهُ ٱسمُهُ ٱلمَسِيحُ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ وَجِيها فِي ٱلدُّنيَا وَٱلأخِرَةِ وَمِنَ ٱلمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلمَهدِ وَكَهلا وَمِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * قَالَت رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَد وَلَم يَمسَسنِي بَشَر قَالَ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾(آل عمران: 45-47).
فهذه الآيات تبيّن أنّ عيسى عليه السلام ليس كما يقول النصارى أنّ قوله تعالى: (بِكَلِمَة مِّنهُ) نكرة في الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله وليس هو كلامه كما يقول النصارى، وبيّن سبحانه مراده بقوله: (بِكَلِمَة مِّنهُ) حيث قال في الآيات التالية:
- قال تعالى:﴿ كَذَٰلِكِ ٱللَّهُ يَخلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾(آل عمران: 47).
- كما قال في الآية الأخرى: ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُۥ مِن تُرَاب ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (آل عمران:59).
- وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ قَولَ ٱلحَقِّ ٱلَّذِي فِيهِ يَمتَرُونَ ٣٤ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَد سُبحَٰنَهُۥ إِذَا قَضَىٰ أَمرا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ ﴾ (مريم: 34-35)، فهذه الآيات كلها تبيّن أنه سبحانه وتعالى قال له (كُن فَيَكُونُ)، وهذا تفسير كونه كلمة منه.
وأما قول الله تعالى عن المسيح في سورة النساء: ﴿ إِنَّمَا ٱلمَسِيحُ عِيسَى ٱبنُ مَريَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُۥ أَلقَىٰهَا إِلَىٰ مَريَمَ وَرُوح مِّنهُ ﴾ (النساء: 171)، فقد بيّن مراده أنه خلقه بـــ (كُن) من غير واسطة الأب، فالمراد بها كلمة التكوين، فكلمة كُنْ تدلّ على التكوين وقدرة الله عند إرادته إيجاد الشيء وقد خلق المسيح بهذه (كُن) فكان عيسى، فالكُن من الله وعيسى بالكن كان ولذلك هو مخلوق.
وأمّا وصف المسيح بأنّه (وَرُوح مِّنهُ)، فلا يوجب أن يكون منفصلًا من ذات الله:
- كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرضِ جَمِيعا مِّنهُ ﴾ (الجاثية:13).
- وقوله تعالى:﴿ وَمَا بِكُم مِّن نِّعمَة فَمِنَ ٱللَّهِ ﴾(النحل:53).
- وقوله تعالى:﴿ مَّا أَصَابَكَ مِن حَسَنَة فَمِنَ ٱللَّهِ﴾(النساء:79).
- وقوله تعالى:﴿لَم يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ وَٱلمُشرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأتِيَهُمُ ٱلبَيِّنَةُ * رَسُول مِّنَ ٱللَّهِ يَتلُواْ صُحُفا مُّطَهَّرَة ﴾ (البيّنة:1-2).
فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة، وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة. و(وَرُوح مِّنهُ) ليست للتبعيض؛ لأنّ روح الله لا تتبعض ولا تتجزأ ولا تنقسم إلى أبعاض وجزيئات وأقسام، وإنّ (مِّنهنا لابتداء الغاية، فهي من عند الله سبحانه وتعالى.
وفي قوله تعالى (وَرُوح مِّنهُ) إضافة الروح إلى الله هي إضافة أعيان منفصلة عن الله، فهي إضافة مخلوق إلى خالقه ومصنوع إلى صانعه، لكنها تقتضي تخصيصًا وتشريفًا يتميز به المضاف عن غيره، يعني أنها روح خيريّة مطيعة لله تعالى.
ولم يقتصر القرآن الكريم إضافة المسيح فقط إلى الله، بل إنه أضاف إلى الله الأمور الآتية، وكلها إضافات إليه تعالى إضافة تشريف:
- روح آدم عليه السلام في قول الله تعالى للملائكة عنه:﴿ وَإِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلَٰئِكَةِ إِنِّي خَٰلِقُ بَشَرا مِّن صَلصَٰل مِّن حَمَإ مَّسنُون * فَإِذَا سَوَّيتُهُۥ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُۥ سَٰجِدِينَ ﴾(الحجر:28-29).
- الناقة إضافتها إلى الله وهي معجزة صالح عليه السلام إلى قومه ثمود، وذلك في قوله تعالى:﴿ كَذَّبَت ثَمُودُ بِطَغوَىٰهَا * إِذِ ٱنبَعَثَ أَشقَىٰهَا * فَقَالَ لَهُم رَسُولُ ٱللَّهِ نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقيَٰهَا ﴾(الشمس:11-13). ويتبيّن إذًا أنّ المقصود بالكلمة والروح غير ما قصده النصارى.
4. من مناقشات القرآن الكريم للموضوعات المشارة في الجدال:
إنَّ الآيات القرآنية التي نزلت على رسول الله بسبب وفد نصارى نجران -وهي من أول سورة آل عمران حتى بضع وثمانين آية منها -اشتملت على أغراض عدة، منها مناقشتها لعقيدتهم والتعرض لشبههم ومفترياتهم وبيان زيغها وبطلانها، وبُيّنت في افتتاحية سورة آل عمران بطلان عقيدة النصارى.
قال تعالى:﴿ ٱللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ﴾(آل عمران:2)، أخبر الله عباده أن الألوهية خاصة به دون ما سواه من الآلهة والأنوار وأن العبادة لا تصلح ولا تجوز إلا له لانفراده بالرّبوبية وتوحيده بالألوهية وأن كل ما دونه فَمِلكه وأن كل ما سواه فَخلقه لا شريك في سلطانه وملكه، فبيّن الله سبحانه وتعالى أن أحدًا لا يستحق العبادة سواه وهذا رد على النصارى لأنهم يقولون بعبادة عيسى عليه السلام.
وفي قوله:﴿ ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُ ﴾(آل عمران:2)، ردّ عليهم في قولهم بأنّ المسيح ابن الله لأن الحيّ القيّوم يستحيل أن يكون له ولد، يقول فخر الدين الرازي: ثبت أنّ الولاء له يجب أن يكون حيًّا قيومًا، وثبت أنّ عيسى ما كان حيًّا قيومًا لأنه ولد، وكان يأكل ويشرب ويحدث، والنصارى زعموا أنّه قتل وما قدر على دفع القتل عن نفسه، فثبت أنه ما كان حيًّا قيومًا وذلك يقتضي القطع والجزم بأنّه ما كان إلهًا فهذه الكلمة وهي قوله (ٱلحَيُّ ٱلقَيُّومُجامعة لجميع وجوه الدلائل على بطلان قول النصارى في التثليث.
وبعد هذه الدلائل الباهرة حذرهم الله سبحانه وتعالى من العذاب الشديد في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِ لَهُم عَذَاب شَدِيد وَٱللَّهُ عَزِيز ذُو ٱنتِقَامٍ ﴾ (آل عمران: 4)، وفي قوله تعالى (ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ) أي هم الذين جحدوا آيات الله، وهي أعلام الله وأدلّته حججه.
يقول الطبري: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلّته على توحيده وأُلوهيته، وأنّ عيسى عبد الله واتخذوا المسيح إلهًا وربًا، أو ادّعوا لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
وفي قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَخفَىٰ عَلَيهِ شَيء فِي ٱلأَرضِ وَلَا فِي ٱلسَّمَاءِ ﴾(آل عمران: 5)، يعني بذلك جلّ ثناؤه: إنّ الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء، أي قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غير ذلك غرَّةً بالله وكفرًا به.
وبعد أن بيّن الله بالبراهين بطلان عقيدة النصارى وفسادها، بتقرير أنّ عيسى ما كان إلهًا، وما ينبغي له أن يكون إلهًا ولذلك لا يستحق العبادة وشرع في الرد على شبههم التي يتمسكون بها والتي من أهمها تلك الشبهة المتعلقة بولادة المسيح من غير أب.
قال تعالى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُم فِي ٱلأَرحَامِ كَيفَ يَشَاءُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلعَزِيزُ ٱلحَكِيمُ ﴾ (آل عمران:6)، يعني بذلك جلّ ثناؤه: الله الذي يصوركم فيجعلكم صورًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وكيف أحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر، يعرّف عباده بذلك أن جميع من اشتملت عليهم أرحام النساء، وأن عيسى ابن مريم ممن صوّره في رحم أمّه وخلقه فيها كيف شاء وأحب، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمّه؛ لأن خلَّاق ما في الأرحام لا تكون الأرحام عليه مشتملة وإنّما تشتمل على المخلوقين.
لقد كان عيسى ممن صور في الأرحام، لا يدفعون بذلك ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟
وذكرت الآيات في سورة آل عمران: أنّ حبّ الشهوات من الأموال والأولاد والجاه هو المانع لهم من اتباع الحق بعد معرفتهم به، مع أنّ ما عند الله خيرٌ وأبقى وأعظم للمؤمنين المستغفرين الصابرين، وذكرت الآيات وجوهًا من الدلائل القاطعة على فساد قول النصارى بألوهية المسيح وأتبعها بذكر الجواب عن جميع شبههم على سبيل الاستقصاء التام، فلم يترك شبهة من شبههم إلا وناقشها ودحضها وأورد الدلائل والآيات والحجج والبراهين على فسادها وبطلانها وختم بما يدل على فساد كلامهم بالمباهلة.
وأمر الله نبيّه بأن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى عليه السلام بعد ظهور البيان.
ثالثا: المباهلة الحد الفاصل في الجدال:
إنَّ معنى المباهلة هو: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا لعنة الله على الظالم منّا وأن يخلص كلا الطرفين في الدعاء واللعن على كذب منهم.
وعندما فصل الله سبحانه وتعالى بين نبيّه محمد -صلى الله عليه وسلم -وبين الوفد من نصارى نجران بالقضاء الفاصل والحكم العادل -أمره -إن هم تولّوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنّه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبده ورسوله، وأبَوا إلا الجدل والمخاصمة أن يدعوهم إلى الملاعنة.
ولذلك قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-:﴿ فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلعِلمِ فَقُل تَعَالَواْ نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلكَٰذِبِينَ ﴾(آل عمران:61).
- (فَمَن حَاجَّكَ) أي جادلك يا محمد.
- (فِيهِ) في المسيح عيسى ابن مريم.
- (مِن بَعدِ مَا جَاءَكَ مِنَ ٱلعِلمِ) الذي بيّنه الله لك في عيسى أنّه عبد الله ورسوله.
- (فَقُل) لهم قولًا يظهر علمك الحق وارتيابهم الباطل.
- (تَعَالَواْ) هلمّوا.
- (نَدعُ أَبنَاءَنَا وَأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل) نلتقي.
- (فَنَجعَل لَّعنَتَ ٱللَّهِ عَلَى ٱلكَٰذِبِينَ) منّا ومنكم في أنّه عيسى عبد الله ورسوله.
أي فإن استمروا على مُحاجّتهم إيّاك مكابرة في هذا الحق أو في شأن عيسى فادعهم إلى المباهلة، والملاعنة، ذلك أنّ تصميمهم على معتقدهم بعد هذا البيان مكابرة محضة بعد ما جاءك من العلم وبيّنت لهم، فلم يبقَ أوضح مما حاججتهم به فاعلم إنما يحاجّوك عن مكابرة وقلة يقين، فادعهم إلى المباهلة بالملاعنة الموصوفة في الآية السابقة.
ولذلك قال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إنّ الله تعالى أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم، فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك.
وبعد مشاورات بين وفد نصارى نجران كان القرار النهائي رفض المباهلة بأي حال من الأحوال، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا.
1. لماذا امتنعوا عن المباهلة:
لقد امتنعوا عن المباهلة خوفًا من عذاب الله لما يعلمون من صدقه صلى الله عليه وسلم وصحّة نبوّته، فقد أكدت الروايات الواردة عنهم اعتراضهم بأنّه النبيّ الذي بشّرت به الكتب.
- حيث قال عبد المسيح -العاقب-لهم: لقد علمتم ما لاعن قوم نبيًّا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم.
- وقال السيد للعاقب: قد والله علمتم أنّ الرجل لنبيٌّ مرسل ولإن لاعنتموه إنه لاستئصالكم.
- ولما رأى وفد نصارى نجران رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ومعه فاطمة والحسن والحسين وعلي، قالوا: هذه وجوه لو أقسمت على أن الله أنّ يزيل الجبال لأزالها ولم يباهلوا.
إنَّ امتناعهم عن المباهلة برهانٌ واضح على نبوّته -صلى الله عليه وسلم-، فما الذي كان يمنعهم من المباهلة لولا أنّهم عرفوا يقينًا أنّه نبي، وأنهم عرفوا صحّة نبوّته بالدلائل وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين.
وإذ كان امتناعهم عن المباهلة يدل على صحّة نبوّته -صلى الله عليه وسلم -فإنّه أيضًا يدل بالضرورة على صحّة ما جاء به من أنّ عيسى عبد الله ورسوله وأنّه ليس كما يقول النصارى إله أو ابن إله، ولذلك لو كانوا متيقنين من صحّة ما يقولونه في عيسى لما خافوا من المباهلة والدعاء باللعنة على الكاذبين.
إنّه قد ظهر بالدعوة إلى المباهلة انقطاع حجج المكابرين، ودلّ نكولهم عنها على أنهم ليسوا على يقين من اعتقادهم ألوهية المسيح وفاقد اليقين يتزلزل عندما يدعى إلى شيءٍ يخاف عاقبته.
2. طلب وفد نجران الصلح:
رفض القوم المباهلة وأرادوا صلحًا يدفعون بسببه الجزية، وواقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الصلح، وحدّد لهم الجزية وكيفية تأديتها، وشرح لهم فيه الحقوق والواجبات، وأسس التعامل بينهم وبين المسلمين.
وقالوا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم -: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلًا أمينًا ولا تبعث معنا إلا أمينًا، فقال صلى الله عليه وسلم: لأبعثن معكم رجلًا أمينًا حق أمين، فاستشرف له أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجرّاح، فلما قدم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا أمين هذه الأمّة.
وفي قولهم: (إنّا نعطيك ما سألتنا) أي ما صالحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم -ألف حلّة في رجب وألف حلّة في صفر.
وقد أكّد الكتاب الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -لأهل نجران عدالة الإسلام وسماحته في التعامل مع غير المسلمين وفيه أيضًا التأكيد على حقوقهم وعلى التزام الدولة الإسلامية بحمايتهم وتوفير الأمن لهم وعدم التدخل في شؤونهم الدينيّة بالتغيير أو خلافه، فلا يغير أسقف ولا راهب، ولا كاهن، ولا حق من حقوقهم ولا سلطانهم لهم جوار الله ورسوله وأمانه وحمايته ما داموا ملتزمين بالصلح.
3. الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى:
عندما بين الله سبحانه وتعالى القول الحق في شأن عيسى عليه السلام وأقام الحجج والدلائل على الغالين فيه -يجعله ربًا وإلهًا -ثم إلزامهم عن طريق الوجدان بما دعاهم إلى المباهلة، لم يبقَ إلا أن يأمر نبيّه بأن يدعوهم إلى الحق واجب اتّباعه في الإيمان، ويدعوهم إلى أصل الدين الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء والرسل.
قال تعالى: ﴿قُل يَٰأَهلَ ٱلكِتَٰبِ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَإِن تَوَلَّواْ فَقُولُواْ ٱشهَدُواْ بِأَنَّا مُسلِمُونَ﴾ (آل عمران:64).
إنّ النّبيّ -صلى الله عليه وسلم -كان حريصًا على هداية القوم، وأورد على نصارى نجران أنواع الدلائل وأقام الحجة عليهم، ودعاهم إلى المباهلة كما أمره ربّه، ثم بعد الصّلح أمره بدعوتهم إلى كلمة سواء، والوصول إلى الحقيقة الإيمانية المجرّدة من الهوى والتعصّب، والتقييد الأعمى.
فالإيمان بالله وحده لا شريك له هو هدف الرسالات السماويّة، ولذلك دعاهم النّبيّ إلى هذا الإيمان الذي هو الأساس والأصل الذي يربط بين الرسالات السماويّة كلها.
لقد دعاهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الالتقاء عند هذا الأصل المشترك الذي يؤمن به كل أتباع الرّسل﴿ تَعَالَواْ إِلَىٰ كَلِمَة سَوَاءِ بَينَنَا وَبَينَكُم أَلَّا نَعبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشرِكَ بِهِۦ شَئا وَلَا يَتَّخِذَ بَعضُنَا بَعضًا أَربَابا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ (آل عمران: 64).
ولذلك كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو بهذه الآية أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت في كتبه إلى هرقل، والمقوقس، وغيرهما، ولولا أن هذه الآية الكريمة أساس الدين وعموده لما جعلها آية الدعوة إلى الإسلام.
مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (390:376)
- أحمد علي عجينة، نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص 179.
- محمد الطاهر عاشور، التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، 3/264.
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (390:376)
- أحمد علي عجينة، نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2004م، ص 179.
- محمد الطاهر عاشور، التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، 3/264.