عيسى عليه السلام يبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم: (2)
الحلقة: التاسعة و الثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شعبان 1441 ه/ أبريل 2020م
أ- بشارات من إنجيل برنابا:
يُعدُّ برنابا قديساً، تجلُّه الكنيسة وتعظِّمه، وهو مذكور في )أعمال الرسال( بالتجلَّة والإكبار، ولهذا القديس إنجيل ينسب إليه، ورد اسمه في طائفة الأناجيل الممنوعة قبل الإسلام، وجاء في كتاب )محمد في التوراة والإنجيل والقرآن( إنجيل برنابا.
ويقال: إن البابا جلاسيوس قد حرم قراءة هذا الإنجيل سنة 492م، وأعلن الدكتور تشارلس فرنسيس بوتر في كتابه: السنون المفقودة من عيسى تكشف أن إنجيلاً يدعى إنجيل برنابا استبعدته الكنيسة في عهدها الأول، والمخطوطات التي اكتشفت حديثاً في منطقة البحر الميت جاءت مؤيدة لهذا الإنجيل.
وتوالت بعد ذلك الاكتشافات التي لم يسمع عنها الجمهور لدينا كثيراً، وهذا هو سر التعجب، فالمصادر التي تذكر هذه الأمور وكلها أجنبية غربية، قد ذكرت أن مخطوطاً آخر في الفيوم، وآخر في مصر العليا.
وجاء فيه: إن الأمر البابوي الذي أصدره البابا جلاسيوس الذي جلس على الأريكة البابوية 492م، يبين أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها، وفي عدادها كتاب يسمى (إنجيل برنابا). وفي هذا دليل قاطع على أن الإنجيل كان موجوداً قبل ظهور الإسلام، ومشهوراً بين خاصة العلماء.
وقد وجِدت نسخة من إنجيل برنابا في جوّ مسيحي خالص، فإن النسخة الوحيدة المعروفة الآن في العالم التي نقل عنها هذا الإنجيل إنما هي نسخة إيطالية في مكتبة بلاط فينا... وأول من عثر على النسخة الإيطالية ممن لم يحف التاريخ أثرهم، هو كريمر أحد مستشاري ملك روسيا... ثم انتقلت إلى كريمر طولند، ثم أهداها الأخير إلى البرنس أوجين سافوي، وقد وجد النسخة الإيطالية راهب لاتيني يسمى (فرامرينو)، وذلك أن هذا الراهب عثر على رسائل لايرينايوس، وفي عدادها رسالة يندد فيها بالقديس بولس الرسول، وإن أرينايوس أسند تنديده هذا إلى إنجيل القديس برنابا، فأصبح من ذلك الحين الراهب (مرينو) المشار إليه شديد الشغف بالعثور على هذا الإنجيل.
واتفق أنه أصبح حيناً من الدهر مقرباً من البابا سكتس الخامس، فحدث يوماً أنهما دخلا معاً مكتبة البابا، فدخل النوم على أحضان قداسته، فأحب (مرينو) أن يقتل الوقت بالمطالعة إلى أن يفيق البابا، فكان الكتاب الأول الذي وضع يده عليه هو هذا الإنجيل نفسه، فكاد أن يطير فرحاً من هذا الاكتشاف، فخبأ هذه الذخيرة الثمينة في أحد ردنيه، ولبث إلى أن استفاق البابا، فاستأذنه بالانصراف حاملاً ذلك الكنز معه، فلما خلا بنفسه طالعه بشوق عظيم، فاعتنق على إثر ذلك الدين الإسلامي.
ثم إنه لم يرد ذكر لهذا الإنجيل في كتابات مشاهير الكتاب المسلمين، سواء في الأعصر القديمة أو الحديثة، حتى ولا في مؤلفات من انقطع منهم إلى الأبحاث والمجادلات الدينية مع أن إنجيل برنابا أمضى سلاحاً لهم في مثل تلك المناقشات، وليس ذلك فقط، بل لم يرد ذكرٌ لهذا الإنجيل في فهارس الكتب العربية القديمة عند الأعارب أو الأعاجم أو المستشرقين الذين وضعوا فهارس لأندر الكتب العربية من قديمة وحديثة.
وتحرم الكنيسة قراءة هذا الإنجيل ولا تعترف به لأنه يقوم على أسس تخالف عقائد الكنيسة تماماً، فهو ينكر ألوهية المسيح وأنه ابن الله، ويقول هو عبد الله ورسوله، وينكر الصليب، ويورد اسم محمد صلى الله عليه وسلم صراحة في كثير من المواطن، ومن ذلك على سبيل المثال:
- ما جاء في (14:39) فلما انتصب آدم على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس نصّها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
- وجاء في الإصحاح الحادي والأربعين: (29): فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس (30) فلما التفت آدم رآى مكتوباً فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
- وفي الإصحاح الرابع والخمسين يتلكم عن يوم الحشر إلى أن يقول ... ثم يحيي الله بعد ذلك سائر الأصفياء الذين يصرخون: اذكرنا يا محمد.
- وفي (14:97) أجاب يسوع أن اسم منسيَّاً عجيب... إلى أن يقول: قال الله اصبر يا محمد ... (17)، إن اسمه المبارك محمد.
- وفي (17:12) ولكني متى جاء محمد رسول الله المقدس تزال عني هذه الوصمة.
- وفي (7:113) أجاب التلاميذ يا معلم من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه، الذي سيأتي إلى العالم؟
- وفي (8) أجاب يسوع بابتهاج قلب: إنه محمد رسول الله. إلى غير ذلك من البشارات المبثوثة في هذا الإنجيل.
ب- عبد الأحد داود وكتابه (محمد في الكتاب المقدس):
ألّف البروفيسور عبد الأحد داود كتابه (محمد في الكتاب المقدس)، وكان داود قسيساً كبيراً للكلدانيين التابعين للروم الكاثوليك، وكان اسمه (دافيد بنجامين كلداني)، وقد درس الكتاب المقدس بقسميه العهد القديم والعهد الجديد، دراسة متأنية، واستخرج منها بشارات أنبياء بني إسرائيل بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم ، وبشارة عيسى عليه السلام الصريحة به، ووقف على تحريف النصارى لهذه البشارات، ودفعه ذلك البحث إلى الاقتناع بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله وخاتم النبيين، فتخلّى عن النصرانية، ودخل في الإسلام، وألف نتيجة بحثه في كتاب بالإنجليزية وقد ترجم كتابه إلى العربية فهمي شما، وطبعته رئاسة المحاكم الشرعية في قطر عام 1985م- 1405ه.
قال البروفيسور عبد الأحد داود: وردت بشارة عيسى بأحمد -عليهما السلام -في إنجيل يوحنا في الإصحاحات الرابع عشر، والخامس عشر، والسادس عشر.
وسجل تحريفات رهبان النصارى لتلك البشارات، ويهمُّنا هنا أن نقف مع جملةٍ واحدة وردت في الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا، تتوافق تلك الجملة الأصلية غير المحرّفة مع الآية القرآنية تماماً: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
والعبارة الأصلية الصحيحة في إنجيل يوحنا، كما وقف عليها البروفيسور عبد الأحد داود هي وسوف أذهب إلى الأب، وسيرسل لك رسولاً سيكون اسمه (البرقليطوس)؛ لكي يبقى معكم إلى الأبد، و(البرقليطوس) هو أحمد، ولكن النصارى حرفوا هذه العبارة إلى العبارة التالية (وسوف أسأل الأب، وسوف يعطيكم (برقليطوس آخر)، يبقى معكم إلى الأبد.
وفرق بعيد -ما يقول عبد الأحد داود-بين العبارة الأصلية (البرقليطوس) بالتعريف والتحديد، وبين (برقليطوس آخر) في العبارة المحرفة، الذي يدل على أن عيسى عليه السلام عنده مجموعة من (البرقليطيسيين)، وكلمة (برقليطوس آخر) دلَّت على أن المراد بها عند النصارى (المعزِّي) أو (الوسيط) أو (المعين) وليس الرسول الخاتم.
إنَّ (البرقليطوس) كلمة يونانية إغريقية معناها بالعربية -بالضبط-(الأمجد والأشهر) المشتق من التمجيد والثناء وهو (أحمد) المذكور في القرآن، والصيغة الآرامية -التي كان يتلكم بها عيسى عليه السلام-الواردة في بشارة عيسى عليه السلام هي )محامداً أو حميداً)، وهي متناسقة مع الصيغة العربية (محمد) أو (أحمد) تماماً .
وقد خرج البروفيسور عبد الأحد داود -رحمه الله -في بحثه بنتيجة قاطعة قال فيها: إنَّ التنزيل القرآني القائل بأن عيسى ابن مريم -عليهما السلام -أعلن لبني إسرائيل أنه كان (مبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) واحد من أقوى البراهين على أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان حقيقة نبيّاً، وإنَّ القرآن تنزيل إلهي فعلاً.
إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة (البرقليطوس) كانت تعني (أحمد) إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن قاطعة ونهاية، بأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك كلمة (أحمد ومحمد)، ومن المدهش أن هذا الاسم الفريد، الذي لم يُعط لأحد من قبل، كان «محجوزاً» بصورة معجزة لأشهر رسل الله، وأجدرهم بالثناء، ونحن لا نجد أبداً أيَّ يونانيّ كان يحمل اسم «برقليطوس» ولا أيَّ عربي كان يحمل اسم (أحمد).
وإذا كان عبد الأحد داود قد وقف على تحريف الأناجيل لمعنى كلمة (البرقليطوس) إلى كلمة (برقليطوس آخر) وفرق بعيد بين الكلمتين، فإن ترجمات إنجيل يوحنا إلى العربية جعلت الكلمة بمعنى (المعزّي) وبمعنى (المعين). وأمامي ترجمتان للكتاب المقدس ولإنجيل يوحنا:
الأولى: ترجمة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، والمطبوعة في القدس عام 1984م. وقد ترجمت كلمة )برقليطوس( إلى )معزي). والعبارة السابقة التي أوردها عبد الأحد داود من الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا، نصُّها في هذه الترجمة هكذا (إن كنتم تحبوني، فاحفظوا وصاياي، وأنا أطلب من الأب، فيعطيكم معزياً آخر، ليمكث معكم إلى الأبد).
الثانية: الكتاب المقدس: كتاب الحياة: ترجمة تفسيرية: وقد طبع في مصر عام 1988م. والعبارة السابقة في هذه الترجمة التفسيرية هكذا (إن كنتم تحبوني فاعملوا بوصاياي، وسوف أطلب من الأب معيناً آخر، يبقى معكم إلى الأبد). وهذا مثال واضح على التحريف المتعمد.
فبشارة عيسى عليه السلام بالنبي الخاتم كانت باللغة الآرامية (محامدا) أو (حمدا)، وهي نفس كلمة (محمد) أو (أحمد) بالعربية، ولما كتب يوحنا إنجيله، كتبه باللغة اليونانية، فترجم كلمة (محامدا) الآرامية، إلى كلمة (البرقليطوس)، ومعناها: الأشهر والأمجد، والأكثر حمداً وثناءً، وهذا لا غبار عليه.
لكن الرهبان الذين كتبوا إنجيل يوحنا بعد ذلك حرفوا كلمة (البرقليطوس) التي تعني التجديد، إلى (برقليطوس آخر) التي تعني التعدد والتعويم ولما ترجموا هذه الكلمة إلى العربية حولوها من معناها الصحيح: الأمجد والأشهر والأحمد، إلى (المعزي)، و(المعاون).
إن العودة إلى الأصل الآرامي لإنجيل يوحنا، بل والترجمة اليونانية الأصلية لبشارة عيسى -عليه السلام -فيه، تعطينا توافقاً وتناسقاً وانسجاماً بين الكلمات الثلاثة: (محامدا) الآرامية، و(البرقليطوس) اليونانية، و(أحمد) العربية القرآنية.
ج- اعتراف علماء لاهوت بأن (البرقليطوس) هو أحمد:
إنَّ المنصفين من علماء اللاهوت النصارى يعترفون بأن الكلمة اليونانية الأصلية من إنجيل يوحنا، هي بمعنى الكلمة العربية القرآنية (أحمد).
وقد روى الشيخ عبد الوهاب النجار مؤلف كتاب قصص الأنبياء حادثة طريفة جرت بينه وبين المستشرق الطلياني الدكتور (كارلو نلينو) تؤكد هذه الحقيقة، حيث كان الشيخ النجار طالباً في كلية دار العلوم عام 1893م -1864م، وكان يدرس معهم المستشرق كارلو نلينو، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة التي كتبت بها الأناجيل، وجاء إلى القاهرة، ليتعلم اللغة العربية، وقد انعقدت صداقة بين عبد الوهاب النجار وكارلو نلينو.
وذات يوم سأل النجارُ المستشرق قائلاً: ما معنى (بيريكلتوس)؟ وهي (برقليطوس) التي مرَّت معنا من قبل، فأجابني بقوله: إن القسيسين يقولون: إن هذه الكلمة معناها (المعزّي)، فقلت: إني أسأل الدكتور (كارلو نلينو) الحاصل على الدكتوراه في آداب اللغة اليونانية القديمة، ولست أسأل قسيساً، فقال: إن معناها )الذي له حمد كثير(، فقلت: هل ذلك يوافق أفعل التفضيل (أحمد)؟ قال: نعم. قلت: إن رسولنا من أسمائه أحمد. قال: يا أخي أنت تحفظ كثيراً.
وهكذا توافقت الأناجيل الأصلية على النصّ، وذلك على بشارة عيسى -عليه السلام -بمحمد صلى الله عليه وسلم، واعترف المنصفون من النصارى بهذه الحقيقة رغم تحريف مترجمي ومؤلفي الأناجيل المتأخرين لها.
مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (287:281)
- صلاح الدين الخالدي، حديث القرآن عن التوراة والإنجيل، دار النفائس، عمَّان، الأردن، ط1، 1438ه، 2017م. 4/345.
- فاضل السامرائي، نبوة محمد بين الشك واليقين، مكتبة القدس، بغداد -دار البشائر، عمان، 1971م، ص376.
- عبد الأحد داود، محمد في الكتاب المقدس، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر، ط4، 2000م، ص. ص 219 -220.
- إبراهيم خليل أحمد، محمد في التوراة والإنجيل والقرآن، دار المنار، 1409ه -1989م، ص 93.