الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

عيسى عليه السلام يبشر بمحمد (صلى الله عليه وسلم)

الحلقة: الثامنة و الثلاثون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

شعبان 1441 ه/ أبريل 2020م

صرَّح القرآن الكريم بأن عيسى -عليه السلام -قد بشَّر بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم.
- قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (الصف:6-7).
وجاء عيسى -عليه السلام -ليقول لبني إسرائيل (إني رسول الله إليكم)، فلم يقل: إنه الله، ولا إنه ابن الله، ولا إنه أقنوم من أقانيم الله، (مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) في هذه الصيغة التي تصوّر حلقات الرسالة المترابطة، يسلم بعضها إلى بعض، وهي متماسكة في حقيقتها واحدة في اتجاهها، ممتدة من السماء إلى الأرض، حلقة بعد حلقة في السلسلة الطويلة المتصلة، وهي الصورة اللائقة بعمل الله ومنهجه.
وإنَّ منهج الله عزَّ وجل واحد في أصله، متعدد في صوره، وِفق استعداد البشرية وحاجاتها وطاقاتها، ووفق تجاربها ورصيدها من المعرفة، حتى تبلغ مرحلة الرشد العقلي والشعوري، فتجيء الحلقة الأخيرة في الصورة الأخيرة كاملةً شاملةً، تخاطب العقل الراشد في ضوء تلك التجارب، وتطلق هذا العقل يعمل في حدوده داخل نطاق المنهج المحدد والمرسوم للإنسان في جملته، المتفق مع طاقاته واستعداده.
وبشارة المسيح بأحمد ثابتة بهذا النص، سواء تضمنت الأناجيل المتداولة هذه البشارة أم لم تتضمنها فثابت أن الطريقة التي كتبت بها هذه الأناجيل والظروف التي أحاطت بها لا تجعلها هي المرجع في هذا الشأن، وقد قُرئ القرآن الكريم على اليهود والنصارى في الجزيرة العربية وفيه (النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل) وأقرَّ بعض المخلصين من علمائهم الذين أسلموا بهذه الحقيقة التي كانوا يتواصلون بتكتمها.
كما أنه ثابت من الروايات التاريخية أن اليهود كانوا ينتظرون مبعث نبيّ قد أظلَّهم زمانه، وكذلك بعض الموحدين المنعزلين في أحبار النصارى في الجزيرة العربية، ولكن اليهود كانوا يريدونه منهم، فلما شاء الله أن يكون من الفرع الآخر من ذرية إبراهيم، كرهوا هذا فحاربوه، وعلى أية حال فالنصُّ القرآنيُّ بذاته هو الفيصل في مثل هذه الأخبار، وهو القول الأخير.
إنَّ عيسى ابن مريم -عليهما السلام -أعلن لبني إسرائيل أن الله بعثه لهم رسولاً، وجعله مصدقاً لما سبقه من التوراة، وأمره أن يبشر برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي سيبعثه من بعده، وأن يأخذ على النصارى العهد أن يؤمنوا به ويتبعوه. ومع ذلك، فإن النصارى الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم نقضوا عهودهم مع عيسى وكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولما شاهدوا ما معه من البينات قالوا أنها سحر فما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين إلا القليل منهم، كالنجاشي ملك الحبشة، فقد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، كما مرَّ معنا، وقد شهد هرقل ملك الروم برسالته حين جاءه كتاب النبي، فأرسل إلى روما يسأل عن خبر النبي الخاتم، فلما جاءه الرد قال لقومه: يا معشر الروم: إني قد جمعتكم لخير، إنه قد أتاني كتاب من هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه والله للنبيّ الذي كنا ننتظره، ونحن نجده في كتابنا، فهلمُّوا نتبعه ونصدقه، فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا.
وفي رواية الإمام البخاري أنه قال: (يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد، وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب، فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه)، ولم يدخل هرقل في الإسلام ونكل عن مقتضيات شهادته.
وبما أن عيسى -عليه السلام -بشر به، فقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلم أنه (بشرى عيسى عليه السلام)، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إني عند الله في أم الكتاب لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بتأويل ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام) .
‌أ- التوفيق بين اسميه (أحمد) و (محمد) عليه الصلاة والسلام:
ما يلفت النظر في التعبير القرآني عن بشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه جاء فيه اسم (أحمد) مع أن اسمه هو (محمد) صلى الله عليه وسلم مبشراً برسولٍ يأتي من بعد اسمه أحمد، فلا فرق بين الاسمين (أحمد) و (محمد) لاشتقاقهما من مادة (الحمد)، والاسمان معروفان للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، (أحمد) أفعل تفضيل، (من حمد)، تقول: حمد، يحمد، فهو حامد، وهو أحمد أكثر حمداً من غيره، و(محمد) على وزن (مفعَّل) اسم مفعول من الرباعي حمد. وتقول: حمد يحمد، والمفعول منه: محمد، ويقال: فلان محمود: إذ حمد. ومحمد: إذا كثرت خصاله المحمودة.
وقوله تعالى: (ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، فأحمد إشارة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم باسمه وفعله، تنبيهاً أنه كما وجد اسمه أحمد يوجد وهو محمود في أخلاقه وأحواله، وخصّ لفظة أحمد فيما بشّر به عيسى عليه السلام تنبيها أنه أحمد منه ومن الذين قبله، أي أكثر حمداً منهم لله، وقوله تعالى: (محمد رسول الله) فمحمد هنا: وإن كان من وجه اسم له علماً -ففيه إشارة إلى وصفه بذلك وتخصيصه بمعناه.
إن اسما (أحمد) و (محمد) مشتقان من (الحمد)، فهما من مادة اشتقاقية واحدة، فلا تناقض بين الاسمين الكريمين.
ولعل من حكمة التعبير بأفعل التفضيل (أحمد) في بشارة عيسى عليه السلام، اعتراف عيسى ابن مريم عليه السلام بفضل محمد بن عبد الله عليه وعلى كل من سبقه، وكان عيسى عليه السلام يقول: النبي الخاتم الذي يأتي من بعدي هو أكثر حمداً مني لله، وأكثر حمداً من كل من سبقني لله، فهو (أحمدنا) لله وأكثرنا له ذكراً وشكراً وثناءً ومدحاً، وفي هذا تواضع من عيسى عليه السلام أمام محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن له أسماء عديدة، فقد روى البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي).
إن هذه الأسماء الخمسة للنبي صلى الله عليه وسلم تدل بصراحة على أن (أحمد) المذكور في الآية اسم من أسمائه، فلا تعارض بين أحمد ومحمد، وبشارة عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم النبيين الذي ختم الله به هذا الموكب النبوي الكريم فقد قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم:(إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة؟).
‌ب- سطوع البشارة في كتب أهل الكتاب:
أكد سطوع البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب إسلام العشرات المعتبرين من أهل الكتاب كالحسن بن أيوب والترجمان وزيادة النصب الراسي، والقس عبد الأحد داود، وإبراهيم خليل، وموريس بوكاي، وغيرهم كثير.
وتظهر لنا كتب الدلائل والكتب التي جادلت أهل الكتاب أن اسم محمد كان مذكوراً بصراحة في كتب أهل الكتاب إلى عصرٍ متأخر، ومنهم:
- ابن قتيبة المتوفى سنة 627ه.
- الماوردي المتوفى سنة 450ه.
- الفخر الرازي المتوفى سنة 606ه.
- القرافي المتوفى سنة 684ه.
- ابن تيمية المتوفى سنة 728ه.
- ابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751ه.
ونقل غيرهم نصوصاً كثيرة من كتب أهل الكتاب في عصرهم، فيها صريح اسم (محمد) وجادلوهم بها، ولكن بمرور الزمن بدأوا يخفون ذلك، ويمحونه من كتبهم، حتى لم يبقوا له اسماً، وذلك من عادتهم كما رأينا.
قال ابن تيمية: (وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم باسمه ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس في أخرى).
ونقل ابن تيمية نصّاً من سفر دانيال من نعت النبي صلى الله عليه وسلم وقال دانيال النبي عليه السلام أيضاً: )فلا يزال ملعونين (بني إسرائيل)، عليهم الذلة والمسكنة، حتى أبعث نبيَّ بني إسماعيل، الذي بشّرتُ به هاجر، وأرسلتُ إليها ملاكي فبشرها، فأوحي إلى ذلك النبي، وأعلمه الأسماء، وأزينه بالتقوى، وأجعل البر شعاره، والتقوى ضميره، والصدق قوله، والوفاء طبيعته، والقصد سيرته، والرشد سنته، أخصه بكتاب مصدق لما بين يديه من الكتب، وناسخ لبعض ما فيها، أسري به إليَّ، وأرقيه من سماءٍ إلى سماء حتى يعلو، فأدنيه وأسلم عليه وأوحي إليه، ثم أرده إلى عبادي بالسرور والغبطة، حافظاً لما استودع، صادعاً بما أمر، يدعو قومه إلى توحيدي وعبادتي ويخبرهم بما رأى من آياتي فيكذبونه ويؤذونه، ثم سرد دانيال قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أملاه عليه الملك، حتى وصل آخر أيام أمته بالنفخة وانقضاء الدنيا).
ومن النصوص التي ورد فيها اسم الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة في سفر أشعيا: (أنا سمعنا في أطراف الجبال صوت محمد فصرح باسمه عليه السلام ومكانه تصريحاً لا يحتمل التأويل).
وقال دانيال عليه السلام: )وستنزع في قسيك إغراقاً، وترتوي السهام بأمرك يا محمد ارتواء(، ونقل هذا النص الفخر الرازي والإمام القرافي وابن تيمية وابن القيم الجوزية، وغير ذلك من النصوص الكثيرة التي أوردها المستدلون، والذي يبدو أن اسم الرسول صلى الله عليه وسلم كان في بعض النسخ إلى عصرٍ متأخر جداً.
وقال الفاضل حيدر علي القرشي في كتابه المسمى )خلاصة سيف المسلمين( الذي هو في لسان الأوردو، أي الهندي في الصفحة الثالثة والستين منه: إن القسيس أوسكان الأرمني ترجم كتاب إشعيا باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين وطبع في سنة 1733م، وفي من الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة، ونصُّها)سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطنته على ظهره، واسمه أحمد( انتهت. وهذه الترجمة موجودة عند الأرمن، فانظروا فيها، انتهى كلامه.
ونقل الدكتور فاضل صالح السامرائي في كتابه:)نبوة محمد من الشك إلى اليقين( طائفة من بشارات أهل الكتاب المتعلقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد وصلت إلى ثلاثة وعشرون بشارة، ومن أراد التوسع فليرجع إليه.


مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (281:275)
- صلاح الدين الخالدي، حديث القرآن عن التوراة والإنجيل، دار النفائس، عمَّان، الأردن، ط1، 1438ه، 2017م. 4/339.
- ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، تحقيق: سفر الحوالي، مجلة البيان، ط1، 1432ه، 2/27.
- فاضل السامرائي، نبوة محمد بين الشك واليقين، مكتبة القدس، بغداد -دار البشائر، عمان، 1971م، ص 301.
- القرافي، الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة، شركة سعيد رأفت للطباعة، ط2، 1407ه– 1987م، ص 255.
- منقذ محمود السقار، هل بشر الكتاب المقدس بمحمد (صلى الله عليه وسلم) ؟، ص 7.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022