الجمعة

1446-04-15

|

2024-10-18

"الاستجواب العظيم من الله تعالى لعيسى عليه السلام يوم القيامة"
من كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
 
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (المائدة: 116 : 120).
إنَّ الله سبحانه وتعالى يعلم ماذا قال عيسى للناس، ولكنه الاستجواب الهائل الرهيب في اليوم العظيم المرهوب، الاستجواب الذي يقصد به إلى غير المسؤول ولكن في صورته هذه، وفي الإجابة عليه ما يزيد من بشاعة موقف المؤلِّهين لهذا العبد الصالح الكريم، إنها الكبيرة التي لا يطيق بشر عادي أن يقذف بها أن يدَّعي الألوهية وهو يعلم أنه عبد.
فكيف برسول من أولى العزم؟ كيف بعيسى ابن مريم، وقد أسلف الله له هذه النعم كلها بعدما اصطفاه بالرسالة، وقبل ما اصطفاه؟ كيف به يواجه استجواباً عن ادّعاء الألوهية، وهو العبد الصالح المستقيم؟
من أجل ذلك كان الجواب الواجف الراجف الخاشع المنيب يبدأ بالتسبيح والتنزيه.
- (قَالَ سُبْحَانَكَ):
تنزيه لله تعالى عن مضمون تلك المقالة وكانت مبادرة المسيح بتنزيه الله تعالى عن تلك المقالة أهم من تبرئة نفسه على أنها مقدمة للتبرِّي؛ لأنه إذا كان ينزّه الله عن ذلك فلا جرم أنه لا يأمر به أحد.
- (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ):
يسرع إلى التبرؤ المطلق من أن يكون من شأنه هذا القول أصلاً. ويستشهد بذات الله سبحانه على براءته مع التصاغر أمام الله وبيان خصائص عبوديته، وخصائص ألوهية ربه.
- (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ):
إنَّ الله عز وجل الذي يعبده عيسى عليه السلام:
- علمه شامل لكل شيء في السماوات وفي الأرض.
- علمه شامل لكل ما يلج في الأرض وما يخرج منها.
- علمه المحيط بكل شيء واختصاصه بمفاتيح الغيب وما يحدث من صغير أو كبير في البرِّ والبحر.
- علمه المحيط بمكونات القلوب وما تخفيه الصدور.
- علمه الشامل لما في الأرحام لك أنثى.
- علمه سبحانه لكل الأشياء قبل وقوعها، وإن ذلك في كتاب وله الحكمة البالغة في تقديرها.
- علمه سبحانه لأحوال عباده تقيّهم من فاجرهم، وغنيّهم من فقيرهم، وغير ذلك من الفوارق.
- علمه المحيط الدقيق لكل مناجاة بين اثنين فأكثر مهما أسرُّوا النجوى.
- علمه الشامل لما ينزل من الشرائع على رسله وأنه سبحانه أعلم بما ينزل، وأعلم بما يصلح لعباده وينتهي بهم إلى السعادة الخير في الدارين.
- هذا العلم الذي يعلمه الإنسان المحدود من علوم الدنيا والدين إنما هو من تعليم الله تعالى له، واختصاصه له بالعقل وقابليته للتعليم.
واختصَّ الله سبحانه بعلوم الغيب، إن الله سبحانه لكمال علمه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، أي أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لم تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور.
وهذه بعض الأمور التي يستدل عليها من قول عيسى عليه السلام لربه (إنك أنت علاَّم الغيوب) وعندئذٍ فقط وبعد هذه التسبيحة الطويلة يجرؤ على الإثبات والتقرير بما قاله وفيما لم يقله، فيثبت أنه لم يقل لهم إلا أن يعلن عبوديته وعبوديتهم لله ويدعوهم إلى عبادته.
- (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ):
فأنا عبد متبع لأمرك لا متجرئ على عظمتك وما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له المتضمن للنهي عن اتخاذيَ وأميَ إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما إنه ربكم فهو ربي.
- (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ):
(فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم): أي المطلع على سرائرهم وضمائرهم، (وأنت على كل شيء قدير) علماً وسمعاً وبصراً، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك المبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.
والرقيب والشهيد من أسماء الله الحسنى وهما مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات وبصره بالمبصرات وعلمه بجميع المعلومات الجليَّة والخفيَّة، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان.
وفي قوله تعالى (كنت أنت الرقيب عليهم) يدل على مراقبة في القلب من عيسى عليه السلام عظيمة في سرّه وعلنة في ليله ونهاره، في خلواته وجلواته، وكان على يقين في حياته الدينا أن الله لا تخفى عليه خافية يسمع كلامه ويرى مكانه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فكان قلبه وسمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها في طاعة الله وعبادته سبحانه وتعالى.
(وأنت على كل شيء شهيد) فالله عز وجل شهيد على كل شيء يسمع جميع الأصوات خفيَّها وجلّها، ويبصر جميع الخلوقات دقيقها وجليّها، ويحيط علمه بكل شيء.
إن اليقين بهذه المعاني يثمر في القلب اليقظة والحذر والخوف من الله عز وجل بحيث لا يصدر من العبد إلا ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في ليل أو نهار، في سر أو جهار.
والله شهيد على الخلق يوم القيامة بما عملوا وما كان بينهم من خصومات في الدنيا، وهذا يجعل الإنسان السويّ على حذر من ظلم العباد والتعدي على حقوقهم فإن الله عز وجل شاهد على ذلك (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج: 17)، وكذلك يجعل العبد يتحرى الإخلاص والتقوى في أقواله وأعماله؛ لأن الله عز وجل مشاهد على ما في القلوب من النوايا والمقاصد ولا يقبل سبحانه إلا ما كان لله خالصاً صواباً.
والإيمان بأن شهادة الله عز وجل أعظم شهادة، فالله سبحانه هو الأعظم والأعلى والأجل والأرفع وشهادته شهادة حضور ومعاينة وهو لا يخفى عليه شيء من جوانب الحقيقة كما يحدث للبشر، فمن شهد الله له فهو حسيبه ولا يحتاج إلى شهادة غيره.
وقد شهد الله عز وجل لنفسه بالتوحيد، وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسله:﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾(آل عمران: 18).
كان إيمان عيسى عليه السلام بالله عظيماً وباسمه الرقيب والشهيد وعلاَّم الغيوب، فكان جوابه في قمة العبودية لله مع تواضع رفيع، وتذلل منقطع النظير، ومعرفة عميقة بخصائص العبودية لله، والألوهية لخالقه، وينتهي عيسى عليه السلام إلى التفويض المطلق في أمرهم مع تقرير عبوديتهم لله وحده، وتقرير قوة الله على المغفرة لهم أو عذابهم وحكمته فيم يقسم لهم من جزاء سواء كان هو المغفرة أو العذاب.
- (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ):
فيا لله للعبد الصالح في موقفه الرهيب، وأين أولئك الذين أطلقوا هذه الفرية الكبيرة، والتي يتبرأ منها العبد الصالح البريء ذلك التبرؤ الواجف، ويبتهل من أجلها إلى ربه هذا الابتهال المنيب؟ أين هم في هذا الموقف، في هذا المشهد؟
إن السياق لا يلقي إليهم التفاتة واحدة، فلعلهم يتذاوبون خزياً وندماً، فلندعهم حيث تركهم السياق لنشهد ختام المشهد العجيب.
- (قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ):
هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، إنه التعقُّب المناسب على كذب الكاذبين الذين أطلقوا تلك الفرية الضخمة على ذلك النبي الكريم، في أعظم القضايا كافة، قضية الألوهية والعبودية، التي يقوم على أساس الحق فيها هذا الوجود كله وما فيه ومن فيه (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم) إنها كلمة رب العالمين في ختام الاستجواب الهائل على مشهم من العالمين.
وهي الكلمة الأخيرة في المشهد، وهي الكلمة الحاكمة في القضية، ومعها ذلك الجزاء الذي يليق بالصدق والصادقين (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) درجات بعد درجات، الجنات والخلود ورضى الله ورضاهم بما لقوا من ربهم من التكريم (ذلك الفوز العظيم).
في مواجهة الفرية، وفي نهاية الدرس الذي عرض ذلك الاستجواب الرهيب عنها، يجيء الإيقاع الأخير في السورة، يعلن تفرُّد الله سبحانه بملك السماوات والأرض وما فيهن، وقدرته سبحانه على كل شيء بلا حدود.
- (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ):
ختام يتناسق مع تلك القضية الكبرى التي أطلقت حولها تلك الفرية الضخمة، ومع ذلك المشهد العظيم الذي ينفرد الله فيه بالعلم ويتفرد بالألوهية ويتفرد بالقدرة ... ويفوض فيه عيسى ابن مريم أمره وأمر من اتخذه وأمه آلة من دون الله إلى العزيز الحكيم، الذي له ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير.
 
يمكنكم تحميل كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022