(عيسى ابن مريم عبد أنعم الله عليه، وداعية إلى التوحيد وعبادة الله)
من كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ (الزخرف: 57: 65).
يستطرد القرآن الكريم في هذه الآيات، ويبين لنا ما دار بين كفار مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم من جدل وهم يدافعون عن عقائدهم الواهية لا بقصد الوصول إلى الحق، ولكن عناداً ومراءً وجحوداً.
فلما قيل لهم إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، وكان القصد هو أصنامهم التي جعلوها تماثيل للملائكة التي عبدوها بذاتها وقيل لهم: إن كل عابد وما يعبد من دون الله في النار، ولما قيل لهم هذا، ضرب بعضهم المثل بعيسى ابن مريم -وقد عبده المنحرف من قومه -أهو في النار؟
وكان هذا مجرد جدل ومجرد مراء، ثم قالوا: إذا كان أهل الكتاب يعبدون عيسى وهو بشر فنحن أهدى إذ نعبد الملائكة وهم بنات الله، وكان هذا باطلاً يقوم على باطل، وبهذه المناسبة، يذكر السياق طرفاً من قصة عيسى ابن مريم، يكشف عن حقيقته وحقيقة دعوته، واختلاف قومه من قبله ومن بعده.
ثم يهدد المنحرفين عن سواء العقيدة جميعاً بمجيء الساعة بغتة، وهنا يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد يوم القيامة، يتضمن صفحة من النعيم للمتقين وصفحة من العذاب الأليم للمجرمين، وينفي أساطيرهم عن الملائكة وينزه الله سبحانه عما يصفون، ويعرفه لعباده ببعض صفاته وملكيته المطلقة للسماء والأرض والدنيا والآخرة وإليه ترجعون.
- في قوله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ)
إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، وقد علمت قريش أن النصارى تعبد عيسى ابن مريم وما تقول في محمد، فقالوا: يا محمد ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً، فإن كنت صادقاً فإنه كان آلهتهم لا كما تقولون؟
فأنزل الله تعالى (ولما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدون)، ومعنى (يصدون) يعرضون أو يعدلون، وفي قوله تعالى (وقالوا آلهتنا خير أم هو) يعني عيسى، أي: إن آلهتنا ليست خيراً من عيسى، فإن كان في النار لأنه عُبد من دون الله، فقد رضينا أن تكون آلهتنا بمنزلته، وهم ما ضربوا عيسى عليه السلام مثلاً إلا للمجادلة فحسب، فهم يعلمون أن المراد (حصب جهنم) ما اتخذوه آلهة من الأصنام والأحجار.
- في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ):
فليس إلهاً يعبد كما انحرف فريق من النصارى فعبدوه، إنما هو عبد أنعم الله عليه ولا جريرة لهم في عبادتهم إياه، فإنما أنعم الله عليه ليكون مثلاً لبني إسرائيل ينظرون إليه ويتأسون به، فنسوا المثل، وضلوا السبيل.
وقد أنعم الله على عيسى عليه السلام بالنبوة والحكمة والعلم والعمل.
- في قوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ)
أي: لجعلنا بدلكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، ويكونون في الأرض حتى نرسل إليهم ملائكة من جنسهم، وأما أنتم يا معشر البشر، فلا تطيقون أن ترسل إليكم الملائكة، فمن رحمة الله بكم، أن أرسل إليكم رسلاً من جنسكم، تتمكَّنون من الأخذ عنهم.
- وفي قوله (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)
أي: وإن عيسى عليه السلام لدليل على الساعة، أن القادر على إيجاده من أم بلا أب، قادر على بعث الموتى من قبورهم، أو: وإن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ويكون نزوله علامة من علامات الساعة. وفي قوله تعالى (فلا تمترنَّ بها) أي: لا تشكُّنَّ في قيام الساعة فإن الشك فيها كفر. وفي قوله تعالى (واتَّبعون هذا صراط مستقيم)، (واتبعون) بامتثال ما أمرتكم به، واجتناب ما نهيتكم عنه (هذا صراط مستقيم) موصول إلى الله عز وجل.
- في قوله تعالى (* وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)
القرآن لا يفتأ يذكِّر البشر بالمعركة الخالدة بينهم وبين الشيطان منذ أبيهم آدم، ومنذ المعركة الأولى في الجنة، وأغفل الغافلين من يعلم أن له عدواً يقعد له بالمرصاد، عن عمد وقصد، وسابق إنذار وإصرار ثم لا يأخذ حذره، ثم يزيد فيصبح تابعاً لهذا العدو الصريح.
وبعد هذه اللفتة يعود إلى بيان حقيقة عيسى عليه السلام وحقيقة ما جاء به، وكيف اختلف قومه من قبله ثم اختلفوا كذلك من بعده.
- في قوله تعالى: (وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ* فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ):
جاء قوم عيسى عليه السلام بالبينات والواضحات سواء من الخوارق التي أجراها الله على يديه، أو من الكلمات والتوجيهات إلى الطريق القويم، وقد قال لقومه (قد جئتكم بالحكمة) ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً، وأمن الزلل والشطط أمنه للتفريط والتقصير، واطمأن إلى خطوته في الطريق على اتزانٍ وعلى نور، وجاء ليبين لهم بعض الذي يختلفون فيه، وقد اختلفوا في كثير من شريعة موسى عليه السلام وانقسموا فرقاً وشيعاً، ودعاهم إلى تقوى الله وإلى طاعته فيما جاءهم به من عند الله، وجهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض.
(إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه) ولم يقل إنه إله، ولم يقل إنه ابن الله، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه، والربوبية من جانب الله رب الجميع، وقال لهم: إن هذا صراط مستقيم لا التواء فيه ولا اعوجاج ولا زلل فيه ولا ضلال، ولكن الذين جاؤوا من بعده اختلفوا أحزاباً كما كان الذين من قبله مختلفين أحزاباً، اختلفوا ظالمين لا حجة لهم ولا شبهة (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم).
لقد كانت رسالة عيسى عليه السلام إلى بني إسرائيل، وكانوا ينتظرونه ليخلِّصهم مما كانوا فيه من الذل تحت حكم الرومان، وقد طال انتظارهم له، فلما جاءهم نكروه وشاقُّوه وهموا أن يصلبوه.
ثم ذهب المسيح إلى ربه فاختلف أتباعه من بعده، اختلفوا شيعاً وأحزاباً بعضها يؤلِّهه، وبعضها ينسب لله سبحانه بنوته، وبعضها يجعل لله ثالث ثلاثة، أحدها المسيح ابن مريم، وضاعت كلمة التوحيد الخالصة التي جاء بها عيسى عليه السلام وضاعت دعوته للناس، ليلجؤوا إلى ربهم ويعبدوه مخلصين له الدين (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم)، ثم جاء مشركو العرب يحاجُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام بما فعلته الأحزاب المختلفة من بعده، وما أحدثته حوله الأساطير.
وحين يصل السياق القرآني إلى الحديث عن الظالمين، يدمج المختلفين من الأحزاب بعد عيسى عليه السلام مع المحاجِّين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بفعل هذه الأحزاب، ويصور رجالهم يوم القيامة في مشهد رائع طويل، يحتوي كذلك صفحة المتقين المكرمين في جنات نعيم قال تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ (الزخرف: 66 - 78).
يبدأ المشهد بوقوع الساعة فجأة وهم غافلون عنها لا يشعرون بمقدمها.
- (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ):
هذه المفاجأة تحدث حدثاً غريباً، يقلب كل ما كانوا يألفونه في الحياة الدنيا.
- (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ):
إن عداء الأخلاء ينبع من معين ودادهم، لقد كانوا في الحياة الدنيا يجتمعون على الشر، ويملي بعضهم لبعض في الضلال، فاليوم يتلاومون اليوم يلقي بعضهم على بعض تبعة الضلال، وعاقبة الشر، واليوم ينقلون إلى خصوم يتلاحون، من حيث كانوا أخلاء يتناجون، (إلا المتقين) فهؤلاء مودتهم باقية، فقد كان اجتماعهم على الهدى، وتناصحهم على الخير، وعاقبتهم إلى النجاة، وبينما الأخلاء يتلاحون ويختصمون، يتجاوب الوجود كله بالنداء العلوي الكريم للمتقين.
- (يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ):
أي: تسرون سروراً يشيع في أعطافكم قسماتكم فيبدو عليكم الحبور، ثم تطاف عليهم صحائف من ذهب وأكواب وإذا لهم في الجنة ما تشتهيه الأنفس، وفوق شهوة النفوس والتذاذ العيون، كمالاً وجمالاً في التكريم (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين)، ومع هذا النعيم ما هو أكبر منه وأفضل، التكريم بالخطاب من العلي الكريم (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ).
- (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ):
فما بال المجرمين الذين تركناهم هنيهة يتلاحون ويختصمون، وهم في عذاب جهنم وهو عذاب دائم وفي درجة عصيبة، لا يفتر لحظة، ولا يبرد هنيهة، ولا تلوح لهم فيه بارقة من أمل في الخلاص، ولا كوة من رجاء بعيد، فهم فيه يائسون قانطون.
- (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ):
كذلك فعلوا بأنفسهم وأوردوها هذا الورود الموبق، ظالمين غير مظلومين.
- (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ):
ثم تتناوح في الجوّ صيحة من بعيد، صيحة تحمل كل معاني اليأس والكرب والضيق.
- (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ):
إنها صيحة متناوحة من بعد سحيق من هناك من وراء الأبواب المؤصدة في الجحيم، إنها صيحة أولئك المجرمين الظالمين، إنهم لا يصيحون في طلب النجاة ولا في طلب الغوث، فهم مبلسون يائسون. إنما يصيحون في طلب الهلاك، الهلاك السريع الذي يريح، وحسب المنايا أن يكن أمانيا.
وإن هذا النداء ليلقى ظلاً كثيفاً للكرب والضيق وإننا لنكاد نرى من وراء صرخة الاستغاثة نفوساً أطار صوابها العذاب، وأجساماً تجاوز بها الألم حدَّ الطاقة، فانبعثت منها تلك الصيحة المريرة (يا مالك ليقض علينا ربك) ولكن الجواب يجيء في تيئيس وتخذيل، وبلا رعاية ولا اهتمام (قال إنكم ماكثون) فلا خلاص ولا رجاء ولا موت ولا قضاء (إنكم ماكثون).
وفي ظل هذا المشهد الكامد المكروب يخاطب هؤلاء الكارهين للحق، المعرضين عن الهدى، الصائرين إلى هذا المصير، ويعجب من أمرهم على رؤوس الأشهاد في أنسب جوٍّ للتحذير والتعجُّب.
- (لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ):
وكراهة الحق هي التي كانت تحول بينهم وبين اتباعه، لا عدم إدراك أنه حق، ولا الشك في صدق الرسول الكريم، فما عاهدوا عليه كذباً قط في الناس، فكيف يكذب على الله ويدَّعي عليه ما يدّعيه؟
والذين يحاربون الحق لا يجهلون في الغالب إنه الحق، ولكنهم يكرهونه، لأنه يصادم أهواءهم ويقف في طريق شهواتهم، وهم أضعف أن يغالبوا أهواءهم وشهواتهم، ولكنهم أجرأ على الحق وعلى دعاته، فمن ضعفهم تجاه الأهواء والشهوات يستمدون القوة على الحق، والاجتراء على الدعاة. لهذا يهددهم صاحب القوة والجبروت، العليم بما يسرون وما يمكرون.
قال تعالى:﴿ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾(الزخرف: 79-80).
فإصرارهم على الباطل في وجه الحق يقابله أمر الله الجازم وإرادته بتمكين هذا الحق وتثبيته، وتدبيرهم ومكرهم في الظلام يقابله علم الله بالسر والنجوى، والعاقبة معروفة حين يقف الخلق الضعاف القاصرون أمام الخالق العزيز العليم.
يمكنكم تحميل كتاب المسيح ابن مريم عليه السلام : الحقيقة الكاملة من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/626
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
https://alsalabi.com