صفات المؤمنين
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثامنة و العشرون
رمضان 1441ه/ أبريل 2020م
عرض القرآن الكريم كثيراً من صفاتِ أهلِ الإيمان، وتحدّثت آياته الكريمةُ عن أهمّها وأشهرِها، ودعت المؤمنينَ إلى أنْ يتّصفوا بها حتى يعيشوا حياةً إيمانيةً مباركةً سعيدةً، وحتى ينالوا جنةَ الله وثوابه ونعيمه، ولقد كان حديثُ القرآن الكريم عن صفاتِ المؤمنين شاملاً ومتنوعاً، وقد توزّعت سور القرآن في الحديثِ عن صفات المؤمنين في الفترة المكية والمدنية، وهذا يعطي أهميةً لتذكير المسلمين بها، حتى لا تُنسى ولا تُمهلَ، ولكي يتربّى على هذه الصفاتِ والأخلاق عموم المسلمين، ولا يمكننا حصرُ صفاتِ المؤمنين في القرآن الكريم، ولكن نقدّم مجموعةً من الآيات الواردة في بعض السور، والتي تضمّنت مجموعةً من الصفات اللازمة لأهل الإيمان.
1 ـ قال تعالى في سورة المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *}
فمن صفات هؤلاء المؤمنين في هذه الآيات الكريمة:
أ ـ الخشوع في الصلاة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ امرىءٍ مسلم تحضرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحْسِنُ وضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلاّ كانتْ كفّارةً لما قبلَها مِنَ الذّنوبِ ما لم يأتِ كبيرةً، وذلك الدهرُ كلَّه». والخشوع مطلوبٌ من المرءِ في الصلاة لوجوه منها الوجه الأول: لتذكّرِ اللهِ، والخوفِ من وعيده، كما قال عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي *} [طه :14] والوجه الثاني: أنّ للصلاة أركاناً وواجباتٍ وسنناً، وروحُها النيةُ، والإخلاصُ، والخشوعُ، وحضورُ القلب، فإنّ الصلاة تشتمل على أذكارٍ ومناجاةٍ وأفعالٍ، ومع عدم حضورِ القلبِ لا يحصلُ المقصودُ بالأذكارِ والمناجاةِ، لأنَّ النطقَ إذا لم يعرِبْ عمّا في الضميرِ كان بمنزلة الهذيان، وكذلك لا يحصلُ المقصودُ من الأفعالِ، لأنَّه إذا كان المقصودُ من القيام الخدمةَ، ومن الركوعِ والسجودِ الذلَّ والتعظيمَ، ولو لم يكن القلبُ حاضراً لم يحصل المقصودُ، فإنَّ الفعلَ متى خرجَ عن مقصودِه بقي صورةً لا اعتبارَ بها، قال تعال: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج :37] والمقصود أنَّ الواصلَ إلى الله سبحانه وتعالى هو الوصفُ الذي استولى على القلب حتّى حملَ على امتثالِ الأوامرِ المطلوبة، فلابدّ من حضور القلبِ في الصلاةِ، ولكن سامحَ الشارعُ في غفلةٍ تطرأ، لأنَّ حضورَ القلبِ في أولها ينسحبُ حكمُه على باقيها.
ب ـ الإعراض عن اللغو واللغو:
كلُّ كلامٍ ساقطٍ حقُّه أن يُلغى، كالكذب والشتم، والهزل، يعني أنّ لهم من الجـدِّ ما شغلهم عن الهزل، ولمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصفَ بالإعراضِ عن اللغو، ليجمع لهم الفعلَ والتركَ الشاقّين على الأنفس، اللذين هما قاعدتا بناء التكليف. قال تعالى: أي: عن {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *}، وهو يشتمل على الشرك، كما قاله بعضهم، وعلى المعاصي كما قاله آخرون ـ وما لافائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *} [الفرقان :72] .
ج ـ تطهيرهم لأنفسهم بأداء الزكاة:
قال تعالى وقال {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *} الله صلى الله عليه وسلم: «الطُّهُوْرُ شطرُ الإيمانِ، والحَمْدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسُبْحَانَ اللهِ والحَمْدُ للهِ تملان ـ أو تملأ ـ ما بين السماواتِ والأرضِ، والصلاةُ نورٌ، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ، والقرآن حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ، كلُّ الناسِ يغدو فبائعٌ نفسَه، فمعتقُها أو موبقُها» قوله: «الصدقة برهان» معناه: الصدقةُ حجةٌ على إيمان فاعِلها، فإنَّ المنافقَ يمتنِعُ منها، لكونه لا يعتقده، فمن تصدّقَ استُدلَّ بصدقته على صدق إيمانه، فالمؤمنون في حياتهم الدنيا يصونون بالزكاة المجتمعَ من الخلل الذي ينشِئُه الفقرُ في جانب، والترف في جانب، فهي تأمينٌ اجتماعي للأفراد جميعاً، وهي ضمانٌ اجتماعي للعاجزين، وهي وقايةٌ للجماعة كلِّها من التفكك والانحلال.
د ـ حفظ الفروج:
قال تعالى: فالمؤمنون قومٌ يحبّون {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *}، ويحافظون على طهارتهم بمعناها الشامل، وهذه طهارةُ الروح، ووقايةُ النفس والأسرة والمجتمع بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلالٍ، وحفظِ القلوبِ من التطلُّع في غير حلالٍ، وحفظِ المجتمع من انطلاق الشهوات فيه بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب. وحفظُ الفَرْجِ يشمل تجنُّبَ إتيان الزوجة في الدبر، وفي أثناء الحيض، وفي أثناء الصيام، والإحرام.
وحفظ الفرج يقتضي سَدَّ الذرائع، أي تجنُّبَ السُبُل التي تفضي إليه، ولهذا أمر القرآن الكريم المؤمنين والمؤمنات بغضِّ البصر، وعدمِ إبداء الزينة، فذلك أزكى لهنّ وأطهر، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ *وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [النور :30 ـ 31] ولكي يمكّن الإسلام المسلمَ من الممارسة الفعلية لحفظ الفرج والعفّة، فإنّه يراعي الأمور التالية:
الأمر الأول: إنّ الإسلامَ لم يجعلْ الزواجَ أبدياً كالمسيحية مثلاً، فأباحَ الطلاق إذاوقعَ النفورُ بين الزوجين، وعند عجزِ الزوجِ، أو مرضه، أو إعساره، أو غيبته.
الأمر الثاني: أباحَ للزوجِ الطلاقَ، والتزوّجَ بأكثر من واحدة على أن يعدلَ بينهنَّ فيما يملك.
الأمرَ الثالث: أمرَ الذي لا يستطيعُ مؤنَ النكاحِ بالصومِ، ليدفعَ شهوته، ويحفظَ فرجه وعفته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الشبابِ، مَنِ استطاعَ مِنْكُم الباءةَ فليتزوّجْ، فإنّه أغضُّ للبصرِ، وأحصنُ للفرجِ، وَمَنْ لم يستطعْ فعليه بالصّوْمِ فإنَّه له وجاءُ». وبهذا فتحت الشريعةُ للمُحْصَنُ كلَّ أبوابَ الحلالِ، وأغلقتْ دونه بابَ الحرام.
وفضلاً عن هذا فإنَّ المجتمعَ الإسلاميَّ الحقيقيَّ يخالِفُ المحتمعاتِ القائمةِ جذرياً لصالح العفّة، فنظمُه وقوانينُه تعاوِنُ الرجالَ والنساءَ على التعفّف.
هـ رعاية الأمانة والعهد:
قال تعالى: أي: إذا اؤتمنوا لم {وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *}، بل يؤدّون الأمانة إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كالمنافقين الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «ايةُ المنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا أؤتمنَ خان». قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء : 58] .
وعن أبي ذر قال: قلتُ: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ فضربَ بيدِهِ على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ، إلا مَنْ أخذها بحقِّها، وأدّى الذي عليه فيها». فسمّى الرسولُ صلى الله عليه وسلم الولايةَ في هذا الحديثِ أمانةً، لأنّ تأديةَ حقِّها بالعدلِ، وعدم الاستغلال الشخصيّ فيها، واليقظة على مصالح الناس: كلُّ ذلك لا يكون إلاَّ بخلق الأمانة.
وعن أبي هريرة قال: بينما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحدّثُ إذا جاء إعرابيٌّ فقال: «متى الساعة؟ قال: «إذ ضيعت الأمانةُ فانتظرِ الساعةَ».
قال: كيف إضاعتها؟.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وُسِدَ الأمرُ إلى غيرِ أهلِهِ فانتظرِ الساعة».
وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *}[البقرة: 283] .
و ـ المحافظة على الصلوات:
قال تعالى: أي الذين على أوقاتِ صلاتهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ *}، فلا يضيعونها، ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنّهم يراعونها حتّى يؤدونها فيها. روي عن عبد الله بن مسعود قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: «الصلاةُ على وقتِها» قال: قلتُ: ثُمَّ أيْ؟ قال: «بِرُّ الوالدينِ» قال: قلتُ: ثمَّ أيْ؟ قال: «الجهادُ في سبيلِ اللهِ» فما تركت استزيدُه إلا إرعاءً عليه.
2 ـ وقال تعالى في سورة الفرقان: هذه هي صفاتُ عبادِ الله المؤمنين في الحياة {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا *وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا *وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا *إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا *وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا *وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيات رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً *وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا *أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَمًا *خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا *}، الذين استوجبوا المثوبةَ منه، وجزاهم على ذلك الجزاءَ العظيم.
فمن هذه الصفات:
أ ـ السكينة والوقار: قال تعالى: أي: بالسكينةِ والوقار غير {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً}، ولا متجبّرين، ولا ساعينَ فيها بالفسادِ ومعاصي الله. فالمؤمنون قومٌ لا يريدون في الأرض علوّاً، ولا يبغون فيها كذلك فساداً، قال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [القصص :83] وفي بيان المعنى الصحيح للسكينة والوقار، ليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنُّعاً ورياءً، فقد كان سيّدُ ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنّما ينحطُّ من صببٍ، وكأنّما الأرضُ تطوى له، وقد كره بعضُ السلف المشيَ بتضعُّفٍ وتصنُّعٍ.
وتبيِّنُ الاية أنَّ المؤمنين في الحياة الدنيا يتميّزون عن غيرهم بالسكينة والوقار والتواضع، وهم لا يستكبرون، ولا يسعَوْن في الأرض بالفساد، ذلك لأنّ الكِبْرَ له خطورته البالغة على الحياةِ البشريّة، فلا يبقى في حالةِ وجودِ الكِبْر احترامٌ لأحدٍ، ولا هيبةٌ لأحدٍ، ولا حرمةٌ لأحدٍ، ولا أدبٌ لأحدٍ.
ب ـ الحلم: قال تعالى: فهم حلماءُ {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا *} يجهلون، وإن جُهِلَ عليهم حلموا ولا يَسْفَهون.
هذا نهارهم، فكيف ليلهم؟خير ليل، صفُّوا أقدامهم، وأجروا دموعهم على خدودهم، يطلبونَ مِنَ اللهِ جلَّ ثناؤه فِكاك رقابهم.
والحلمُ من الخصالِ المحمودةِ التي يحبُّها الله عزَّ وجلَّ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأشجِّ عبدِ القيس: «إنَّ فيكَ خصلتينِ يحبُّهما اللهُ: الحلمُ والأناةُ».
ج ـ إحياءُ الليل بالصلاة: من صفاتِ عبادِ الله المؤمنين في الحياة الدنيا إحياؤهم الليلَ أو أكثرَه بالصلاةِ والطاعةِ، وقد ذكر الله سبحانه هذه الصفة للمؤمنين في آيات كثيرةٍ، منها قوله تعالى: وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيامًا * إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ *تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *} [السجدة :15 َـ 16] وقوله سبحانه: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ *وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ *} [الذاريات :17 ـ 18] .
وهم في صلاتهم وعبادتهم تمتلأئُ قلوبُهم بالتقوى والخوف من عذاب جهنم، فهم يتوجّهون إلى ربِّهم تضرُّعاً وخُفية، ليصرفَ عنهم عذابها، قال تعالى: وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا *إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً *} [الفرقان :6] فإنَّ مغالبةَ هتافِ النوم وجاذبيةِ الفراش، بعد كدِّ النهار، أشدُّ وطأً، وأجهدُ للبدن، ولكنَّها إعلانٌ لسيطرة الروح، واستجابةٌ لدعوة الله، وإيثارٌ للإنس به، ومن ثَمَّ فإنَّها أقومُ قيلاً، لأنَّ للذكر فيها حلاوتُه، وللصلاة فيها خشوعُها، وللمناجاةِ فيها شفافيتُها، وإنها لتسكبُ في القلبِ أُنساً وراحَةً وشفافيةً ونوراً، قد لا يجدُها في صلاةِ النهار وذكره، واللهُ الذي خلقَ هذا القلبَ يعلمُ مداخلَه وأوتارَه، وويعلمَ ما يتسرّبُ إليه وما يوقع عليه، وأيُّ الأوقاتِ يكونُ فيها أكثرَ تفتُّحاً واستعداداً وتهيُّؤاً، وأيُّ الأسباب أعلقُ به، وأشدُّ تأثيراً فيه.
د ـ القصدُ والاعتدالُ في الإنفاق: ومن صفات المؤمنين في الحياة الدنيا القصدُ والاعتدالُ، والتوازنُ في الإنفاق، وهم ليسوا بمبذّرين في إنفاقهم، فلا ينفقون فوق الحاجةِ، ولا بخلاء على أهليهم، فيقصّرون في حقهم، ولا يكفونهم، بل عدلاً خياراً، وخيرُ الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا *}
هـ عدم الشركِ بالله، والتحرّج عن قتل النفس والزنا: ومن صفات عباد الله المؤمنين في الحياة الدنيا أنَّهم لا يشركون بالله، بل يخلِصون العبادةَ له، ويفردونه بالطاعةِ، ولا يقتلون النفس إلاّ بالحقّ الذي يزيلُ حرمتها وعصمتها، كالكفر بالله بعد إسلامها، أو الزنا بعد إحصانها، أو قتل النفس، وتقتل بها.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا *وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا *}
و ـ عدمُ شهادةِ الزور: قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا *}، وشهادةُ الزورِ من أكبر الكبائر، فقد صرّح بذلك رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ قال لأصحابه: «ألا أنبِّئكم بأكبرِ الكبائرِ ـ ثلاثاً ـ: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور ـ أو قول الزور» ـ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس، فما زال يكرِّرُها حتى قلنا: ليتَه سكت.
ز ـ الانتفاع بموعظة القرآن: قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيات رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَاناً *}
ح ـ الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا *}
سُئل الحسن البصريُّ عن هذه الاية، فقال: أن يري اللهَ العبدُ المسلمُ من زوجتِهِ ومن أخيه ومن حميه، طاعةَ الله، لا واللهِ لا شيءَ أقرُّ لعينِ المسلمِ مِنْ أن يرى ولداً أو ولد ولدٍ أو أخاً أو حميماً مطيعاً لله عزَّ وجلَّ.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: أئمة {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا *} يهتدى بنا، ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنّه قال لأهل السعادة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ} [الانبياء :73] ولأهل الشقاوة: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ *} [القصص :41] .
وقال آخرون: هداة مهتدين، دعاة إلى الخير، فأحبّوا أن تكونَ عبادتهم متصلةً بعبادةِ أولادِهم وذرياتهم، وأن يكونَ هداهم متعدّياً إلى غيرهم بالنفع، وذلك أكثرُ ثواباً، وأحسن ماباً، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا ماتَ ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلاّ من ثلاثٍ، ولدٍ صالحٍ يدعو له، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به من بعدِهِ، أو صدقةٍ جاريةٍ».
ونكتفي بهذا القدر في ذكر صفاتِ المؤمنين في الحياة الدنيا، فلا نتوسّعُ خشيةَ الإطالةِ، وإلاّ فصفاتُ المؤمنين كثيرةٌ كما وردت في القرآن الكريم، فمنها: الإخلاصُ والصدقُ، والتوكلُ، ومحبةُ اللهِ، والخوفُ والرجاءُ، والشكرُ، والصبرُ، والرضا، والشجاعةُ، وغيرها من الصفاتِ الحميدةِ.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf