الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

الشرك حقيقته وأنواعه وما يتعلق بكل نوع من أحكام

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الثلاثون

رمضان 1441ه/ أبريل 2020م


• تعريف الشرك وبيان حقيقته:
الشرك: هو أن تجعلَ للهِ ندّاً أو شريكاً في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه، أوصفاته، وهو المبطلُ للأعمال، والمانعُ لقبولها قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *} [الانعام :88] .
وحدُّه: أن يصرفَ العبدُ نوعاً من أنواع العبادةِ لغير الله، فكلُّ اعتقادٍ، أو قولٍ، أو عملٍ ثبتَ أنَّه مأمورٌ بهِ مِنَ الشارع، فَصَرْفُه للهِ وحدَه توحيدٌ وإيمانٌ وإخلاصٌ، وصرفُه لغيره شركٌ وكفرٌ.
فحقيقة الشرك بالله: أن يُعْبَدَ المخلوقُ كما يُعْبَدُ الله، أو يعظَّمَ كما يُعَظَّمَ الله، أو يُصْرَفَ له نوعٌ من خصائص الربوبية والألوهية.
ولقد وردت النصوصُ الكثيرةُ من الكتاب والسنة في التحذير من الشرك، وبيـان خطـره، وأنَّـه أعظمُ ذنبٍ عُصِيَ اللهُ بِـهِ، وأنَّـه لا أضـلَّ مِنْ فـاعلـه، وأنَّـه مخلَّـدٌ في النـار أبداً، لا نصيرَ لـه ولا حميم، ولا شفيعَ يطاع، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا *} [النساء : 48] وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا *}[النساء: 116] وقال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *}[الحج: 31] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[الزمر: 65] .
إنَّ الشركَ هو الذنبُ الوحيدُ المتميِّز عن بقيةِ الذنوب بعدم المغفرةِ لصاحبه إذا ماتَ ولم يَتْبْ منه، وأمّا بقيةُ الذنوبِ فإنَّ صاحبَها إن ماتَ ولم يتبْ منها، فإنَّه تحتَ مشيئةِ الله، إنْ شاءَ عذّبه، وإنْ شاءَ غفرَ له.
إنَّ الذنوب التي هي دونَ الشرك جعلَ الله لمغفرتها أسباباً كثيرة، كالحسنات الماحية، والمصائبِ المكفّرة في الدنيا، والبزرخ، ويوم القيامة، وكدعاء المؤمنين بعضِهم لبعضٍ، وشفاعة الشافعين، ومِنْ دون ذلك كلِّه رحمتُه التي خَصَّ بها أهلَ الإيمانِ والتوحيد، وهذا بخلاف الشركِ، فإنَّ المشرك سدَّ على نفسِهِ أبوابَ المغفرة، وأغلقَ دونه أبوابَ الرحمة، فلا تنفعه الطاعاتُ دونَ التوحيد، ولا تفيدُه الشدائدُ والمحنُ شيئاً.
إنَّ الشرك باللهِ تمجُّه الفِطَرُ السليمة، ولقد بقي البشرُ بعد آدم قروناً طويلةً وهم أمةٌ واحدةٌ على التوحيد والهُدى، ثم أدخلتْ عليهم الشياطينُ الشرورَ المتنوّعة بطرق كثيرة، فكان قومُ نوحٍ لما مات منهم أناسٌ صالحون، وحزنوا عليهم، جاءهم إبليسُ، وأمرهم أن يصوّروا تماثيلهم ليتذكّروا أحوالهم، فكان هذا بابُ الشرِّ العظيم، فلمّا ماتَ الذين صوروهم لهذا المعنى خلفَ مِنْ بعدِهم خَلْفٌ قلّ فيهم العلمُ، واستفزّهم الشيطانُ وأغواهم، حتى أوقعهم في الشرك.
ثم بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام يعرفونه ويعرفون صدقه وأمانته وكمال أخلاقه، فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *} [الاعراف :59] إلا أنهم عصوه، وما آمن معه إلا قليل.
إنَّ الله تعالى خلق الناسَ على فطرةِ التوحيدِ، ثم استطاعتِ الشياطينُ أن تميلَ بالناسِ، وتنحَرِفَ بهم نحو الوثنيةِ المظلمةِ والشركِ العظيم، قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة :213] أي إنَّ الناس كانوا على ملّةِ آدم عليه السلام حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، فكان أوّل رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض.
إنَّ الأمة الإسلامية التي رضيْت باللهِ رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً، عليها أن تحرصَ على تحقيق التوحيد، ومحاربةِ الشرك، لأنها تعلمُ علمَ اليقين أنَّ مِنْ شروطِ التمكين لها تحقيقَ التوحيد وتهذيبَه، وتصفيتَه من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدعِ القوليةِ والاعتقاديةِ، والبدع الفعلية والعملية، ومن المعاصي، وذلك بكمالِ الإخلاص للهِ في الأقوال والأفعال والإرادات، وبالسلامةِ مِنَ الشركِ الأكبرَ المناقض لأصلِ التوحيد، ومن الشركِ الأصغرِ المنافي لكمالِهِ، وبالسلامة من البدع، وعليها أن تحاربَ شرك القبور، ووكذلك شركَ القوانين الوضعية المخالفة للشريعة الإسلامية، وعليها أن تدعوَ إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شؤون الحياة الإنسانية، ولسانُ حالها ومقالها قولُ الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الانعام :162 ـ 163] .
• أقسام الشرك:
ينقسمُ الشركُ إلى قسمين:
القسم الأول ـ الشرك الأكبر: هو الذي يخرِجُ صاحبَـه من ملّـةِ الإسلام، ويوجبُ له الخلودَ في جهنم، ويحرّمُ عليه الجنةَ، هذا إذا ماتَ على الشرك.
قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ *} [المائدة :72] .
والشركُ الأكبرُ أنواعٍ منها:
أ ـ شِرْكُ الدعاء: وهو اللجوءُ إلى غيرِ اللهِ ودعائه وقصدِه، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ *} [العنكبوت :65]. فهم يوحِّدون الله في حالِ الضيق والشدّة، وإذا نجّاهم أشركوا، ودعوا غيره.
ب ـ شِرْكُ النّيةِ والإرادةِ والقصدِ: وهو أن يعملَ العملَ ممّا يرادُ به وجهَ اللهِ عزَّ وجلَّ يعملُه لغيرِ اللهِ، ويقصدُ به مراداً آخر، فهذا شركٌ أكبر، قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}[هود: 15 ـ 16] قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا *كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا *}[الإسراء: 18 ـ 20] .
ج ـ شِرْكُ الطاعةِ: وهو طاعةُ الأحبار والرهبانِ وغيرِهم من البشرِ والعلماءِ والسلاطينِ والأمراءِ في تحريم ما أحلَّ الله، أو إباحة ما حرَّم الله، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة :31] .
عن عَدِيِّ بن حاتم رضي الله عنه أنَّه لما بلغته دعوةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام، وكان تنصَّر في الجاهلية، فأُسِرَتْ أختُـه وجماعةٌ من قومه، ثم مَنَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على أخته، وأعطاها، فرجعتْ إلى أخيها، فرغَّبته في الإسلامِ، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عديٌّ المدينةِ، وكان رئيساً في قومه طيء، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناسُ بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنِقِ عَدِيٍّ صليبٌ من فضّة، وهو يقرأ هذه الاية: قال: فقلت: إنّهم لم يعبدوهم. فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، إنّهم حرَّموا عليهم الحلالَ، وأحلُّوا لهم الحرامَ، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم».
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيفرّكُ أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلمُ شيئاً أكبرَ من الله؟ ما يفرُّك؟ أيفرّك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلمُ من إلهٍ إلاَّ الله؟» ثم دعاه إلى الإسلام فأسلمَ، وشهدَ شهادةَ الحقِّ. فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال: «إنَّ اليهودَ مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالون».
د ـ شِرْكُ المحبّة: بأن يصرفَ المحبَّة لغيرِ الله تعالى مما يجب أن يكونَ لله، ومن أدلته قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة :165] وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمانِ: أنْ يكونَ اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأنْ يُحِبَّ المرءَ لا يحبُّه إلاَّ لله، وأنْ يكرَهَ أن يعودَ إلى الكفرِ بعدَ أن أنقذَهُ اللهُ مِنْهُ كما يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النارِ».
• أمثلة للمشرك للتنفير من حاله:
وقد اهتمَّ القرآن الكريم بضربِ الأمثال للتنفيرِ من حال المشرك وهذه بعض الأمثال:
المثال الأول ـ مَثَّلَ المشرِكَ بالساقط من السماء: قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *} [الحج :31] .
يحثُّ الله سبحانه عبادَه على إخلاصِ التوحيد، وإفرادِه بالطاعةِ والعبادةِ دون الأوثان، ويذكرُ قبحَ الشركِ وبطلانَه بأوضح الأمثلة، لأنَّ مَنْ يشركُ باللهِ شيئاً من دونه فمثله في بعدِهِ عن الهُدى وإصابةِ الحقِّ، وهلاكِهِ وذهابِهِ عن ربِّه مثل مَنْ خرَّ من السماءِ، فتخطّفه الطيرُ، فهلك، أو هوت به العواصفُ في مكانٍ بعيدٍ، فهذا مثلٌ ضربه الله لمن أشركَ باللهِ في بعدِهِ من الهدى وهلاكه.
المثال الثاني ـ مثَّل المشرك بالحيران في الأرض: قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ *} [الانعام :71] هذا مثلٌ ضربه الله للالهة، ومن يدعو إليها، وللدعاة الذين يدعون إلى الله، كمثل رجلٍ ضلَّ الطريق، إذ ناداه منادٍ: يا فلان ابن فلان، هلمَّ إلى الطريقِ، وله أصحابٌ يدعونه:يا فلان، هلمَّ إلى الطريق، فإنِ اتبعَ الداعيَ الأول انطلقَ به، حتى يلقيه في الهلكة، وإنْ أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق.
المثال الثالث ـ مثَّل المشرك بالعبد المملوك لجماعة كثيرين: قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *}[الزمر: 29] هذا مثلٌ ضربه الله سبحانه وتعالى للمشرك والموحّد، فالمشركُ بمنزلةِ عبدٍ يملكه جماعةٌ متنازعون، مختلفون متشاحنون، والرجلُ المشاكِسُ: الضيّقُ الخلق، فالمشرِكُ لمّا كان يعبد الهةً شتّى شُبِّهَ بعبدٍ يملكه جماعةٌ متنافسون في خدمته، لا يمكنه أن يبلغَ رضاهم أجمعين. والموحِّدُ لمَّا كان يعبدُ الله وحدَه، فمثله كمثلِ عبدٍ لرجلٍ واحدٍ، قد سَلِمَ له، وعَلِمَ مقاصدَه، وعرفَ الطريقَ إلى رضاه، فهو في راحةٍ من تشاحُنِ الخلطاء فيه، بل هو سالِمٌ لمالِكِه من غيرِ تنازعٍ فيه، مع رأفةِ مالِكِه به، ورحمتِهِ له، وشفقتِهِ عليه، وإحسانِهِ إليه، وتولّيه لمصالِحِه، فهل يستوي هذان العبدان؟ وهذا من أبلغِ الأمثالِ، فإنَّ الخالصَ لمالكٍ واحدٍ يستحقُّ مِنْ معونته وإحسانِهِ والتفاتِهِ إليه وقيامِهِ بمصالِحه ما لا يستحقُّه صاحبُ الشركاءِ المتشاكسين، الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.
القسم الثاني ـ الشرك الأصغر: وهذا النوعُ لا يخرِجُ صاحبه من الملة، ولكنّه يُنْقِصُ من توحيده، وهو وسيلةٌ للشرك الأكبر، وهو ينقسِمُ إلى نوعين: ظاهر وخفي.
أ ـ فالظاهِرُ من الشرك الأصغر: مكوَّنٌ من ألفاظ، وأفعال.
فمنَ الألفاظِ: الحَلفُ بغير الله، وقولُ الإنسانِ: لولا الله وأنتَ، أو هذا مِنَ الله ومِنْكَ، ما شاء الله وشئتَ، فإنَّ هذا يقتضي المساواةَ بين الله وبين العبد، وهذا محالٌ، ولكنّ الصحيح ألاّ يحلف إلا بالله عزَّ وجلَّ، وأن يقول: لولا الله ثم أنت، أو هذا من الله ثم منك، وما شاء الله ثم شئت.
ومن الأفعال: لبس الحلقةِ والخيطِ، وتعليقِ التمائم خشيةَ العين أو الجن، فمن فعل ذلك معتقداً أنها سببٌ يستدفع بها البلاء، وأن الدافع للبلاء هو الله وحده، فقد أشركَ شركاً أصغر، وإذا فعل ذلك معتقِداً أنَّ هذه الأشياء تدفعُ البلاءَ بعد نزولِهِ، أو تمنعه قبلَ حلوله، فقد أشركَ شركاً أكبر، حيث اعتقدَ شريكاً مع الله في الخلق والتدبير.
ب ـ وأما الخفي من الشرك الأصغر: فهو شِركُ الإراداتِ والمقاصدِ والنيَّاتِ، وذلك مثل الرياء، والسمعة، ومثال ذلك أن يعملَ المسلمُ عملاً، الأصلُ فيه أنَّه لله تعالى، ثم بعدَ ذلك يدخِلُ فيه شيئاً من الرياء أو السمعة، فيريدُ مِنَ الناس الثناءَ عليه، كأنْ يقرأَ مسلمٌ القرآن لله تعالى تقرُّباً له، وعندما يرى الناسَ تنصِتُ له، يُلحِّن في صوته ابتغاءَ الثناءِ عليه، أو يتصدَّقُ إنسانٌ بمالٍ ثم يحبُّ أن يُمدَحَ ويُثْنَى عليه، أو يُحَسِّنُ الرجلُ صلاته التي يتقرَّبُ بها إلى الله لما يرى من نظر الناس إليه، وغير ذلك من الأعمالِ والعباداتِ التي تُصْرَفُ لله تعالى ابتداءً. وإلا لو صرف ابتداءً لغير الله لأصبحَ ذلك شركاً أكبرَ يخرِجُ من الملة، ولكن بعدَ البَدْءِ فيها يدخلُ عليه حُبُّ المدحِ والثناءِ على فعلِهِ وعبادتِهِ.
وعاقبةِ الرياءِ الذي يخالِطُ العملَ هو إبطالُ أجرٍ وثوابِ هذا العمل، قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف :110] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخوفُ ما أخافُ عليكم الشركَ الأصغرَ» فسئل عنه فقال: «الرياء».
إنَّ الشركَ في الإراداتِ والنيَّاتِ بحرٌ لا ساحلَ له، وقلَّ مَنْ ينجو منه، فمن أرادَ بعملِهِ غيرَ وجه الله، ونوى به شيئاً غيرَ التقرّب إليه، وطلب الجزاءَ منه، فقد أشركَ في نيته وإرادته.
والإخلاصُ: أن يخلصَ العبد للهِ في أفعاله وأقوالِهِ وإرادتِه ونيّته، وهذه هي الحنيفيَّةُ ملةُ إبراهيم، التي أمرَ الله بها عبادَه كلَّهم، ولا يَقْبَلُ من أحدٍ غيرَها، وهي حقيقةُ الإسلام، وهي ملَّةُ إبراهيم عليه السلام.
والعبدُ المؤمن يخشى على نفسه مِنَ الرياء، وأن تصيرَ أعمالُه هباءً منثوراً، فقد قال الله تعالى عن أقوام: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا *} [الفرقان :23] .
وقال الفُضيل في هذه الاية: قال: عملوا {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *}، وحسبوا أنّها حسناتٍ، فإذا هي سيئاتٌ.
وقريبٌ من هذا أن يعملَ الإنسانُ ذنباً يحتقِرُه، ويستهين به، فيكونُ هو سببَ هلاكه، كما قال تعالى: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ *} [النور :15] .
وقال بعض الصحابة: إنَّكم لتعملون أعمالاً هي أدقُّ في أعينكم من الشعرِ، كنا نعدها على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقاتِ.
وأصعب من هذا مَنْ زُيِّنَ له سوءُ عمله فراه حسناً، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرَينِ أَعْمَالاً *الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *} [ الكهف:104 ـ 105] قال سفيان بن عُيينة: لمَّا حضرتْ محمّد بن المنكدر الوفاةُ جزعَ، فَدَعوا له أبا حازم، فجاء فقال له ابن المنكدر: إنَّ الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *} [الزمر :47] وأخافُ أن يبدو لي مِنَ الله ما لم أكنْ احتسبُ، فجعلا يبكيان جميعاً، فقال له أهله: دعوناك لتخفِّفَ عليه فزدته، فأخبرهم بما قال.
وقال الفضيل بن عياض: أُخبرت عن سليمان التَّيمي أنه قيل له: أنتَ أنتَ ومَنْ مِثْلُك؟ فقال: مه، لا تقولوا هذا، لا أدري ما يبدو لي من الله، سمعت الله يقول: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *} [الزمر :47]. وكان سفيان الثوري يقول عند هذه الآية: ويلٌ لأهلِ الرياءِ من هذه الاية، وهذا كما في حديث الثلاثة الذين هم أوَّلَ مَنْ تُسَعَّرُ بهم النارُ؛ العالِمُ، والمُتصَدِّقُ، والمجاهِدُ.
وكذلك من عمل أعمالاً صالحة، وكانت عليه مظالم، فهو يَظُنُّ أنَّ أعماله تنجيه، فيبدو له ما لم يكن يحتسب، فيقتسمُ الغرماءُ أعماله كلَّها، ثم يفضُلُ لهم فضلٌ، فيطرح من سيئاتهم عليه، ثم يُطرُح في النار.
وقد يناقَشُ الحسابَ فيُطْلَبُ منه شُكْرُ النعم، فتقوم أصغرُ النعم فتستوعِبُ أعماله كلَّها، وتبقى بقيةُ النعم، فيُطالَبُ بشكرِها فيعذَّبُ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نُوْقِشَ الحسابَ عُذِّبَ» وفي روايةٍ: «هَلَكَ».
وقد تكون له سيئاتٌ تحبِطُ بعضَ أعماله أو أعمالَ جوارحه سوى التوحيد، فيدخلُ النارَ. وقد يحبطُ العملُ بافةٍ من رياءٍ خفيٍّ، أو عُجُبٍ به، ونحو ذلك، ولا يشعر به صاحبُه.
قال ضيغم العابد: إنْ لم تأتِ الآخرة المؤمنَ بالسرورِ لقد اجتمع عليه الأمرّان، هَمُّ الدنيا وشقاءُ الآخرة.
فقيل له: كيف لا تأتيه الآخرة بالسرورِ، وهو يتعبُ في دار الدنيا ويدأبُ؟.
فقال: كيف بالقبولِ، كيف بالسلامةِ؟ ثم قال: كم مِنْ رجلٍ يرى أنَّه قد أصلحَ عملَه، يُجمَعُ ذلك كلُّه يومَ القيامة، ثم يضربُ به وجهُهُ.
ومن هنا كان بعضُ الصالحين يقلقون من هذه الاية: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *} [المائدة :27] .
ولذلك فالمسلمُ لا يثقُ بكثرةِ العمل، لأنَّه لا يدري أيقبل منه أم لا؟ ولا يأمنُ ذنوبه، فإنه لا يدري هل كفَّرت عنه أم لا؟ لأنَّ الأعمالَ مُغَيَّبةٌ عن العبيدِ، لا يدرون ما اللهُ صانعٌ بهم.
ومن تأمَّلَ هذا حقَّ التأمل أوجبَ له الخوفَ والخشيةَ والقلقَ، فإنَّ ابنَ آدم معرَّضٌ لأهوالٍ عظيمةٍ من الموتِ، والقبرِ، وأهوالِ البرزخِ، وأهوالِ الموقفِ، كالصراطِ، والميزانِ، وأعظمُ من ذلك الوقوفُ بَيْنَ يدي الله عزَّ وجلَّ، ودخولُ النار، ويخشى على نفسه الخلود فيها، بأن يُسلَبَ إيمانُه عندَ الموت، ولم يأمن المؤمنُ شيئاً من هذه الأمور، قال تعالى: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ *} [الاعراف :99] .
قال الشاعر (من الوافر):
أما واللهِ لو عَلِمَ الأنامُ لِمَا خُلِقُوا لما غَفلُوا ونامُوْا
لقد خُلِقُوا لِمَا لَوْ أَبْصَرَتْهُ عيونُ قلوبهم تاهُوا وهامُوا
مماتٌ ثم قبرٌ ثم حَشْرٌ وتوبيخٌ وأهوالٌ عِظَامُ
ليومِ الحشرِ قَدْ عَمِلَتْ رجالٌ فَصَلُّوا مِنْ مخافِتِهِ وَصَامُوا
ونحنُ إذا نُهينا أو أُمِرْنَا كأهلِ الكَهْفِ أيقاظٌ نِيَامُ
• الفرقُ بين الشركِ الأكبرِ والأصغرِ:
الشركُ الأكبر يخرِجُ صاحبه من الإسلام، بخلافِ الشرك الأصغر.
الشرك الأكبرُ يحبِطُ جميعَ الأعمال، أمّا الشركُ الأصغرُ فإنَّه يحبِطُ العملَ الذي خالطَه فقط.
الشركُ الأكبرُ يبيحُ الدمَ والمالَ، والشِّرْكُ الأصغرُ ليس كذلك.
الشركُ الأكبرُ يخلِّد صاحبَهُ في النار، أمّا الشرك الأصغر فلا يخلّد صاحبَه في النار،وإن دخلها.
الشركُ الأكبر يوجِبُ المعاداةَ، وقطعَ الموالاة، فلا يجوزُ موالاة المشرك مهما كانت قرابته. أمَّا الشركُ الأصغرُ
فلا يقطعُ الموالاةَ على الإطلاق، وإنّما يُوَالى بقدر ما لديه من التوحيدِ، ويُعادى بحسب ما فيه مِنَ الشرك.
• آثارُ الشرك:
إنَّ الشركَ الذي يقعُ فيه الإنسانُ له اثاره الوبيلةُ في دنياه وآخرته، سواءٌ أكان الواقع فيه فردٌ أم جماعةٌ، فمن تلك الآثار: إطفار نور الفطرة، والقضاء على منازع النفس الرفيعة، والقضاءُ على عزَّةِ النفس، ووقوعُ صاحبه في العبوديّةِ الذليلةِ، وتمزيقُ وحدةِ النفس البشرية، وإحباطُ العمل.

يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022