الكفر حقيقته وأنواعه وما يتعلق بكل نوع من أحكام
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الحادية والثلاثون
رمضان 1441ه/ أبريل 2020م
• تعريف الكفر وحقيقته:
الكفرُ لغةً تغطيةُ الشيء، وسُمِّي الليلُ كافراً لتغطيته كلَّ شيءٍ، وذكرَ أهلُ التفسير أنَّ الكفر في القرآن على خمسةِ أوجهٍ:
أحدهما: الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *}[البقرة: 6] .
والثاني: كفر نعمةٍ، ومنه قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ *} [البقرة :152] .
والثالث: التبرؤ، ومنه قولُه تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت :25]، أي يتبّرأ بعضُكم من بعضٍ.
والرابع: الجحود، ومنه قولُه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة :89] .
والخامس: التغطية: ومنه قولُه تعالى: {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد :20] يريدُ الزرّاع الذين يغطّون الحبَّ.
وأما الكفر اصطلاحاً: فهو الإنكارُ المتعمَّدُ لما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم، أو بعضَ ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ممّا عُلِمَ من دينه بالضرورة.
والكفر والإيمان ضدّان، متى ثبتَ أحدُهما ثبوتاً كاملاً انتفى الآخر.
والكفرُ ليس حقيقةً واحدةً، ولا هو شعبةٌ واحدةٌ، فلا ينحصِرُ في التكذيبِ أو الاعتقادِ القلبي، بل هو شُعَبٌ متعدِّدةٌ، ومراتبُ متفاوتةٌ، كما أنَّ ما يقابِلُه ـ وهو الإيمان ـ شعبٌ متعدِّدةٌ كما سبق ذكره.ويقعُ الكفرُ بالتكذيبِ والجحودِ، والإعراضِ، والتكبّر عن أوامرِ اللهِ.
وكما أنَّ الإيمان ذو شعب دلَّ عليها حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: «الإيمانُ بضعٌ وسبعونَ أو بضع وستـون شعبةً: فأفضلها قـول شهادةُ أنَّ لا إله إلا الله، وأدناهـا إماطـةُ الأذى عن الطريـقِ، والحياءُ شعبةٌ من الإيمان». فكذلك الكفرُ له شعبٌ أيضاً.
• ـ أقسام الكفر:
ينقسم الكفر إلى قسمين:
القسم الأول: كفرٌ أكبر يناقِضُ الإيمان، ويوجب الخروج من الملة، والخلودَ في النار، وهو على خمسة أنواع:
النوع الأول ـ كفر التكذيب: وهو اعتقادُ كذب الرسل، وهذا قليلٌ جداً، لأنَّ الله أيَّدَ رسلَه بالآيات، وأعطاهم من المعجزات ما يقومُ به دليلاً على صدقهم، وقيامِ الحجّةِ على أممهم، قال تعالى عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل :14] وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ *} [الانعام :33] وإنَّما يلجأ بعضُ الكفَّار إلى تكذيبِ الرسلِ بألسنتهم فقط، وليس من قلوبهم.
النوع الثاني ـ كفر الإباء والاستكبار: وهو المسمّى بالكفر الإبليسي، فإنَّ إبليسَ إنَّما جحدَ أمرَ الله وأنكره عناداً واستكباراً، وهذا النوع يقعُ من معظم الكفار، حيث يقولون: {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ *} [يس :15] وكما يقول قوم فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ *} [المؤمنون :47].
النوع الثالث ـ كفر الإعراض: وذلك بأنْ يُعْرِضَ بسمعه وقلبِهِ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يصدّقه، ولا يكذّبه، ولا يواليه، ولا يعاديه، ولا يصغي له، ولا إلى ما جاء به البتَّةَ، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ *} [الاحقاف :3] .
النوع الرابع ـ كفرُ الشكِّ: بأنْ لا يجزِمَ بصدقٍ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولا يكذّبه، وإنما يشكُّ في ذلك، أو يشك في القيامة، ومِنْ هذا الكفرِ كفرُ صاحِبِ الجنّة والبستانِ الذي غرّه ما عنده من الرزق، وفقدَ الإيمانَ باللهِ واليومِ الآخر، قال تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا *وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لأََجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا *قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً *لَكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا *} [الكهف :35 ـ 38] فلقد عبّر عن عقيدته في اليوم الآخر بقوله: هكذا على سبيل الشك وعدم {وَلَئِنْ رُدِدْتُّ إِلَى رَبِّي}، فوقع في الكفر، كما قال له صاحبه وهذا هو مصيرُ أصحاب القلوبِ المريضة والعياذ {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ}
النوع الخامس ـ كفر النفاق: وهو إظهارُ الإيمانِ باللسان، وإخفاءُ الكفرِ والتكذيب في القلبِ، وهو النفاق الأكبر، وهذا النوع من أشدِّ أنواعِ الكفرِ خطراً على الإسلام والمسلمين، وأصحابُ هذا النفاق يتغلغون في صفوف المسلمين، ويحاولون تفريقَ الكلمة وتمزيقَ الأمة، ودليله قوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ *} [البقرة :8 ـ 9].
القسم الثاني: كفر أصغر: وهذا لا ينافي أصلَ الإيمان، ولا يذهب به بالكلية، وإنّما ينقص كماله، ويصبح الموصوف به مذموماً شرعاً، وإن بقيتْ أحكامُ الإسلام تجري عليه، لبقاء أصل الإيمان به، وهو كلُّ ذنب وردَت تسميتُه في الكتاب والسنّةِ كفراً، وهو لا يصلُ إلى حَدِّ الكفر الأكبر، وهذا النوع يوجبُ استحقاقَ الوعيد دونَ الخلودِ في النار، ومثال ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «سبابُ المسلمِ فسوقٌ وقتالُه كفرُ». فإنَّ الكفرَ هنا معناه الكفرُ الأصغرُ الذي لا يخرجُ من الملّة، بدليل قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}[الحجرات: 9] فقد سمّاهم الله مؤمنين مع اقتتالهم.
• إطلاق حكم الكفر، وشروط التكفير، وموانعه، والتوبة منه:
1 ـ إطلاقُ حكم الكفر: ليس كلُّ مَنْ عملَ عملاً أو قال قولاً كفرياً يكون كافراً، إلا إذا وُجِدَت الشروطُ في حقِّ ذلك المعيَّن، وانتفت الموانعُ التي تمنع استحقاقه لذلك الحكم، فقد يقولُ الإنسان الكفرَ أو يعملُه باجتهادٍ أو خطأً ولا يكفُرُ به، وذلك لما يترتَّب على ذلك من الأحكام الشرعية، كإهدارِ دمه، وزوالِ عصمة ماله، وقطع الميراث بينه وبين أولاده، وتحريمِ زوجته عليه، وعدمِ حلِّ ذبيحته، وعدمِ جوازِ تغسيلِه والصلاةِ عليه ودفنِهِ في مقابر المسلمين، وعدم جوازِ الاستغفارِ له بعد موته، ولورودِ الوعيد الشديد على مَنْ أطلقَ كلمة الكفر على مُسلمٍ، ولم يكن كذلك، ففي الحديث: «أيما رجلٍ قالَ لأخيه يا كافرُ فقد باءَ بها أحدُهما».
2 ـ شروط التكفير:
بيّن علماءُ المسلمين بأنَّ الشخص المعيّن لا يكونُ كافراً حلالَ الدمِ والمالِ إلا إذا تحققت فيه شروطٌ عدة، وانتفت عنه موانعُ، حينئذٍ يجوزُ الحكم عليه بالكفر، أما إذا انتفى أيُّ شرطٍ، أو وُجِد أيُّ مانع، فلا يجوزُ أن يحكمَ عليه بالكفر، وليس معنى هذا إعفاءَه من العقوبة تماماً، يل يُعاقَبُ على حسب حاله، إنّما الممنوعُ الحكمُ عليه بالكفر، لا مطلقُ العقوبةِ.
هناك شروطٌ ثلاثةٌ لا بدَّ من اجتماعها في من عمل عملاً يستحقُّ عليه الوعيد واللعن والكفر، وإذا سقطَ شرطٌ منها فيمتنع لعنُ الشخصِ أو تكفيرُه، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول ـ العلم: فالله سبحانه وتعالى لم يشرع العقوبةَ قبل إقامةِ الحجّة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الاسراء :15] وقال تعالى: {رُسُلاً وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *}[النساء: 165] وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتنَا}[القصص: 59] وقال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ}[الملك: 8 ـ 9] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى *}[طه: 134] وهذه النصوصُ الربانية تفيدُ أنَّ الله تعالى لا يؤاخِذُ عبادَه إلاّ بعدَ قيام الحجة عليهم، وعِلمهم بالحقِّ والصواب، وقد ثبت في نصوصٍ أخرى أنّ الله لا يؤاخِذُ جاهلاً، ولو كان جهلُه بمسائلَ في العقيدة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كانَ رجلٌ يُسْرِفُ على نفسِهِ، ولمّا حضره الموتُ قال لبنيه: إذا أنا مِتُّ فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذُرُّوني في الريحِ، فو اللهِ لئن قدرَ عليَّ ربي ليعذِّبني عذاباً ما عذَّبه أحداً، فلمّا ماتَ، فُعِلَ به ذلك، فأمرَ الله الأرضَ فقال: اجمعي ما فيكِ منه، ففعلتْ، فإذا هو قائمٌ، فقال: ما حملكَ على ما صنعتَ؟قال: يا ربِّ خَشْيَتُك، فَغُفِرَ له» وفي رواية: «مخافُتَك يا ربِّ»، فهذا الرجلُ كان قد وقعَ له الشكُّ والجهلُ في قدرة الله تعالى على إعادةِ ابنِ آدم، بعدما أُحْرِقَ وذُرّي، وعلى أنّه يعيدُ الميتَ ويحشرَه إذا فعلَ ذلك، وهذان أصلان عظيمان، أحدهما: متعلِّقٌ بالله تعالى، وهو الإيمانُ بأنَّ الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. والثاني: متعلِّقٌ: باليوم الآخر، وهو الإيمانُ بأنَّ الله يعيدُ هذا الميِّتَ، ويجزيه على أعماله، ومع هذا فلمَّا كان مؤمناً باللهِ في الجملةِ، ومؤمناً باليوم الآخر في الجملةِ، وهو أنَّ الله يثيبُ ويعاقِبُ بعدَ الموت وقد عمل صالحاً، وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه، غفرَ الله له بما كانَ منه من الإيمان بالله، واليوم الآخر، والعمل الصالح.
وكذلك بلال بن رباح رضي الله عنه، لمّا باع الصاع بالصاعين أمره النبيُّ صلى الله عليه وسلم بردّه، لم يرتِّبْ على ذلك حكمَ اكلِ الربا من التفسيقِ واللعنِ والتغليظِ لعدم علمه بالتحريم.
الشرط الثاني ـ العمدُ: لا بدَّ مِنْ توفّر شرطِ العمد، لأنَّ الله تعالى قد رفعَ الإثمَ والمؤاخذةَ عن المخطئ والمتأوِّل، قال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الاحزاب :5] وقال سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة :286]، وقـد ثبتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنَّ الله تعالى قـال: قد فعلتُ» لمّـا دعـا النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعـاء. وقـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ تجاوزَ لي عن أُمَّتي الخطأَ والنسيانَ وما استُكْرِهُوا عليه...» وذلك يعمُّ الخطأ في المسائلِ الخبريةِ القوليةِ، والمسائلِ العمليةِ، وما زالَ السلفُ يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحدٌ منهم على أحد لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا بمعصيةٍ. تلك أدلة رفعِ الإثمِ والمؤاخذةِ عن المخطئ والمتأول.
وإذا كان المسلم متأوِّلاً في القتال أو التكفير لم يكفرْ بذلك، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحاطب بن أبي بلتعة: يا رسول الله دعني أضربُ عنقُ هذا المنافق، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّه شهدَ بدراً، وما يدريكَ لعلَّ الله أن يكون قد اطّلعَ على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتُم فقد غفرتُ لكم»، وكذلك ثبت في «الصحيحين» عن أسامة بن زيد أنَّه قتلَ رجلاً بعد ما قال: لا إله إلا الله، وعظّم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك لمَّا أخبروه وقال: «يا أسامةُ أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله»؟ كرَّر ذلك عليه حتى قال أسامةُ: تمنّيتُ أني لم أكنْ أسلمتُ قبل ذلك اليوم، ولم يوجب عليه قَوَداً ولا دِيةً ولا كفّارةً، لأنّه كان متأوِّلاً، وظنَّ جوازَ قتلِ ذلك القائل لظنّه أنّه قالها تعوُّذاً.
الشرط الثالث ـ الاختيار والقدرة: قال تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل :106]
ففي قوله تعالى: استثناءٌ ممّن كفرَ بلسانه، ووافق المشركينَ بلفظهم مُكرَهاً لما ناله من ضربٍِ وأذًى، وقلبُه يأبى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} يقولُ، وهو مطمئنٌ بالإيمانِ باللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد نزلت هذه الآية في عمّار بن ياسر، فقد أخذه المشركون، فعذّبوه حتى قاربهم في بعضٍ ما أرادوا، فشكا ذلك إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كيفَ تجدُ قلبك؟» قال: مطمئناً بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنْ عادوا فَعُدْ».
ولهذا اتفق العلماءُ على أنَّ المكرَهَ على الكفرِ يجوزُ له أن يوالي إبقاءً لمهجته، ويجوزُ له أن يأبى كما كان بلالٌ رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك، والأفضلُ والأولى أنْ يَثْبُتَ المسلمُ على دينه، ولو أفضى إلى قتله. وقد أخبر الله سبحانه وتعالى في غيرِ موضعٍ أنَّه لا يكلِّفُ نفساً إلاَّ وسعها، كقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة :286] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [ا لاعراف :42] وأمربتقواه بقدر الاستطاعةِ فقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن :16] .
3 ـ موانع التكفير:
إنَّ الحكمَ على الشخص المعيَّن يتوقَّفُ على وجودِ شروطٍ، وانتفاء موانعٍ، ومن موانع التكفير: الخطأُ، الجهلُ، العجزُ، والإكراهُ.
أ ـ فالخطأ: لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة :286] وقال تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الاحزاب :5] فوجودُ الخطأ من المسلمِ أحدُ موانعِ تكفيرِ المعيَّن، كما أنَّ الله أمرَ الناسَ أن يطلبوا الحقَّ على قدر وسعهم وإمكانهم، فإن لم يصيبوا الحقَّ في اجتهادهم، فلا يكلِّفُ الله نفساً إلا وسعها، والواجبُ في حقّ المسلم أن يعبدَ الله بحسب ما توصّلَ إليه اجتهادُه، إن كان مؤهّلاً للاجتهاد، وبذل وسعه في طلب الحقِّ.إنَّ الأدلةَ من الكتاب والسنة متضافرةٌ على أنَّ المجتهد المخطأئَ معذورٌ، كما دلَّ الإجماعُ والقياسُ على ذلك.
ب ـ الجهل: قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} [النساء :165] وقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً *} [الاسراء :15] فالجهلُ أحدُ موانِعِ تكفيرِ المعيَّنِ، لأنَّ الإيمانَ متعلِّقٌ بالعلم، ووجودُ العلم بالمؤمن به شرطٌ من شروطِ الإيمانِ به.
ج ـ العجز: قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا *} [النساء :75] فأولئك كانوا عاجزينَ عن إقامةِ دينهم، فقد سقط ما عجزوا عنه، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا *إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا *} [النساء :97 ـ 99] فهذه الآيات في جماعةٍ من المؤمنين كانوا يستخفون بإيمانهم، وهم عاجزونَ عن الهجرة، فعذَرَهم اللهُ تعالى.
ومثالٌ آخر على العجز كمانع من موانع التكفير، أنَّ النجاشيَّ ملك النصارى في الحبشة، لم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، ولم يدخل معه سوى نفرٍ يسيرٍ منهم، فلمّا مات، صلّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، خرجَ بالمسلمين إلى المصلى، فصفّهم صفوفاً، وصلّى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد توفّي اليومَ رجلٌ صالحٌ من الحبش، فهلمّوا فصلّوا عليه». وكثيرٌ من شرائع الإسلام لم يكن دخلَ فيها لعجزِه عن ذلك، فلم يهاجِرْ، ولم يجاهِدْ، بل قد روي أنَّه لم يصلِّ الصواتِ الخمسَ، ولم يصمْ رمضانَ، ولم يؤدِ الزكاةَ الشرعية، لأنَّ ذلك يظهر عند قومه فينكِرون عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ويعلم قطعاً أنَّه لم يكن يمكنه أن يحكمَ بينهم بحكم القرآن، لأنَّ قومه لا يقرّونه على ذلك، ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيات اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [ ال عمران: 199] وقال بعضُ العلماء: هذه الاية نزلت في النجاشي، ومنهم من قال: فيه وفي أصحابه.
وكذلك ما أخبر الله به عن حال مؤمن ال فرعون مع قوم فرعون، وعن حالِ امرأة فرعون.
وكذلك كان يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفّاراً، ولم يمكنه أن يفعلَ معهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام، لأنَّه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه.
إنَّ مَنْ عجز عن أداءِ ما شرع الله عليه، واتّقى الله ما استطاعَ، فإنَّه معذور غيرُ مؤاخَذٍ على ما تركه.
د ـ الإكراه: قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *} [النحل :106] وهو كلُّ ما أدَّى بشخصٍ لو لم يفعل المأمورَ به إلى ضربٍ أو حبسٍ، أو أخذِ مالٍ، أو قطعٍ رزقٍ يستحقّه، أو نحو ذلك.
وشروط الإكراه أربعةٌ:
الشرط الأول: أن يكونَ فاعِلُه قادراً على إيقاع ما يهدِّد به، والمأمورُ عاجزاً عن الدفعِ، ولو بالفرار.
الشرط الثاني: أن يغلبَ على ظنِّ المكرَه أنَّه إذا امتنعَ أوقع به المكرِهُ ما هدّده به.
الشرط الثالث: أن يكونَ ما هُدِّدَ به فورياً، أو بعدَ زمنٍ قريبٍ جداً، أو جرتِ العادةُ أنّ المهدِّد لا يخلف ما هدده به.
الشرط الرابع: أن لا يظهرَ من المأمورِ ما يدلُّ على اختياره.
4 ـ التوبة من الكفر بعد ثبوته على المعيَّن:
التوبة: هي رجوعُ العبدِ إلى الله، ومفارقته لصراط المغضوب عليهم والضالين. والله سبحانه وتعالى يقبلُ توبة العبدِ من جميع الذنوب، الشرك فما دونه، كما قال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزمر :53] وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [المائدة :73 ـ 74] وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال :38] .
والتوبة تمحو جميع السيئاتِ، وليس شيءٌ يغفِرُ جميعَ الذنوب إلا التوبة، ومعلومٌ أنَّ من سبَّ الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفّار المحاربين، وقال: هو ساحر، أو شاعر، أو مجنون، أو معلَّم، أو مفتر، وتاب: تابَ الله عليه. وقد كان طائفةٌ يسبّون النبيَّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أهلِ الحرب، ثم أسلموا، وحسن إسلامهم، وقبل النبيُّ صلى الله عليه وسلم منهم، منهم أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن أبي السرح، وكان قد ارتدَّ، وكان يَكْذِبُ على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: أنا كنتُ أعلّمه القرآن، ثم تابَ، وأسلمَ، وبايعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فالتوبةُ هي الأمرُ الوحيدُ الذي يمحو الله به الكفر بعد ثبوته، وقد انعقد الإجماع على ذلك.
• الأمثال القرآنية للكافرين:
1 ـ السرابُ وأعمال الكفار: قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ *} [النور :39] بيَّنُ الله سبحانه وتعالى أنَّ مثلَ أعمالِ الذين كفروا باللهِ مِثْلَ سرابٍ بأرضٍ منبسطةٍ، يرى وَسْطَ النهارِ، وحين اشتدادِ الحرِّ، فيظنُّه العطشانُ ماءً، فإذا أتاه ملتمِساً الشرابَ لإزالةِ عطشه، لم يجدَِ السرابَ شيئاً، فكذلك الكافرون في غرورٍ من أعمالهم التي عملوها، وهم يحسبون أنها تنجّيهم عند الله من الهلاك، كما حَسِبَ العطشانُ السرابَ ماءً، فإذا صار الكافِرُ إلى اللهِ، واحتاجَ لعمله، لم ينفعه، وجازاه الله الجزاء الذي يستحّقه.
ونلاحظ خلال المثل صورةَ السرّاب، ثم صورةَ الظامأئِ الذي ظنّه ماء، ثم خيبتُه عند وصولِه إليه، وحذفَ ما عدا ذلك، لأنَّ الخيالَ يتمُّ رسمَها، وفي المثل له لم يُذكَر إلا عملُ الذين كفروا، وطُوِي ما عدا ذلك، لأنَّ الفكرَ قادِرٌ على أن يستدعيه، وهذا من بلاغة القرآن.
2 ـ ظلماتُ الكفر: قال تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ *} [النور :40] هذه الآية مثلٌ آخر لأعمالِ الكفّار، إلاّ أنَّ المثلَ في انخداعِ الكافرِ بعمله في الدنيا، وغروره به، وهذا المثلُ لأعمالِ الكفّارِ في أنَّها عملتْ على خطأ وفساد وضلال وحيرة وعلى غيرِ هدًى، فهي في ذلك كمثل ظلمات في بحرٍ عميقٍ جدّاً، كثيرِ الماء، وفوقَ هذا الموج موجٌ آخر، وفوقها سحابٌ متراكم، فاجتمعت عِدّةُ ظلماتٍ، وهكذا عمل الكافر ظلماتٌ في ظلماتٍ.
فهذا المثلُ يصوّرُ الحالةَ النفسيةَ والفكريةَ والقلبيةَ للذين كفروا بعد أن تركوا نورَ الهدايةِ الربانيّة، إنّهم يطلبون سعادتهم في الظلمات، فقلوبُهم مظلمةٌ بالكفر، ونفوسُهم تائهةٌ في بحرٍ من ظلماتِ الأهواء والشهوات، وأفكارُهم تسبحُ في ظلماتِ أسباب لذّات الدنيا، وإرادتهم تحت كلِّ هذه الظلمات، فمثلُهم كمَنْ في ظلماتِ قاعِ بحرٍ عميقٍ، فوقه أمواجٌ، في العمق الظلمة، فوقها أمواجٌ، في السطح تتضاعفُ الظلمة، فوقها سحابٌ يزيدُ الظلامُ ظلاماً، ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض.
إنَّ مثلَ الظلماتِ في (سورة النور) دلَّ على حقائقَ علميةٍ تتَّصل بالعلوم الدنيوية المادية التطبيقية أو النظرية، وإنَّ هذه الحقائق تنقسم ثلاثةَ أقسامٍ:
القسم الأول: دلالةُ المثلِ على معجزةٍ علميةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم تتمثّل في الإخبارِ بوجودِ أمواجٍ في باطنِ البحارِ العميقة اللُّجّية (المحيطات) والتي لم تكن معلومةً في ذلك الوقت، بل لم يكن بمقدور البشر اكتشافها، لكونها على عمق لا تصله إلا الغواصاتُ أو الغواصون المزوّدون بالأكسجين.
القسم الثاني: الإخبارُ عن حقائق علميةٍ في العلوم الدنيوية بما يطابِقُ ما ثبتَ عند المتخصصين فيها، وقد اشتملَ المثل على فائدتين من هذا القسم:
الأولى: إفادةُ المثل أنَّ أعماقَ البحار العميقةِ مظلمةٌ ظلمةً شديدةً، مع بيان سبب ذلك، وهو وجودُ حُجُبٍ حجبت الضوءَ، هي عبارةٌ عن أوساط شفّافة متعدّدة أسهمت مجتمعةً في حجب الضوءِ عن تلك الأماكن، وتسبّبت في ظلمتها، واتفاق ذلك مع ما تقرر في علم البحار، وعلم الضوء.
الثانية: دلالةُ المثلِ على التفسير العلمي للرؤية، وأنَّه يشترَطُ له وصولُ الضوءِ من مصدر مضيءٍ إلى الجسم المرئي، وإذا انعدمَ الضوءُ، ولم يصلْ منه شيءٌ إلى الجسمِ، فإنَّه يُظْلِمُ ولا يُرى، واتفاقه مع التفسير الصحيح المتقرر عند المتخصصين في ذلك الشأن، كما تضمّن المثل ـ أيضاً ـ إبطالَ التفسير القديم القائم على أنَّ سببَ الرؤيةِ خروج أشعةٍ من العين تسقطُ على الأجسامِ فتحدث رؤيتها.
القسم الثالث: إفادةُ المثل حقائقَ علميةٍ ثابتةٍ في نفسها، وإن لم تكنْ مسلِّمة عند كل المشتغلين بتلك العلوم، وذلك في الأمورِ العقلية التي تبحثُ عادةً فيما يسمّى بعلم النفس والسلوك والاجتماع. وقد دلَّ المثلُ على حقيقتين من هذا القسم، هما:
الحقيقة الأولى: أنَّ الكفَّارَ يتقلّبون في ظلماتٍ حالكةٍ، وضلالاتٍ لا ينفكُّون عنها.
الحقيقة الثانية: حقيقةُ أنَّ الكفَّار في خوفٍ وقلقٍ وحَيْرةٍ دائمةٍ.
3 ـ الرماد وأعمال الكفار: قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيْحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ *} [ابراهيم :18] شبّه اللهُ تعالى أعمالَ الكفّارِ في بطلانها، وعدمِ الانتفاع بها، برمادٍ مرّت عليه ريحٌ شديدةٌ في يومٍ عاصفٍ، فشبّه سبحانه أعمالَهم في حبوطها وذهابها باطلاً كالهباءِ المنثور، لأنها على غيرِ أساسٍ من الإيمانِ والإحسانِ، ولأنها لغيرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وعلى غيرِ أمرهِ: برماد طيرته الريح العاصفُ، فلا يقدرُ صاحبُه على شيءٍ منه وقتَ شدّةٍ حاجته إليه، فلذلك قال تعالى: {لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} يقدرون يومَ القيامةِ ممَّا كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثراً من ثواب، ولا فائدة نافعة.
فإنَّ الله لا يقبلُ إلا ما كان خالصاً لوجهه، موافقاً لشرعه... وفي تشبيهه بالرماد سِرٌّ بديعٌ، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمالُ التي لغيرِ اللهِ وعلى غيرِ مراده طعمةٌ للنار، وبها تسعّرُ النار على أصحابها، وينشأئُ الله سبحانه لهم مِنْ أعمالهم الباطلةِ ناراً وعذاباً، كما يُنْشِأئُ لأهلِ الأعمالِ الموافقةِ لأمره ونهيه التي هي خالصةٌ لوجهه من أعمالهم نعيماً وروحاً، فأثّرت النارُ في أعمالِ أولئك حتى جعلتها رماداً، فهم وأعمالُهم وما يعبدون من دون الله وقودُ النارِ.
4 ـ نفقةُ الكفّار والريحُ الشديدة: قال تعالى: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ *} [ ال عمران: 117] شبَّه الله سبحانه ما ينفقه الكافرُ ويتصدّقُ به على وَجْهِ القربة إلى الله وهو مشركٌ باللهِ، وجاحِدٌ به، ومكذِّبٌ لرسلِهِ، أنَّ ذلك غيرُ نافعٍ، وأنَّه مضمحَّلٌ عند حاجته إليه. ذاهبٌ بعد ما كان يرجو نفعه: بريحٍ فيها بردٌ شديدٌ، وتحمِلُ النارَ، فأصابت زرعَ قومٍ أَمِلوا إدراكَه، ورَجَوْا رَيْعَهُ، لكنّهم كفرة، فأهلكتِ الريحُ التي فيها الصِّرُّ الزرعَ، ولم يُنْتَفعْ بِشَيءٌ منه، وكذلك يفعلُ اللهُ بنفقةِ الكافرِ وصدقته، يبطِلُ ثوابها، والمراد بالمثل صنيعُ الله بالنفقةِ.
وهذا مثل ـ أيضاً ـ ضربه الله تعالى لمن أنفقَ في غير طاعته ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر، وكسبِ الثناء، وحُسْنِ الذكر، ولا يبتغون به وجه الله، وما ينفقونه ليصدُّوا به عن سبيل الله واتباع رسله: بالزرع الذي زرعه صاحبه، يرجو نفعه وخيره، فأصابته ريحٌ شديدةُ البردِ جدّاً، يحرِقُ بردُها ما يمرُّ عليه من الزرع والثمار، فأهلكتْ ذلك الزرعَ وأيبسته.
5 ـ قلبُ الموحِّدِ وقلبُ الكافرِ: قال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيات لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ *} [الاعراف :58] بيّن سبحانه وتعالى في هذا المثل أنَّ البلدَ الطيبةُ تربتُه، العذبةُ مشاربُه، يخرُج نباته ـ إذا أنزل الله الغيثَ ـ طيباً ثمرُه في حينه ووقته.
والبلدُ الذي خَبُثَ فتربته رديئةٌ، ومشاربه مالحةٌ، ويخرجُ نباته بعسرٍ وشدةٍ، فهذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر، لأنَّ قلبَ المؤمن لمّا دخله القرآن وآمن به، وثبتَ الإيمان فيه، فاض بالخير، وقلبُ الكافر لمّا دخله القرآن لم يتعلّق منه بشيءٍ ينفعه، ولم يثبت فيه الإيمان، فاض بالنكد والشر والفساد.
وقد سمّى الله في كتابه المؤمنَ بالطيّبِ، والكافر بالخبيثِ، فقال تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ *} [الانفال :37] فالخبيثُ في هذه الاية هم الكفار، والطيّبُ هم المؤمنون.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf