السبت

1446-06-27

|

2024-12-28

في معنى لا إله إلا الله...تجليات للعبودية والتوحيد

د. علي محمد الصلابي

الحلقة: الأولى

شعبان 1441ه/ مارس 2020م

أوَّلُ كلمةٍ يدخلُ بها الإنسانُ بوّابةَ الإسلامِ، ويصلُ إلى مدارجِ التوحيد، ويرتقي في مراقي العبودية، هي كمةُ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي بموجبها يعترفُ العبدُ للهِ عزّ وجلّ وحدَه بالربوبية والألوهية، ولمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالةِ.
أنْ يشهدَ العبدُ أنَّ الله هوَ المستحقُّ للعبادةِ، وأنْ تنصَرفَ قواه ـ قوى عقلِهِ وقلبِهِ وبدنهِ وجوارحِه ـ في التسبيح، والتهليلِ، والتمجيد، والعبودية لهـذا الإلهِ العظيم، الذي أنتَ أيُّها الإنسانُ من بعضِ فضلِه، ومن بعضِ خلقِه، فكلُّ ذرَّاتِ كيانك الداخلية تعترِفُ به، وتمجِّده، وتسبِّحه، شئتَ أم أبيتَ، غفلتَ أم انتبهت، حَيِيْتَ أم مِتَّ، آمنتَ أم كفرتَ، فيبقى اختيارُ الإنسانِ أن يعبدَ ربَّه سبحانه وتعالى طَوْعاً بما أمره الله تعالى، وبما جاء على ألسنةِ رسلِهِ المكرّمين عليهم الصلاة والسلام.
وأن يشهدَ أنَّ محمَّداً صلى الله عليه وسلم الخاتمَ للرسل هو عبدُ اللهِ ورسولُه، أرسلَه ربُّنا إلى الخَلْقِ أجمعين، من الإنس والجن، وذلك إقراراً باللسانِ، وإيماناً بالقلب، بأنَّه رحمةٌ مهداةٌ للعالمين.
أولاً ـ معنى (لا إله إلا الله محمد رسول الله):
إن معنى كلمة: (لا إله إلا الله) أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهو وحدَه سبحانه المستحقُّ بأنْ تصرفَ له جميعُ العباداتِ، وتكونَ خالصةً له دون سواه، قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *} [البقرة :163] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجَعُونَ *} [الزخرف: 26 ـ 28] وقال تعالى: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ *} [ال عمران: 2] .
ومعنى شهادةِ (أنَّ محمد رسول الله) الإقرارُ باللسانِ، والإيمان بالقلبِ، بأنَّ محمَّدَ بنَ عبد الله القرشيَّ الهاشميَّ رسولُ اللهِ ـ عزَّ وجلَّ ـ إلى جميعِ الخلقِ من الجنِّ والإنسِ، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمنوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [الاعراف :158] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا *} [الفرقان :1] .
فكلمة لا إله إلا الله تشمل جزأيين، النفي والإثبات:
1 ـ أما (لا إله): فنافيةٌ جميعَ ما يُعْبَدُ مِنْ دونِ الله تعالى، فلا يستحقُّ أنْ يُعْبَدَ أحدٌ سواه، و«النكرةُ في سياق النفي تفيدُ العمومُ» فهي تشملُ كلَّ ما يمكِنُ أنْ يُتوجَّه إليه بالعبادةِ، وكلَّ مَنْ تُصْرَفُ إليه غير الله تعالى.
2 ـ أما (إلا الله): فَمُثْبِتَةٌ العبادةَ للهِ تعالى، فهو الإله الحقُّ، المستحقُّ للعبادة، فإنَّ خبر (لا) المحذوفَ (بحق) هو الذي جاءت به نصوصُ الكتاب المبين، فمعنى (لا إله بحق إلا الله) أي: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فكما تفرَّد سبحانه وتعالى بالخَلْقِ، والرزق، والإحياءِ، والإماتةِ، والإيجادِ، والإعدامِ، والنفعِ، والضّرِ، وغير ذلك من معاني ربوبيته، ولم يشارِكْه أحدٌ في خلقِ المخلوقات، ولا في التصرّفِ في شيءٍ منها، فكذلك تفرُّدُه سبحانه بالأُلوهيةِ حقٌّ لا شريكَ له، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ *} [لقمان :30] .
3 ـ أما لفظ الجلالة في كلمة الشهادة (الله) عزَّ وجلَّ فهو اسمٌ من أسمائه جلَّ وعلا، بل هو اسمه الأعظم عندَ قومٍ، وهـذا أكثرُ الأسماءِ تردُّداً في القرآن والسنة. (الله) هو أكثرُ الأسماءِ اشتهاراً وترديداً على ألسنةِ المخلوقين كلّهم بمختلف لغاتهم وألسنتهم.
و(الله) هو الاسم الدالُّ على الذاتِ العظيمةِ الجامعةِ لصفاتِ الألوهية والربوبية، وهو اسمٌ له وحدَه، لا يتعلّق به أحدٌ سواه، ولا يُطْلَقُ على غيره، ولا يدّعيه أحدٌ مِنْ خلقه.
و(الله) اسمٌ للربِّ المعبودِ المحمودِ، الذي يمجِّدهُ الخلقُ، ويسبّحونه، ويحمَدونه، وتسبّحُ له السماواتُ السبع، والأرضونَ السبعُ، ومن فيهنّ، والليل والنهار، والإنس والجن، والبَرُّ والبحر {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا *} [الاسراء :44] .
و(الله) هو الربُّ الذي تألَهُهُ القلوبُ، وتحنُّ إليه النفوسُ، وتتطلَّعُ إليه الأشواقُ، وتحِبُّ وتأنَسُ بذكرهِ وقربِهِ؛ وتشتاقُ إليه؛ وتفتقر إليه: المخلوقاتُ كلُّها في كلِّ لحظةٍ وومضةٍ، وخطرةٍ وفكرةٍ، في أمورِها الخاصّةِ والعامّةِ، والكبيرةِ والصغيرةِ، والحاضرةِ والمستقبلةِ، فهو مبديها ومعيدُها، ومُنْشِئُها وباريها، وهي تدينُ له سبحانه وتُقِرُّ، وتفتقِرُ إليه في كلِّ شؤونها وأمورِها، فما مِنْ مخلوق إلا ويشعرُ بأنَّ الله تعالى طوّقه مِنَناً ونعماً، وأفاضَ عليه من الائه وكرمه وإفضاله وإنعامه بالشيء الكثير، فجديرٌ إذًا أنْ يتوجَّه قلبُ الإنسان إلى الله تبارك وتعالى بالحبِّ والتعظيم والحنين.
و(الله): عظيمٌ في ذاته، وصفاته، وأسمائه، وجلاله، ومجده، لا تحيطُ به العقولُ، ولا تدرِكُه الأفهام، ولا تَصِلُ إلى عظمته الظنون، فالعقولُ تحارُ في عظمته، وإن كانت تستطيع بما مُنِحَتْ من الطّوْقِ والقدرةِ على أن تدرِكَ جانباً من هـذه العظمةِ، يمنحُها محبةَ اللهِ، والخوفَ منه، والرجاءَ فيه، والتعبُّدَ له، بكلِّ ما تستطيع.
قال الشاعر (من الكامل):
للهِ في الآفاقِ آيات لعلْ لَ أقلَّها هو ما إليه هَدَاكَا
ولعلَّ ما في النَّفْسِ مِنْ آياتهِ عَجَبٌ عُجَابٌ لو تَرَى عَيْنَاكا
والكونُ مشحونٌ بأسرارٍ إذا حاولتَ تفسيراً لها أعياكا
و(الله) هو الإله المعبود، الذي يُخْلِصُ له المؤمنون قلوبَهم، وعبادتهم، وصلاتَهم، وحَجَّهم، وأنساكَهم، وحياتَهم، وآخرتَهم {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ *} [الانعام :162 ـ 163] .
وروحُ (لا إله إلا الله) وسرُّها: إفرادُ الربِّ جلّ ثناؤه، وتقدّست أسماؤه، وتباركَ اسمُه، وتعالى جَدُّه، ولا إله غيرُه بالمحبةِ، والإجلالِ، والتعظيمِ، والخوفِ، والرجاءِ، وتوابعِ ذلك من التوكلِ، والإنابةِ، والرغبةِ، والرهبةِ، فلا يُحَبُّ سواه، بل كلُّ من كان يحِبُّ غيره فإنّما يحبُّه تبعاً لمحبته، ولأنّه وسيلةٌ إلى زيادةِ محبته، ولا يُخَاف سواه، ولا يُرْجَى سواه، ولا يُتَوَكَّلُ إلاَّ عليه، ولا يُرْغَبُ إلاَّ إليه، ولا يُرْهَبُ إلاَّ منه، ولا يُحْلَفُ إلاَّ باسمِهِ، ولا يُنْذَرُ إلاَّ له، ولا يُتَابُ إلاَّ إليه، ولا يُطَاعُ إلاَّ بأمرِهِ، ولا يُحْتَسَبُ إلاّ له، ولا يُسْتَعَانُ في الشدائِد إلاّ به، ولا يُلْتَجَأُ إلاّ إليه، ولا يُسْجَدُ إلاّ له، ولا يُذْبَحُ إلا له وباسمِهِ، يجتمع ذلك في حرفٍ واحدٍ، هو أنْ لا يُعْبَدَ بجميع أنواعِ العباداتِ إلاّ هو.
فهـذا هو تحقيقُ شهادةِ أنْ لا إله إلا الله، ولهـذا حرَّمَ الله على النارِ مَنْ شهدَ أنْ لا إله إلا الله حقيقةً، ومحالٌ أن يدخلَ النارَ مَنْ تحقَّقَ بحقيقةِ هـذه الشهادة، وقامَ بها كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ *} [المعارج :13] فيكونُ قائماً بشهادتهِ في باطنهِ وظاهره، وفي قلبه وقالبه.
ومقتضى هـذه الشهادة أنْ تصدِّقَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرَ، وأن تمتثلَ أمرَه فيما أمر، وأنْ تتَجَنَّبَ ما عنه نهى وزجر، وأنْ لا تعبدَ الله إلا بما شرع، وأنْ لا تعتقدَ أنَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم حقّاً في الربوبية، وتصريفِ الكون، أو حقّاً في العبادةِ، بل هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ لا يُعْبَدُ، ورسولٌ لا يكذَّبُ، ولا يملِكُ لنفسِهِ ولا لغيرهِ شيئاً منَ النفع أو الضرِّ إلا ما شاء الله.
لقد عُرِفَتْ (لا إله إلا الله) لدى المسلمين (بكلمة التوحيد) و(كلمة الإخلاص) و(كلمة التقوى)، وكانت (لا إله إلا الله) إعلانَ ثورةٍ على جبابرةِ الأرض وطواغيتِ الجاهلية، ثورةٍ على كل الأصنام والالهة المزعومة من دون الله، سواء كانت شجراً أم حجراً أم بشراً.
وكانت (لا إله إلا الله) نداءً عالمياً لتحريرِ الإنسان من عبوديةِ الإنسان والطبيعة وكلّ مَنْ خُلِق، وكانت (لا إله إلا الله) عنوانَ منهجِ اللهِ الذي لا تعنو الوجوهُ إلاّ له، ولا تنقادُ القلوبُ إلاّ لحكمه، ولا تخضعُ إلاّ لسلطانه.

يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022