فضل "لا إله إلا الله"؛ من أعلى شعب الإيمان
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الثانية
شعبان 1441ه/ مارس 2020م
لقد ورد في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من الفضائل الجمّة لهـذه الكلمة، والخصالِ العديدة، والأوصافِ الحميدةِ، ما يَصْعبُ استقصاؤه في هـذا الموضع، فهي كلمةٌ قامت بها الأرضُ والسماوات، وخُلِقَتْ لأجلها جميعُ المخلوقاتِ، وبها أَرسلَ الله تعالى رسلَه، وأنزلَ كتبَه، وشرعَ شرائعَه، ولأجلِها نُصِبَتْ الموازينُ، ووضعت الدواوينُ، وقام سوقُ الجنّة والنار، وبها انقسمتِ الخليقةُ إلى المؤمنين والكفار، والأبرار والفجّار، فهي منشأُ الخلقِ والأمر، والثوابِ والعقابِ، وهي الحقُّ الذي خُلِقَتْ له الخليقةُ، وعنها وعن حقوقها السؤالُ والحسابُ، وعليها يقعُ الثوابُ والعقابُ، وعليها نُصِبَتِ القبلةُ، وعليها أُسِّسَتِ الملّةُ، ولأجلِها جُرِّدَتِ سيوفُ الجهادِ، وهي حقُّ اللهِ على جميعِ العبادِ، فهي كلمةُ الإسلام، ومفتاحُ دارٍ السلامِ، وعنها يُسْأَلُ الأولون والآخرون، فلا تزولُ قدما العبدِ بين يدي الله حتى يُسْألَ عن مسألتين: ماذا كنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟.
فجوابُ الأولى: بتحقيق (لا إله إلا الله) معرفةً، وإقراراً، وعملاً.
وجواب الثاني: بتحقيق (أن محمداً رسول الله) معرفةً، وإقراراً، وانقياداً، وطاعةً.
ومما ورد في فضل هـذه الكلمة في القرآن الكريم أنّها وُصِفَتْ بالكلمة الطيبة، والقولِ الثابتِ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طِيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ *تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ *} [ابراهيم :24 ـ 25] وأنها العروة الوثقى، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا} [البقرة :256] .
ومن فضائلها أنّ الرسل جميعَهم أُرسلوا بها مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الانبياء :25] إلى غير ذلك من الفضائل التي ذُكِرتْ في القرآن الكريم.
وأما ما ورد في فضلها في السنة المشرفة فكثيرٌ جدّاً، نذكرُ منه بعضُها:
فمن ذلك أنها أفضل شعب الإيمان، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الإيمانُ بِضْعٌ وسبعونَ، أو بِضْعٌ وستون، شُعْبَةً، أفضلُها قولُ لا إله إلاّ الله، وأَدْناها إمَاطَةُ الأذى عن الطريق».
ومن فضائلها أن الجهاد أُقِيْمَ من أجل إعلائها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أقاتِلَ النَّاسَ حتّى يَشْهَدوا أنْ لا إلهَ إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسولُ اللهِ، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك، عَصَمُوا منِّي دماءَهم وأموالَهم، إلاّ بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على اللهِ».
ومن فضائلها أنّها ترجُحُ بصحائفِ الذنوب، كما في حديث البطاقة،، فعن عبد الله بن عَمْرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ سَيُخَلِّصُ رجلاً مِنْ أُمَّتي على رؤوس الخلائق يومَ القيامةِ، فَيَنْشُرُ عليه تسعةً وتسعينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلِّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يقولُ: أتُنْكِرُ مِنْ هـذا شيئاً، أظلمَكَ كَتَبتي الحافظونَ؟.
فيقولُ: لا يا ربِّ.
فيقولُ: أفلك عُذْرٌ؟.
فيقولُ: لا يا ربِّ.
فيقولُ: بلى إنَّ لكَ عِنْدَنَا حسنةً، فإنه لا ظُلمَ عليكَ اليومَ، فتُخْرَجُ بطاقةٌ، فيها: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمّداً عبدُه ورسولُه، فيقول: احْضُرْ وزنَكَ.
فيقول: يا ربِّ ما هـذهِ البطاقةُ مَعَ هـذهِ السجّلاتِ؟
فقال: إنّك لا تُظْلَمُ.
قال: فتوضع السجلاّتُ في كِفّةٍ، والبطاقةُ في كِفّةٍ، فطاشتِ السجلاّتُ، وَثَقُلَتِ البطاقةُ، فلا يَثْقُلُ مَعَ اسمِ اللهِ شيءٌ».
أفضلُ الذكرِ (لا إله إلا الله):
إنّ ذكرَ اللهِ من أفضل العباداتِ المقرّبةِ إلى اللهِ تعالى وأجلِّها، وأعظمِها أجراً، مع سهولته ويُسْرِه على مَنْ يسرّهُ الله عليه.
هـذا وإنّ أفضلَ أنواعِ الذكر بعدَ القرآن العظيم هو قولُ المرء: (لا إله إلا الله).
وهي كلمةُ التوحيدِ، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «أفضلُ الذكرِ لا إله إلا الله».
وهـذه الكلمةُ الجليلةُ واجبٌ على كلِّ مسلمٍ أنْ يتعلَّمَها، ويعلمَ مضمونُها ومعناها، وشروطها وأركانها، وكلَّ ما يتعلّق بها، لأنّها الكلمةُ التي يصيرُ بها المرءُ مسلماً، فهي الفيصلُ بين الكفر والإسلام، ولأنَّ الله جلّ جلاله أمر أفضلَ خلقِهِ وخاتمَ رسلِهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْلمَ كلَّ ما يتعلَّقَ بها ويعتقدَه في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد :19] .
وقد ذمَّ الله سبحانه من استكبرَ عنها، وأعرضَ عنها، وتركَ العمل بها في قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ *وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ *} [الصافات :35 ـ 36] .
ووصف الله سبحانه نفسَه بما تضمنته هـذه الكلمةُ في غير موضع من كتابه فقال: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة :255] وقال سبحانه: {هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [غافر :65] .
وحققها إبراهيمُ عليه السلام كما حكى الله عنه بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ *وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجَعُونَ *} [الزخرف :26 ـ 28] .
أشعةُ كلمةِ (لا إله إلا الله) تبدِّدُ ظلماتِ القلوبِ:
اعلمْ أنَّ أشعة (لا إله إلا الله) تبدّدُ مِنْ ضبابِ الذنوبِ وغيومِهَا بقدر قوّةِ ذلك الشعاع وضعفه، فلها نورٌ، وتفاوتُ أهلِها في ذلك النور قوةً وضعفاً لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس مَنْ نورُ هـذه الكلمةِ في قلبه كالشمس، ومنهم مَنْ نورُها في قلبه كالكوكب الدرِّي، ومنهم مَنْ نورُها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراجِ الضعيف، ولهـذا تظهرُ الأنوارُ يومَ القيامةِ بأيمانهم، وبينَ أيديهم، على هـذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هـذه الكلمة علماً وعملاً، ومعرفة وحالاً، وكلّما عَظُمَ نورُ هـذه الكلمة واشتدّ أحرقَ مِنَ الشبهاتِ والشهواتِ بحسب قوته وشدته، حتى إنّه ربما وصلَ إلى حالٍ لا يصادِفُ معها شبهةً ولا شهوةً ولا ذنباً إلا أحرقه، وهـذا حالُ الصادقِ في توحيدِه، الذي لم يشركْ باللهِ شيئاً، فأيُّ ذنبٍ أو شهوةٍ أو شبهةٍ دنت من هـذا النور أحرقَها، فسماءُ إيمانه قد حُرِستْ بالنجوم من كلِّ سارقٍ لحسناته، فلا يَنَالُ منها السارقُ إلا على غرّةٍ وغفلةٍ، لا بدّ منها للبشر، فإذا استيقظَ وعلمَ ما سُرِقَ منه استنقذه من سارقه، أو حصّل أضعافه بكسبه، فهو هكـذا أبداً مع لصوص الجنِّ والإنسِ، ليسَ كمَنْ فتحَ لهم خزانتَه، وولّى البابَ ظهره.
التوافق بين (لا إله إلا الله) و(إياك نعبد):
إنّ معنى (لا إله إلا الله) تضمّنه قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} [الفاتحة :5] وهـذه الآية متضمّنةٌ لأجلِّ الغايات، ففيها يُسْرُ الخلق والأمر، والدنيا والآخرة، وهي متضمِّنةٌ لأجلِّ الغايات، وأفضل الوسائل، فأجلُّ الغايات عبوديتُه، وأفضل الوسائل إعانتُه، فلا معبودَ يستحقُّ العبادة إلا هو، ولا معينَ على عبادته غيره، فعبادتُه أعلى الغايات، وإعانتُهُ أجلُّ الوسائلِ.
وقد اشتملت هـذه الكلمةُ على نوعي التوحيد، وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتضمّنت التعبُّدَ باسم الرب واسم الله، فهو يُعْبَدُ بألوهيته، ويُستعانُ بربوبيته، ويُهْدَى إلى الصراط المستقيم برحمته، فكان أولُ السورةِ ذكر اسمه: (الله) و(الرب) و(الرحمن) تطابقاً لأجل الطالبِ من عبادته وإعانته وهدايته، وهو المنفرد بإعطاء ذلك كله، لا يعينُ على عبادته سواه، ولا يهدي سواه.
يمكنكم تحميل كتاب سلسلة أركان الإيمان (1)
كتاب الإيمان بالله
من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book174.pdf