الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(علاقة الإسلام بالعروبة في فكر الشيخ الإبراهيمي)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 207

بقلم: د.علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1443 ه/ نوفمبر 2021

يرى الإبراهيمي أن أهم مقوم من مقومات الفكر الإصلاحي: الإسلام، ويقول في ذلك: إن الإسلام في الجزائر ثابت ثبوت الرواسي، متين القواعد والأواسي، قد جلا الإصلاح حقائقه، فكان له منه كفيل مؤتمن، واستنارت بصائر المصلحين بنوره، فكان له منهم حارس يقظ، وعاد كتابه «القران» إلى منزلته في الإمامة، فكان له منه الحمى الذي لا يطرق، والسياج الذي لا يخرق.

وطالما شرح الإمام الإبراهيمي هذا الإسلام العظيم، بقلمه الفياض وعبارته المشرقة، فجلّى أسراره، وجسد اثاره، وكشف اللثام عن عقيدته الحنيفية، وعن شريعته السمحة، وعن قيمه الملائمة للفطرة، والمهذِّبة للغريزة التي تسمو بالإنسان حتى يتميز عن الحيوان.

اقرأ له هذه القطعة التي يتحدث فيها عن الإسلام دين التحرير، فيقول: إن الإسلام هو «دين التحرير العام»، فأرسل هذا الوصف إرسالاً بدون تحفظ ولا استثناء، لأنَّه الحق الذي قامت شواهده، وتواترت بيِّناته، ومن شواهده وشهوده، تلك الأجيال التي صحبت محمَّداً وامنت به، واتَّبعت النور الذي أنزل معه، ثمَّ الذين صحبوهم، ثمَّ الذين اتَّبعوهم بإحسان.

ونحمد الله على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لم تنقطع عند جميع العقلاء من أجناس البشر، والعقلاء هم حُجَّة الله على من سواهم، وما زال الخير يُسمَّى خيراً، والشر يُسمَّى شراً، والفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة، فالسارق يسرق وهو يعتقد أنَّه متعدٍّ على مال الغير، والمتبع لخطوات الشيطان لا يقول: رضي الله عن إبليس، وإنما يقول: لعنه الله، وإن هذه لمن أسرار فطرة الله التي فطر خلقه عليها، يواقعون الشر ولا يسمونه خيراً، فيسجِّلون بذلك الشهادة على أنفسهم، إلا المطبوع على قلوبهم، الفاقدين للشعور، كالذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مصلحون، وكصرعى التقليد للحضارة الغربية، الذي استرقتهم الشهوات فاستباحوا المحرَّمات باسم الحرية، وكالمسيرين للدولة الغربية، أسكرتهم القوَّة فبغوا على الضعفاء وسلبوا أوطانهم، وسمَّوا بغيهم استعماراً.

إنَّ من الظلم والحيف والغش والفساد في الأرض تسمية الأشياء بغير أسمائها، لأنه قطع للأسباب عن مسبِّباتها، وقد عيب في قوله تعالى:{وَيَقۡطَعُونَ مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِۦٓ أَن يُوصَلَ} [البقرة: 27]، أن منه قطع الدّوال عن مدلولاتها، وإن أعظم شرور هذه الحضارة الغربية أنَّها فتحت الباب لهذا النوع من المسخ وشجعت عليه، فأفسدت الفطرة والضمير الذي سمَّاه محمد صلى الله عليه وسلم «وازع الله في نفس المؤمن». والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه كل المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيق، وإنما يفهمه على أنَّه كل إطلاق من تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو إنصاف لضعيف من قوي، أو نقل شيء من غير نصابه إلى نصابه. قالت أسماء بنت أبي بكر حينما بعث لها أبوها بجارية تقوم لها بعلف الفرس: فكأنما أعتقني.

أ ـ الإسلام دين التحرير العام:

حرَّر الإسلام العقل وجميع القوى التابعة له في النفس البشرية، والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات التي بني عليها هذا العالم، كالصلاح والفساد، والخير والشر، والنفع والضر، ولذلك جعل مناطاً للتكاليف الدينية والدنيوية، وقد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس إدراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرِّر أن إدراك الحقائق العليا في الدين أو الكون ؛ إنمَّا هو حظ العقول الراجحة والأفكار المسدّدة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تنزل بصاحبها إلى الحيوانية، بل إلى أحطّ من الحيوانية، ففي القران العظيم:{لَهُمۡ قُلُوبٞ لَّا يَفۡقَهُونَ بِهَا وَلَهُمۡ أَعۡيُنٞ لَّا يُبۡصِرُونَ بِهَا وَلَهُمۡ ءَاذَانٞ لَّا يَسۡمَعُونَ بِهَآۚ أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ } [سورة الأعراف:179].

ولهذه المنزلة التي وضع الإسلام العقل فيها ؛ حماه من المؤثرات والأمراض والعوائق، وأحطّ دركة يرتكس فيها العقل هي الوثنية، فهي أكبر معطل له عن أداء وظيفته، حين لا يسمو إلى الجولان في العوالم الروحية، وحين تفتنه الماديات بظواهرها من طريق الجوارح الحسِّية. أعلن الإسلام من أوَّل يوم حرباً شعواء على الوثنية بجميع أنواعها، وهي أشد ما كانت سلطاناً على النفوس، وتغلغلاً فيها، وإفساداً لفطرة الخير وإطفاء لنورها ؛ حتى اجتثها ومحا اثارها من النفوس والافاق، وعمر مكانها بالتوحيد.

أتدرون السر في تلك الحملات على الوثنية؟ هو تحرير العقل من نفوذها وسلطانها، حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحاً معافى، ويؤدِّي الوظيفة التي خلق لأدائها، وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم ؛ إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد، ولولا ذلك لما أقدم خالد على هدم طاغية «ثقيف». وحرر الخلطاء بعضهم من بعض بما شرَّعه الله من أحكام عادلة تقوم بالقسط، وترفع الحيف والظلم، ووقف بكل واحد عند حدَّه وحفظ له حقوقه.

فحدَّ الحدود بين المرأة والرجل، وبين المحكوم والحاكم، وبين الفقير والغني، وبين العبيد والسادة، وبين العمال وأصحاب المال، وهذه الأنواع من الحدود تناولتها النصوص القطعية من القران والأحاديث، واكتنفتها في طلب النصوص مؤثرات من الترغيب والترهيب تزيدها قوة ورسوخاً في النفس، فأما تحرير المحكومين من الحاكمين ؛ فلا مطمع أن يأتي فيه على وجه الدهر ما جاء به الإسلام من شرائع العدل والإحسان والشورى والرفق والرحمة وعدم المحاباة حتى في النظرة والكلمة والمجلس.

وأوَّل ما يسترعي النظر من ذلك سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأقضيته في حياته وما أدبه به ربه من مثل قوله: َ{وَأَنِ ٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَهُمۡ وَٱحۡذَرۡهُمۡ أَن يَفۡتِنُوكَ عَنۢ بَعۡضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيۡكَۖ } [سورة المائدة:49] ، وقال تعالى:{لَّسۡتُ عَلَيۡكُم بِوَكِيلٖ} [سورة الأنعام:66] ، وَ{وَمَآ أَنتَ عَلَيۡهِم بِجَبَّارٖۖ فَذَكِّرۡ بِٱلۡقُرۡءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [سورة ق:45].

ثم سيرة الخلفاء الراشدين في الحكم ؛ فإنِّها كانت مثالاً من أحكام النبوة التي هي وحي يوحى، وإنَّ الأمثلة التي ضربها عمر في إقامة العدل وقوة الاضطلاع، لأمثلة خالدة على الدهر، فاق بها من قبله، وأعجز من بعده، وما أروع قوله: من رأى منكم اعوجاجاً فيَّ فليقوِّمه، وأروع منه قول مجيب من أفراد الرَّعية: «لو رأينا فيك اعوجاجاً لقوَّمناه بسيوفنا»، وأبلغ منهما في الروعة أن يحمد عمر ربَّه على أن يكون في أمة محمد من يقوِّم عمز بسيفه.

والتشريع الإسلامي متصل الحلقات من العقائد والعبادات إلى الاداب والمعاملات، وكلُّه يرمي إلى غاية واحدة، وهي إنشاء أمَّة متَّحدة المبادأئ والغايات، متناسقة فيما بينها لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تمَّ للإسلام وما أراد عدَّة قرون، وما زلنا ـ بحمد الله ـ نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنَّا في الغابرين.

وحرَّر الإسلام الفقير من الغني، وجعل للفقراء حقاً معلوماً في أموال الأغنياء، ووجه التحرير هنا أن الفقير كان يسأل الغني فيعطيه أو يحرمه تبعاً لخلقه من تسهّل أو كزازة، فإذا أعطاه شيئاً أخذه على أنه مكرمة ممنونة تجرح نفسه، وإن أشبعت بطنه، ولكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسمَّاها حقاً معلوماً، وتسمية هذا المال حقاً لله تشعر الغني بالرضا والتسليم والاطمئنان إلى إخلافِهِ ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهر نفسه مع ذلك من رذيلة الحقد على الغني، وهذا الحقد هو أساس الشيوعية.

ب ـ ربط الإسلام بالعروبة:

والإسلام الذي يدعو إليه الإبراهيمي مختلط بالعروبة اختلاط اللحم بالدم، وكأنما عنده مركب كيماوي امتزج فيه العنصران، كما امتزج الأوكسوجين والهيدروجين، فكوَّنا «الماء» الذي جعل الله به كل شيء حي.

والعروبة التي يدعو إليها ليست عرقية ولا عنصرية، بل هي عروبة لغة وثقافة، وجوهرها اللسان العربي، وهو الذي نزل به القران الكريم َ{نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ ١٩٤بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ ١٩٥} [سورة الشعراء:195].

وهو الذي تكلَّم به الرسول عليه الصلاة والسلام، ورويت به أحاديثه، ودوِّنت به سنَّته، التي هي المصدر الثاني للإسلام بعد القران.

والعربية هي لغة الأذان والإقامة، والقراءة في الصلاة، والتلبية في الحج وغيرها.

وقد أوجب الإمام الشافعي على كل مسلم أن يتعلَّم من العربية ما يؤدِّي به صلاته وعبادته.

كما أن القران عربي، ومحمد رسول الإسلام عربي، وأصحابه الذين امنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزله معه: عرب، حتى من لم يكن منهم عربي الأرومة والعرق فقد تعرب باللسان حين تكلَّم العربية، وقد روي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما العروبة اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي».

وأرض العرب هي أرض الإسلام ومهده ومنبته، فيها نشأت الدعوة، وإليها كانت الهجرة، وبها كانت الوفاة، وهي التي ضمت رفاته عليه السلام. والمساجد الكبرى المقدَّسة في الإسلام، والتي لا تشد الرحال إلا إليها من أرض العرب: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

ويَعتبر الشيخ الإبراهيمي أهمَّ مكونات «الذات الجزائرية» ؛ إنما هي «الإسلام والعروبة» .

واهتم الإبراهيمي باللغة العربية وأدواتها وروحها وثقافتها اهتماماً عظيماً، وأشاد بها في المحافل والمؤتمرات وخطبه ومحاضراته ومقالاته، ومن أشهر ذلك: الخطاب الذي ألقاه الأستاذ الشيخ الإبراهيمي في إحدى اجتماعات جمعية العلماء المسلمين، والذي نقلته جريدة الشهاب عام 1939، والذي عنوانه:

العربية: فضلها على العلم والمدنية، وأثرها في الأمم غير العربية:

جاء فيه: .. لو لم تكن اللغة العربية لغة مدنية وعمران، ولو لم تكن لغة متَّسعة الافاق، غنية بالمفردات والتراكيب ؛ لما استطاع أسلافكم أن ينقلوا إليها علوم اليونان واداب فارس والهند، ولألزمتهم الحاجة إلى تلك العلوم تعلم تلك اللغات، ولو فعلوا لأصبحوا عرباً بعقول فارسية وأدمغة يونانية، ولو وقع ذلك لتغير مجرى التاريخ الإسلامي برمّته.

لو لم تكن اللغة العربية لغة عالمية لما وسعت علوم العالم، وما العالم إذ ذاك إلا هذه الأمم التي نقل عنها المسلمون.

لقد فهم العرب لأول عهدهم بالإسلام وبإرشاد القران ؛ أن هناك أمَّما قد خلت عمرت الأرض ومكّن لها الله فيها، وكانت أكثر أموالاً وأعزَّ نفراً وأثبت اثاراً، وامتثلوا أمر القران بالسير في الأرض والنظر في اثار تلك الأمم والاعتبار بمصائرها وعواقبها، ونبَّههم القران إلى أن مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً، فكان هذا الإرشاد القراني المتكرر حافزاً إلى التنقيب عن اثار المدنيات القديمة ودراستها والاطِّلاع على الصالح النافع منها والأخذ به، وكان من اثار هذا التنبيه القراني أن تفتحت أذهان المسلمين إلى دراسة هذه المدنيات واقتباس النافع منها، وكان من فضل القران على العالم أنه أبقى بهذا الإرشاد على علوم كادت تندثر، وعلى اثار مدنيات كادت تطمس.

إن الفائدة الكبرى التي يعلِّقها القران على السير في الأرض والوقوف على اثار الأمم البائدة هو الاعتبار بحال الظالمين وعقبى الظالمين، ليعلم المعتبر أن الظلم هو سوس المدنيات، فيقيم العدل، وإذا جاء العدل جاء العمران، وإذا جاء العمران قامت المدنية، وكان العدل سياجها والعلم سراجها، وهذه مدينة الإسلام.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022