الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

(تطور المعهد الباديسي وازدهاره)

من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):

الحلقة: 204

بقلم: د.علي محمد الصلابي

ربيع الآخر 1443 ه/ نوفمبر 2021

تطور المعهد الباديسي وازدهر بسرعة مذهلة بعد إنشائه بسنوات قليلة، ويرجع ذلك إلى عزيمة مسيِّره والامال المعلقة عليه، ويعزو الإبراهيمي عوامل النجاح إلى:

ـ إخلاص القائمين على تسييره من مسؤولين وإداريين وأساتذة.

ـ إيمان الممولين للمعهد بضرورة نشر العلم بين أبنائهم.

ـ بلوغ التعليم الابتدائي هدفه، حيث أصبحت المدارس تخرِّج العشرات من تلامذة السنة الخامسة، لم يجدوا سبيلاً لمواصلة التعليم بالمعهد.

ـ وهناك العامل النفسي، وهو قوة المقاومة من عناصر الإصلاح إلى عناصر الفساد، ومن قوى الخير لقوى الشر، فنشأ من ذلك كله مزيج من التأثر والتأثير.

ـ اهتمام الشعب بالمعهد، حيث أصبح أولياء التلاميذ يعلقون عليه امالاً عريضة في تخريج أبنائهم بشهادات علمية عالية.

ـ فشل المعارضة في عرقة سير المعهد، بسبب النائج التي حققها الطلبة في مختلف الأقسام والسنوات الدراسية خلال السنوات الأولى من إنشائه، حيث تجاوزت المستوى العادي.

ـ إدخال المواد العلمية في المقررات الدراسية: مثل الرياضيات والعلوم الطبيعية، التي كان التلميذ العربي محروماً منها.

ـ تطوع بعض الأساتذة والأطباء لإلقاء الدروس في المعهد، حيث كان الدكتور: عبد القادر بن شريف يقوم بإلقاء دروس في حفظ الصحة على تلامذة المعهد، مستعيناً بأشرطة سينمائية، وتطوع الصيدلي الأستاذ علاوة عباس، بإلقاء دروس أسبوعية في علم وظائف الأعضاء وتركيب الجسم، وكان رفيق دراسة لأحمد رضا حوحو بثانوية سكيكدة، وتطوع الأستاذ «محمد الجيجلي» من أساتذة التعليم الفرنسي بإلقاء دروس في الجغرافيا.

وهكذا فقد تمكن المعهد ـ على الرغم من الإمكانيات المحدودة ـ من إنجاح مهمته التعليمية، وبعث نشاط ثقافي واسع في عاصمة الشرق الجزائري، ولا بد من الإشارة إلى أن المعهد مر أحياناً بظروف صعبة، وخاصة خلال مرحلة الثورة التحريرية.

وكان المعهد يؤدي دوراً ثقافياً اخر، موازياً لمهمة التعليم، مثل القيام بمختلف التظاهرات الثقافية داخل المعهد وخارجه وبدار العلماء التابعة لجمعية العلماء أيضاً مثل:

ـ إلقاء دروس الوعظ والإرشاد لعامة الناس ولا سيما في شهر رمضان، حيث يكلف كل أساتذة المعهد بهذه المهمة.

ـ تقديم عروض مسرحية وموسيقية ورياضية.

ـ إلقاء المحاضرات العامة بمناسبة الأعياد الدينية.

ـ الاحتفال بالذكرى السنوية لوفاة ابن باديس، بالإضافة إلى نشاط الكشافة التابعة لجمعية العلماء.

ـ تدريب الطلبة على الخطابة ونظم الشعر في ندوات أسبوعية بالمعهد، كان يشرف عليها الأستاذان الشيخ «الطاهر حراث» والشيخ «عبد الرحمن شيبان» .

إن رسالة معهد ابن باديس كانت تتجسد في إحياء اللغة العربية والدين، وبعث الشخصية الوطنية، وقد نجح المعهد في أداء دوره العلمي والحضاري والسياسي، حيث كوّن رجاله نخبة من الطلاب صادقة العزم على تجسيد ما تلقوه من مبادأئ في أرض الواقع، وهو ما تجسد في كدّهم وجدّهم الدراسي، وفي إيمانهم بثوابت الشخصية الوطنية من أجل التحرير، وقد عمّر معهد ابن باديس نحو عشر سنوات، كانت أيام عزه وازدهاره، علَّم فيها أساتذته لأبناء الشعب هويتهم وشخصيتهم وتاريخ أمجادهم ومقاومتهم الوطنية، وساهم تلاميذ المعهد وشيوخه في حرب التحرير، وهذا ما سوف يأتي تفصيله بإذن الله تعالى.

1 ـ تعليم البنات ومعاناة مدارس الجمعية:

حمَّل الإمام الإبراهيمي جسمه المريض ما لا طاقة له به من أسفار كثيرة، وترحال دائم، وتنقل مستمر، ليضع حجر أساس مدرسة في الشرق، ثم ينتقل لتدشين مدرسة في الغرب. وهكذا دواليك... وعلى القارئ أن يقدر الجهد الكبير الذي بذله الإمام طيلة ستة أعوام /1946 ـ 1952م/ إذا عرفنا أنه في سنة 1948م وحدها بُدأئ بناء 37 مدرسة عبر التراب الوطني.

وللإمام الإبراهيمي من وراء هذه التنقلات الكثيرة المضنية فلسفة اجتماعية، وهي معرفة مدى انتشار الوعي وارتفاعه في الأمة، وتعويدها على التجمعات الهادفة بدل تلك التجمعات الحزبية أو البدعية، ونزع رهبة السلطات الفرنسية من قلوب أفرادها.

ويلاحظ في هذه الفترة التوسع في تعليم البنت الجزائرية، في مجتمع كان يعتبر تعليم البنت إحدى الكبر، وقد جادل الإمام الإبراهيمي جدالاً كثيراً عن حقها في التعليم، بل عن واجبه عليها، إذ الإسلام يجعل العلم فريضة على المسلم ذكراً كان أو أنثى، وبذلك وصل عدد الإناث في مدارس الجمعية 5696 بنتاً سنة 1951، ليقفز إلى ثلاثة عشر ألف بنت سنة 1953م، وهو عدد ضخم نظراً لظروف ذلك المعهد الاجتماعية والنفسية والمادية.

وقد كان الإمام يخطط لإنشاء دار للمعلمات، ومعهد للبنات على غرار معهد ابن باديس للذكور، وجامعة عربية بين الروح الإسلامية الشرقية والعلوم الحديثة النافعة.

وساء الاستعمار الفرنسي أن تُقبِل البنت الجزائرية على مدارس جمعية العلماء، حيث تتلقى العلم النافع وتتربى التربية الصالحة وتتخلق بالخلق القويم، فأوحى إلى شياطينه أن يثيروا الغبار حول ذلك التعليم، ويشيعوا قالة السوء عن مدارس الجمعية التي «عرّضت الأعراض للتمزيق».

وسلَّ الإمام قلمه البتار على أولئك الرهط، الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وكشف هدف تلك الحملة، وهو أن الاستعمار: متشائم بتعليمها ـ الجمعية ـ للبنت المسلمة، لأن نتيجة تكوين بنت صالحة، تصبح غداً زوجة صالحة، وبعد غدٍ أماً صالحة، وهاله أن تعمر البيوت بالصالحات فيلدن جيلاً صالحاً صحيح العقائد متين الإيمان، قويم الأخلاق، طموحاً إلى الحياة، فتطول به غصته، ثم تنتهي به قصته.. ولأن الاستعمار بعيد النظر، عارفاً بما للمرأة في أمتها من أثر؛ فهو لذلك حرَّكهم وما زال يحركهم لإثارة هذا الغبار الأسود في وجه جمعية العلماء، لزعزعة ثقة الأمة بالجمعية في خصوص تعليم البنت.

وقد عانت مدارس جمعية العلماء كثيراً من عراقيل السلطات الفرنسية، وأصاب معلميها كثير من الأذى، لأنهم كانوا يقومون بعملية «تحصين» و«تطعيم حضاري» ضد الفَرْنسة والتنصير، ولذلك كانت تلك السلطات تعتبر تلك المدارس: عبارة عن خلايا سياسية، والإسلام الذي يمارسونه ـ أي العلماء ـ هو مدرسة حقيقية للوطنية.

وللتقليل من تأثير مدارس جمعية العلماء على الأطفال الجزائريين، وإفساداً لذلك التطعيم الحضاري والتحصين المعنوي حاولت السلطات الفرنسية فرض تدريس اللغة الفرنسية لمدة خمس عشرة ساعة أسبوعياً في مدارس الجمعية، قال الإبراهيمي: رفضت المفاهمة في المشروع بحذافيره وفي جملته وتفصيله، وأبى لي ديني أن أعطي الدنية فيه، وأبَت لي عروبتي أن أقر الضيم للغتي، وأبى شرف الجمعية وشرف العلم أن أتمادى في مفاهمة ضالة عقيمة في حق طبيعي ثابت، وللحكومة أن تسقط السماء علينا كِسَفاً، وأن تتجنى علينا ما شاء لها التجني والظلم.

2 ـ تكوين لجنة التعليم العليا:

يؤمن الإمام الإبراهيمي أنه: إذا اختلفت الأصول والمناهج في أمة كانت كلها فاسدة، لأن الصالح كالحق لا يتعدد ولا يختلف. وأن توحيد الغايات لا يأتي إلا بتوحيد الوسائل، ولذلك قرر ـ مع إخوانه قادة الجمعية ـ إنشاء لجنة خاصة بالتعليم، فأنشئت في 13 سبتمبر 1948م وكانت بمثابة وزارة تربية شعبية، وعُهد إليها بوضع البرامج، وتقرير كتب الدراسة، وإصدار اللوائح التنظيمية، وتعيين المعلمين، ووضع الدرجات لهم، واختيار المفتشين، وتنظيم ملتقيات تربوية وندوات بيداغوجية لمناقشة قضايا التعليم وتحسينه، ورفع مستواه، ويدل إنشاء هذه اللجنة على التطور الذي أحرزته الجمعية، وعلى الروح التنظيمية التي أصبحت تطبع أعمالها.

3 ـ المركز العام:

لم يكن للجمعية قبل سنة 1947م مقر خاص بها، وبعد أن استأنفت نشاطها عقب الحرب العالمية الثانية، قررت أن يكون لها في العاصمة مقر خاص، يتناسب ومكانتها الدينية وقيمتها العلمية وأهميتها السياسية، وقد اختير هذا المركز في حي القصبة التاريخي ـ قلب العاصمة ـ لما يمثله هذا الحي من أمجاد وأبعاد في تاريخ الجزائر، ومن أعلم من جمعية العلماء ورئيسها بإيحاءات التاريخ، ودوره في شحذ همم الشعوب وشحن نفوسها، ودفعها إلى استعادة دورها في صنع التاريخ والإسهام في الحضارة؟ وهو ما أشار إليه فضيلة الشيخ أحمد سحنون في قصيدته التي ألقاها بمناسبة افتتاح هذا المركز، فقال:

وفيك يُبعث ماض طالما حييت

على ماتيه أجيال وأعصاريا

فتية الضاد حان الوقت فاطرحوا

هذا الْوَنَى وانهضوا فالناس

قد طارواسيروا على نهج اباء لكم سلفوا

فإنهم في طريق المجد قد ساروا

شقوا الزحام إلى العلياء واقتحموا

أخطارها إنما العلياء أخطارا

سعوا لتحيوا حياة العز أو فَرِدُوا

حوض الردى فالردى يمحى به العار

أرواح ابائكم في الخُلد قد هتفت

تحرروا فجميع الناس أحرار

4 ـ التوسع في تأسيس الشُّعب:

الشُّعبة: هي أصغر مؤسسة في هيكلة جمعية العلماء، ومهمتها تأطير الحركة الإصلاحية والإشراف على تأسيس المدارس والمساجد في المدن والأحياء، وقد كان عدد هذه الشُّعَب عشية اندلاع الحرب العالمية 58 شعبة، ثم وصل العدد سنة 1953م إلى 300 شعبة، مما يدل على الانتشار الواسع الذي حققته الجمعية، والمكانة الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها لدى الشعب الجزائري، مما يؤكد مقولة: إن جمعية العلماء عبارة عن دولة داخل دولة.

5 ـ توسيع المجلس الإداري وتنقيح القانون الأساسي للجمعية:

كان الاجتماع العام لجمعية العلماء الذي عقد بالجزائر العاصمة يومي 30 سبتمبر ـ 1 أكتوبر 1951م اجتماعاً متميزاً، حيث جُدِّدت فيه مبايعة الإمام الإبراهيمي لقيادة الجمعية، ووُسِّع مكتبها الإداري ووُزِّعت أعمال الجمعية على لجان، ونُقِّح القانون الأساسي الذي وُضع سنة 1931م، حيث تقرر أن يكون للرئيس نائبان بدل نائب واحد، وللكاتب العام ثلاثة نواب بدل نائب واحد، ولأمين المال نائبان، ورُفِع عدد المستشارين إلى ستة عشر بدل أحد عشر مستشاراً.

ومن أهم ما اتخذه المجلس الإداري الجديد، هو منح لقب رئيس شرفي لجمعية العلماء لبعض العلماء غير الجزائريين ممَّن عُرف بحمل الفكرة السلفية الإصلاحية والدفاع عنها، ولا نعلم جمعية ـ غير جمعية العلماء ـ في العالم العربي والإسلامي اتخذت مثل هذه الخطوة، وهذا دليل اخر على النظرة الإسلامية والاستراتيجية لقيادة جمعية العلماء، ولا ريب في أن صاحب هذه الفكرة هو الإمام الإبراهيمي نفسه.

أما العلماء الذين تقرر منحهم هذه الرئاسة الشرفية فهم: محمد بن العربي العلوي «المغرب»، أحمد بن محمد التجاني «المغرب»، عبد العزيز جعيط «تونس»، عبد اللطيف دراز (مصر)، محمد أمين الحُسيني «فلسطين»، عبد القادر المغربي «طرابلس الشام»، محمد بهجت البيطار «دمشق»، محمد نصيف «الحجاز»، تقي الدين الهلالي «بغداد»، مسعود الندوي «باكستان» .

6 ـ مالية جمعية العلماء:

مالية جمعية العلماء تأتيها من موردين: اشتراكات الشعب الشهرية، والتبرعات غير المحدودة، وميزانيتها في السنوات الأخيرة أصبحت ضخمة وقد قسمتها إلى أقسام، فمالية بناء المدارس لا تدخل خزينة الجمعية، بل تقبضها الجمعية المحلية وتنفقها على البناء، فإذا تم البناء جرى الحساب علناً على رؤوس الأشهاد بحضرتي، وسُدَّ بابها، والمالية الخاصة بأجور المعلمين والقَوَمة على المدرسة تؤخذ من اباء التلاميذ بواسطة أمين مال الجمعية المحلية في مقابل إيصالات رسمية مختومة بختمها، ولكل مدرسة جمعية محلية قانونية تنتخبها جمعية العلماء من أعيان المدينة أو القرية، ولا تحاسب جمعية العلماء إلا في اخر السنة في الاجتماع العام، والمال الذي يتحصل من الاشتراك العام في جمعية العلماء هو الذي يدخل إلى خزانتها، ويحاسب عليه أمين مالها في التقرير المالي الذي يتقدم به إلى الاجتماع العام، ويضاف إليه ما يتحصل من التبرعات غير المحدودة. أما الجريدة فإنها قائمة بنفسها من أثمان الاشتراك فيها.

وقد قررت في كل اجتماع عام أن تعرض على المجلس الإداري جميع المداخيل المذكورة من أجور التعليم، والاشتراكات العامة والتبرعات، كل ميزانية على حدة، وكل مدرسة يفيض دخلها على خرجها يدخل المبلغ الفائض في الخزينة العامة وكل مدرسة ينقص دخلها عن خرجها يعتمد لها من الخزينة العامة، ما يسدد عجز ميزانيتها، وكل هذا على نظام بديع يؤدي إلى اشتراكية بين المدارس مع بعضها، وبين الشعب والجمعية المحلية.

يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:

الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى

alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF

الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf

الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي

alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf

كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:

http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022