(الشيخ الإبراهيمي يؤسس المعهد الباديسي)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 203
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ نوفمبر2021
بلغ عدد المدارس الابتدائية العربية أربعمائة وزيادة، وبلغ عدد تلاميذها إلى اليوم الذي سافر فيه الشيخ الإبراهيمي إلى الشرق مئات الالاف بين بنين وبنات، وبلغ عدد معلميها ألفاً وبضع مئات، وبلغت ميزانيتها الخاصة «وهي فرع من الميزانية العامة لجمعية العلماء» مائة مليون فرنك وزيادة إلى نهاية خروج الشيخ الإبراهيمي من الجزائر سنة 1952م.
ولما بلغ عدد المتخرجين من مدارس الجمعية بالشهادة الابتدائية عشرات الالاف ؛ وجد الإبراهيمي نفسه أمام معضلة تحتاج إلى حل ؛ ذلك أن حاملي هذه الشهادة ذاقوا حلاوة العلم فطلبوا المزيد، وأرهقوا الإبراهيمي وإخوانه من أمرهم عسراً، وألحوا عليه أن يتقدم بهم خطوة إلى التعليم الثانوي.
وناشد الأمة أن تعينه بقوة ليبلغ بها إلى هدف أبنائها، فاستجابت، فكان ذلك مشجعاً على إنشاء معهد ثانوي بمدينة قسنطينة، نسبه الشيخ الإبراهيمي إلى إمام النهضة ابن باديس، تخليداً لذكره، واعترافاً بفضله على الشعب. فاشترى الإبراهيمي مع إخوانه داراً عظيمة واسعة من دور عظماء البلدة، وجعلنا منها معهداً ثانوياً، وهيأنا له من سنته الأساتذة والتلامذة والكتب والمال، فكان التعليم فيه بالمعنى الكامل عند غيرنا من الأمم، ببرامجه وكتبه وأدواته، وكان هذا المعهد تاجاً لمدارس جمعية العلماء وغرَّة من أعمالها.
وكانت نية الإمام الإبراهيمي معقودة على إنشاء معهدين ثانويين اخرين، أحدهما بمدينة الجزائر، والثاني بمدينة تلمسان، وقد بلغ تلامذة المعهد الباديسي في السنة الأولى ألفاً أو يزيدون، وكلهم منتخبون من مدارس الجمعية الابتدائية من جميع أنحاء الجزائر، ثم اشتروا من مال الأمة داراً أخرى تتسع لسكن سبعمائة طالب، وبعد خروج الإبراهيمي إلى المشرق عام 1952م افتتحها إخوان الإبراهيمي من بعده، وقسموها إلى قاعات نوم فسيحة بأسرّتها ودواليب الثياب، وكتب المطالعة، على ترتيب بديع، وفي الدار ما يريح الطالب من مغتسلات، وحمامات، ومطابخ، وغرف طعام.
أ ـ معهد ابن باديس فرع من جامعة الزيتونة:
فكرت جمعية العلماء في أن تجعل هذا المعهد فرعاً من فروع الزيتونة، يستظل بحمايتها ويتمتع بما لها من قوانين وتراتيب إدارية، وللحصول على اعتراف الإدارة الزيتونية بذلك، بادر الشيخ الإبراهيمي بالكتابة إلى جمعية الطلبة الجزائريين كي تتولى الاتصال بفضيلة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور مدير الإدارة الزيتونية، وتتدخل لديه لهذه الغاية، ولتنفيذ هذه المهمة الدقيقة، يروي الأستاذ عبد الرحمن شيبان أن: الجمعية أقامت بناديها الكائن بنهج عبد الوهاب بتونس حفلة تكريم للإمام محمد الطاهر بن عاشور بصفته رئيساً شرفياً لها، حضرها بالإضافة إلى الشيخ الشاذلي ابن القاضي: مدير المدارس، وبعض أعضائه الشيخ علي النيفر، والشيخ محمد المختار بن محمود، والشيخ الفاضل بن عاشور.
وفي هذه الحفلة عرضنا على مدير الزيتونة رغبة جمعية العلماء، فأكبر هذه المبادرة العلمية، وأعرب عن اغتباطه الشديد بأن يعترف بمعهد يحمل اسم أحد التلامذة الأصفياء الإمام عبد الحميد بن باديس، كفرع للجامعة الزيتونية.
ونتيجة لهذا الموقف الإيجابي الذي وقفه الشيخ الطاهر بن عاشور من قيام المعهد الباديسي وحماسه لهذا المشروع، ومد يد العون له بمختلف الوسائل والطرق، واعتباره فرعاً من فروع الزيتونة المنتشرة في سائر المدن التونسية ؛ نجد الشيخ الإبراهيمي يجرد قلمه للتنويه بالشيخ الطاهر بن عاشور والإشادة بعلمه ومكانته في أكثر من مناسبة، معتبراً إياه أحد أعمدة الإصلاح وعلماً من أعلام التاريخ المعاصر، قائلاً عنه: الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور علم من الأعلام الذين يعدهم التاريخ الحاضر في ذخائره، فهو إمام متبحر في العلوم الإسلامية ومستقل في الاستدلال لها، واسع الثراء في كنوزها، فسيح الذرع في تحمّلها، نافذ البصيرة في معقولها، واسع الاطلاع على المنقول منها، أقرأ وأفاد، وتخرجت عليه طبقات ممتازة في التحقيق العلمي، وتفرد بالتوسع والتجديد لفروع من العلم ضيقها المنهج الزيتوني، وأبلاها الركود الذهني، وأنزلتها الاعتبارات التقليدية دون منزلتها بمراحل، فأفاض عليها هذا الإمام من روحه وأسلوبه حياة وجدة، وأشاع فيها مائية ورونقاً حتى استرجعت بعض قيمها في النفوس ومنزلتها في الاعتبار.
وإقراراً لما للشيخ ابن عاشور من الفضل في إخراج هذا المشروع الجليل إلى حيز الوجود ورعايته ؛ كان الإبراهيمي لا يذكر المعهد الباديسي إلا مقروناً باسم علمين لولاهما لما تحققت هذه الخطوة العلمية ؛ ولما رأى هذا المعهد النور، أولهما ابن باديس أبو النهضة العلمية في الجزائر، وراسم ملامح هذا المشروع، الذي يحمل المعهد اسمه اعترافاً بفضله على الثقافة العربية في الجزائر، وثانيهما الشيخ الطاهر بن عاشور، أستاذ معظم أعضاء الجمعية، وباعث الروح في المشروع، وراعيه عن بعد، ومديره المباشر باعتباره مديراً للإدارة الزيتونية بأكملها. فلكلا الرجلين يدين معهد ابن باديس في وجوده، وعلى اسميهما يقوم المعهد شامخاً متحدياً لإرادة الاستعمار، مجسماً الإرادة الطموحة للجمعية.
ب ـ من أهم مشايخ معهد ابن باديس:
جندت الجمعية خيرة أساتذتها لتولي التدريس بالمعهد، وضبطت لإدارته الشيخ العربي التبسي، والشيخ محمد خير الدين مساعداً له، وقد جاء في القانون التأسيسي للمعهد ما يأتي: يسمى المعهد معهد ابن باديس، وتتألف إدارته من ثلاث هيئات متضامنة، وكل واحدة منها مسؤولة فيما يخصها من أعمال المجلس الإداري لجمعية العلماء: الأولى الهيئة العلمية، والثانية الهيئة المالية، والثالثة هيئة المراقبة والضبط، وكانت الوجوه البارزة من أساتذة المعهد عند تأسيسه تتمثل في الشخصيات الاتية: العربي التبسي، أحمد حماني، حيرش عبد المجيد، نعيم النعيمي، حسين أحمد، الشيخ العباس بن الشيخ الحسين، ومولود النجار.
وبعد سنة 1949م وظفت الجمعية بالمعهد أساتذة اخرين وهم: بلقاسم البيضاوي، جفري عمر شرفي علي، بوروح أحمد المدعو «أحمد بو رزاق»، وكذلك «أحمد العدوي»، و«معط الله» «خريج جامعة القرويين»، والشيخ الطاهر حراث «سعدي»، والشيخ الساسي، والشيخ «محمد الحفناوي» .
ج ـ شروط الالتحاق بالمعهد الباديسي:
وقد ضبطت شروط الالتحاق بالمعهد بالنسبة للطلبة على النحو الاتي:
ـ أن يكون التلميذ حاصلاً على الشهادة الابتدائية.
ـ من لم يكن حاصلاً على الشهادة الابتدائية يدخل عن طريق الامتحان الكتابي والقراءة والحساب واستطهار ربع من القران الكريم على الأقل.
ـ حدد سن المترشح ألا يَقِل عن 16 سنة.
ـ القدرة على نفقات الأكل والسكن، وإحضار الكسوة، والغطاء اللازمين، كون المعهد غير قادر على تغطية هذه النفقات لضيق موارده المالية.
ـ أن يقدم طلب التسجيل في المعهد من قبل الأب أو الوكيل ما دام التلميذ قاصراً.
ـ أن يكون سالماً من كل الأمراض المعدية.
ونظراً لتزايد أعداد الطلبة، فقد حاول القائمون على المعهد السعي لاستغلال الجامع الكبير والجامع الأخضر في التدريس منذ عام 1949م، وجرت عدة محاولات لأعيان المدينة لدى حاكم العمالة دون جدوى، وفي العام المولي حول جزء من الطلبة إلى مسجد سيدي قوش، وفي السنة الدراسية 1952 ـ 1953م تزايدت أعداد الطلبة وتوجب على إدارة المعهد استغلال المسجد الكبير والمسجد الأخضر دون إذن، وهو ما أثار غضب سلطات العمالة، ولكنها لم تجد أمام الأمر الواقع شيئاً تفعله.
د ـ إغلاق المعهد الباديسي:
وقد استمر المعهد في أداء مهمته، وفي سنة 1957م، وُضع حد نهائي في ظل الأحكام العرفية لهذا المركز العلمي من قبل السلطات الفرنسية، وذلك على خلفية اكتشاف الإدارة الفرنسية لخلية المعهد الثورية، حيث كان أساتذة المعهد ينشطون ضمنها في دعم الثورة، فقد عثر يوم 11 أوت 1957م على رسالة لدى أحمد حماني ودلتها التحقيقات على اكتشاف عناصر الخلية على أساتذة وطلاب المعهد فقررت إغلاق المعهد.
وفي يوم 24 سبتمبر من نفس العام ظهر على أعمدة جريدة البرقية القسنطينية، مقالاً بعنوان: معهد ابن باديس كان دعامة للثوار في الشرق الجزائري. وجاء فيه ما يلي: إن العلماء لم يقتنعوا قط بالعمل الديني المحض، بل جعلوا من التعليم الذي يديرونه مجالاً للدعاية في صالح الثوار.
وكانت السلطات الولائية قد قررت بمقتضى المرسوم رقم 572، 372، وبتاريخ الثالث سبتمبر 1957م غلق معهد ابن باديس، وفي يوم 16 أكتوبر سنة 1957م قدم رئيس مصلحة المخابرات الفرنسية تقريراً للأمين العام للحكومة جاء فيه: إن جمعية العلماء التي تظهر بمظهر الحذر والتجديد، تحمل أهدافاً غير معلنة، وتهدف إلى تعميم اللغة العربية والاتحاد الإسلامي والتمسك بالمبادأئ الأصلية للدين ومحاربة الزوايا. ويعتبر المعهد الذي كان له دور تعليمي ووطني هام تاجاً لمدارس الجمعية وثمرة عملها، كان لإنشائه دور هام في تكوين أبناء الأمة وتهيئتهم لقيادة البلاد والنهوض بها في شتى ميادين الحياة، فمنه تخرجت البعثة العلمية التي كانت ترسلها الجمعية إلى معاهد وجامعات الأقطار العربية في المشرق والمغرب، ومن صفوفه تخرج الوعاظ والمرشدون، والخطباء والكتاب والقضاة، والمعلمون الذين تعتمد عليهم الجمعية في تأدية رسالتها لنشر التعليم العربي، والإصلاح الديني والاجتماعي، ومحاربة الخرافات والشعوذة.
ومنها تخرجت إطارات كثيرة ساهمت في ثورة التحرير، وكانوا على موعد مع رسالة الجهاد التي تلقوها من شيوخهم، ونصت عليها تعاليم الإسلام العظيم للتصدي ومحاربة الغزاة.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: