(أثر القرآن الكريم في النثر الفني للإبراهيمي)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 200
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ نوفمبر 2021
إن أهم مصدر وأبلغه تأثيراً في أسلوب الإبراهيمي فيما نحسب هو القران الكريم، هذا المعين المتفجِّر سحراً وروعة بيان، المتدفق الذي يملأ النفس ارتياحاً، وما من شك في أنَّ هذا التأثير يعود إلى الحافظة الذهبية التي وهبها الله للإبراهيمي، فقد حفظ القران كلَّه عن ظهر قلب وهو في التاسعة عن عمره، ودأب على تدارسه والمتمعُّن في معانيه، وتذوُّق بيانه طول عمره، فظهر أثر ذلك كله في نفسه، وقلبه، وفكره، ولسانه.
إن الثقافة العربية عند الإبراهيمي ارتكزت على قاعدة القران الكريم، واستمدَّت حيويِّتها وتجدُّدها من هذه الجذور الضاربة بعمق في ثرى القران، فهو بالنسبة إليه المورد والمصدر، منه يستقي وإليه يعود. ولقد دلَّت كتاباته عن القران على إدراك عميق لأسراره، وفهم دقيق لمعانيه، وتذوُّق قلَّ نظيره لإعجازه، ولعلَّ هذه الخاصية هي التي جعلت ابن باديس يدعوه إلى أن يخلُف رشيد رضا في إكمال تفسير القران على طريقة المنار.
وكيف لا يكون أثر القران في أسلوب الإبراهيمي كذلك؟ وهو يَعُد القران أصل وجود الأمة الإسلامية التي هو واحد من أفرادها المعتزِّين بالانتماء إليها، إن الأمَّة الإسلامية في نظر الإبراهيمي لم تبلغ ما بلغته في العلم والتشريع والأدب والحكمة إلا بفضل القران.
وكان يوصي الشعب الجزائري بالعيش مع القران في هذا المجال، قال: أحيوا قرانكم تحيوا به، حقِّقوه يتحقق وجودكم به، أفيضوا من أسراره على سرائركم، ومن ادابه على نفوسكم، ومن حكمه على قولكم، تكونوا به أطباء، ويكن بكم دواء.
وقال: لا تعتمدوا على حفظ المتون وحدها، بل احفظوا ما يُقوِّي مادتكم اللغوية وينمِّي ثروتكم الفكرية، ويغذي ملكتكم البيانية، والقران القران.. تعاهدوه بالحفظ، وأحيوه بالتلاوة، وربُّوا ألسنتكم على الاستشهاد به في اللغة والقواعد، وعلى الاستشهاد به في الدين والأخلاق، وعلى الاستظهار به في الجدل، وعلى الاعتماد عليه في الاعتبار بسنن الله في الكون.
وما من شك في أن الإبراهيمي لم يؤمن بجدوى هذه الطريقة في تربية النشء تربية عربية إسلامية سليمة إلا بعد أن لمس ذلك في نفسه.
إن أثر القران الكريم في الأدب الإبراهيمي يمس الظواهر الفنية والمعنوية عنده، سواء جانب التعبير، أو جانب التصوير، أو جانب التنغيم.
إن الإبراهيمي حين يرتكز في تكوين الصورة التعبيرية إلى القران الكريم ؛ يفعل ذلك عن تدبر لمعناها وكل ما توحي به من أبعاد، ظلالاً وصوراً وإيحاءات فنية رائعة، ولا يسوقها كما يفعل بعض الكتَّاب تبياناً أو توضيحاً لا يتعدَّى المعنى المجرَّد الدلالي للجملة. ولنأخذ لذلك مثلاً هذه التعبيرات المستوحاة من القران، قال: هذا الشَّمال قد أصبح أهله كأصحاب الشِّمال في سَموم من الاستعمار وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم، أفسد الاستعمار أخلاقهم، ووهن عزائمهم، وضرب بينهم وبين العلم بسور ليس له باب.
فهو لكي يصور مبلغ ما وصل إليه الاستعمار من فظاعة وبشاعة في الحيف والظلم؛ لم يجد له في تصوُّره مثيلاً إلا تلك الصورة التي ارتسمت بذاكرته بما يلقاه الكفار في جهنم. كما وردت في سورة الواقعة: َ{وَأَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلشِّمَالِ ٤١فِي سَمُومٖ وَحَمِيمٖ ٤٢وَظِلّٖ مِّن يَحۡمُومٖ ٤٣لَّا بَارِدٖ وَلَا كَرِيمٍ ٤٤} [سورة الواقعة:44-41].
أما الإجراءات التعسُّفية القاهرة التي كانت مطبَّقة على الجزائريين المسلمين حتى لا يتعلموا ولا يتقدموا ؛ فإن الصورة التي تجسِّدها هي هذا السور الذي يتمثله فاصلاً بين المؤمنين والكفَّار، كما تصوره الاية الكريمة من سورة الحديد، ولا يجد صورة تجسِّد أعمال العملاء إلا تلك الصورة القرانية التي تجسِّد المنافقين الذين طالما اذوا رسول الله بكل أنواع الإذاية، ولكنَّه يشير إلى هذه المقارنة بلطف من خلال توظيف هذه الصورة الإشارية المستقاة من القران الكريم: إن في صفوفكم دساسين مدخولين من الرجال، لهم أغراض من المنافع والكراسي، ولهم مقاصد في الإفساد، إنكم تعرفونهم بسيماهم، وتعرفونهم في لحن القول:{وَلَوۡ نَشَآءُ لَأَرَيۡنَٰكَهُمۡ فَلَعَرَفۡتَهُم بِسِيمَٰهُمۡۚ وَلَتَعۡرِفَنَّهُمۡ فِي لَحۡنِ ٱلۡقَوۡلِۚ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ أَعۡمَٰلَكُمۡ} [سورة محمد:30].
وهو لكي يصف اتجاه الصحافة الاستعمارية وكتاباتها التي تناصر سياسة الحيف والظلم ضدَّ الجزائريين؛ لجأ إلى ايات قرانية تصوِّر أعمال المنافقين، أو هي تصوِّر مصير الكفَّار يوم الجزاء والحساب، فيقول: وأما الصحافة في الجزائر، فإنَّها استعمارية خالصة لحماً ودماً، تعيش على ماله، وتسير بتوجيهه.. تأمر في حق الأمة الجزائرية بالمنكر، وتنهى عن المعروف وتضع الموازين البخس لصالحها.. ولا تقنع بما يقع من الحكام من ضغط وزجر وإعنات، بل تعدُّه تقصيراً منهم في الواجب، ولذلك كلِّه تراها لا تدعو ثبوراً واحداً، بل تدعو ثبوراً كثيراً.
ولإثبات أصالة الشعب العربي المسلم، يوظِّف هذه الصورة التعبيرية الرائعة التي استنجد فيها بمعلوماته القرانية شكلاً ومضموناً، داحضاً بها دعوى الاستعمار: «الجزائر فرنسية». قال: ولو أن الاستعمار شرعها زجلاً بالتسبيح في ناشئة الليل، وجعل كفاء سماعها جزاء الأبرار، لكان في اذاننا وقر من سماعها، ولعددناها غثة مرذولة ممجوجة مملولة، ولهدينا بالفطرة مع الطيب من القول: وهو أن الجزائر ليست فرنسية، ولن تكون فرنسية، كلمات قالها أوَّلنا، ويقولها اخرنا، ومات عليها سلفنا، وسيلقى الله عليها خلفنا.
ويقول متهكماً بأولئك الموظفين الرسميين الذين توظِّفهم الحكومة الفرنسية في وظائف دينية، فباعوا ضمائرهم ودينهم، وباؤوا بخزي الدنيا والاخرة:
وإن هذه الحكومة تقدِّم التجريب على التخريب، وقد جربتكم فوجدت منكم جداراً متداعياً للسقوط، فما أقامته بل خرَّبته، لأنه لم يكن لغلامين يتيمين في المدينة، ولا كان تحته كنز لهما، ولا كانت هي تنظر بعين صاحب موسى.
إن هذه الخاصِّية التي تميز بها أسلوب الإبراهيمي جعلت نُقاداً ودارسين كباراً يقفون عندها معجبين منوهين، يقول الدكتور إبراهيم السامرائي معلقاً على كتاب عيون البصائر: لقد كانت هذه المقالات نماذج أدبية عالية، ذلك أنَّ صاحبها مَلك من العربية ناصيتها، فذلت له أوابدها، وعرف شوارِدها، فالعبارة سليمة تعتمد أدب العربية في أعصارها الزاهرة، وإن القارئ ليشعر وهو يقرأ هذا السفر الغالي من أن صاحبه ثَقِف أدب القران وعرف بيانه ووعى أسراره، فكان ذلك أَمارة من أَمارات أدبه، وطابعاً يتميز به فنُّه الأصيل.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: