من أعمال الملائكة المتعلقة ببني آدم (2)
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
1 ـ حفظ بني ادم:
قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ *} الرعد: 11. أي للعبدِ ملائكةٌ يتعاقبون عليه حرسٌ بالليل وحرسٌ بالنهار يحفظونه من الأسواءِ والحادثاتِ كما يتعاقب ملائكةٌ اخرون لحفظِ الأعمالِ من خيرٍ أو شرِّ ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فاثنان عن اليمين والشِمال يكتبان الأعمال صاحبُ اليمين يكتبُ الحسنات وصاحبُ الشِمال يكتبُ السيئات وملكان اخران يحفظانه ويحرسانه واحدٌ من ورائه واخرُ من قدّامه فهو بين أربعة أملاكٍ بالنهار وأربعةٍ بالليل بدلاً حافظان وكاتبان كما جاء في الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهار ويجتمعون في صلاةِ الصبحِ وصلاةِ العصرِ فيصعدُ إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ـ وهو أعلم بكم ـ كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلَّون وتركناهم وهم يصلون».
وروى عن بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه.
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *} الانعام: 61. أي وهو الذي قهر كلَّ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وخضعَ لجلاله وعظمتهِ وكبريائه كلُّ شيءٍ أي من الملائكةِ يحفظون بدن الإنسان.
وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ *} أي حافظ يحرسها من الآفات.
وقد بيّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ الأذكارِ التي تحفظُ الملائكةُ مَنْ قالها في يومه ذاك أو في موضعه الذي قالها فيه فمن ذلك.
أ ـ اية الكرسي:
فقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَنْ قرأها وكّل الله به مَلَكاً يحوطه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظِ زكاةِ رمضانَ فأتاني اتٍ فجعلُ يحثو من الطعامِ فأخذتهُ فقلتُ لأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقصَّ الحديث وفيه فقال إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ ايةَ الكرسي فإنّك لنْ يزالَ عليكَ من اللهِ حافظٌ ولا يقربنّكَ شيطانٌ حتّى تصبحَ وكانوا أحرصَ شيءٍ على الخير فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أَما إنَّه قَدْ صدقكَ وهو كذوبٌ تعلمُ مَنْ تخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هريرة؟» قال لا قال «ذاكَ شيطانٌ».
ب ـ قراءة أواخر سورة البقرة:
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأ بالايتينِ من اخرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفتاه».
قال النوويُّ اختلفَ العلماءُ في معنى «كفتاه» فقيل من الافاتِ في ليلته وقيل كفتاه مِنْ قيامِ ليلته فقلتُ (أيّ النووي) ويجوزُ أن يراد الأمران.
ج ـ قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين ثلاث مرات:
عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال خرجنا في ليلةِ مطرٍ وظلمةٍ شديدةٍ نطلبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي لنا فأدركناه فقال «قل» فلم أقلْ شيئاً ثم قال «قُلْ»، فلم أقل شيئاً ثم قال: «قل»، فقلت يا رسول الله ما أقول؟ قال «قل هُوَ الله أحد والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبحَ ثلاثَ مرّاتٍ يكفيك من كلِّ شيء».
د ـ قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له):
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قالَ لا إله إلاّ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير في يوم مئةَ مرّةٍ كانتْ له عدلُ عشرِ رقابٍ وكُتِبَتْ له مئةُ حسنةٍ ومُحيتْ عنه مئةُ سيئةٍ وكانت له حِرزاً من الشيطانِ يومه ذلك حتّى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلاّ أحدٌ عمل أكثر منه».
2 ـ ملازمته ودعوته للخير:
وممن هو ملازم للإنسان من الملائكة القرينُ وهذا من أعظم نِعَمِ الله على الإنسان ولله الحمد والمنة فقد يسّرَ الله لكلِّ إنسانٍ مَلَكٌ يدعوه إلى الخير ويحثّه عليه ويخوّفه من الشرّ ويحذَّره قال تعالى {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ *} ق: 23.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «ما مِنْكُم مِنْ أحدٍ إلاّ وَقَدْ وكل به قرينُه من الجنِّ وقرينُه من الملائكةِ» قالوا وإيّاك يا رسول الله قال «وإيّايَ إلا أنَّ الله أعانني عليه فأسلمُ فلا يأمرُني إلاّ بخيرٍ».
وقد وضّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم عملَ هذين القرينينِ للإنسان وطريقةَ السلامةِ من الشيطان في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «إذا أوى الرجلُ إلى فراشِهِ ابتدره مَلَكٌ وشيطانٌ فيقول المَلَكُ اختم بخيرٍ ويقول الشيطانُ اختمُ بشرِّ فإنْ ذكرَ الله ثم نامَ باتَ المَلكُ يكلؤه فإذا استيقظَ قال الملك افتحْ بخيرٍ وقال الشيطانُ افتْح بشرِّ فإن قال الحمدُ للهِ الذي يُمْسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تزولا إلى اخر الاية الحمدُ للهِ الذي يُمْسِكُ السماءَ أن تقعَ على الأرضِ إلاّ بإذنه، فإنْ وقع من سريره فماتَ دخلَ الجنّة».
وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ما يوضّحُ هذا الأمرَ وفيه «إنَّ للشيطانِ لمةً وللَمَلكِ لمةً فأمّا لمةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ وأمَّا لمةُ المَلَكِ فإيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ فمن وجدَ ذلك فليحمدِ الله ومَنْ وجدَ الأُخرى فليتعوّذ مِنَ الشيطانِ» ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} البقرة: 269.
يقول ابنُ القيّم وإذا تأملتَ حالَ القلبِ مع المَلَكِ والشيطانِ رأيتَ أعجبَ العجائبِ فهذا يلمُّ به مرةً وهذا يلمُّ به مرةً فإذا ألمَّ به المَلَكُ حدثَ مِنْ لمّتِهِ الانفساخ والانشراحُ والنورُ والرحمةُ والإخلاصُ والإنابةُ ومحبةُ الله وإيثارُهُ على ما سواه وقِصَرُ الأملِ والتجافي عن دارِ البلاءِ والامتحانُ والغرورُ فلو دامتْ له تلك الحالة لكان في أهنأ عيشٍ وألزه وأطيبه ولكن تأتيه لمةٌ الشيطانِ فتحدِثُ له من الضيقِ والظلمةِ والهمِّ والغمِّ والخوفِ والسخطِ بالمقدورِ والشك في الحق والحرصِ على الدنيا وعاجلها والغفلةِ عن الله ....
ثم للناس مراتبُ في هذه المحنة لا يحصيها إلا الله فمنهم مَنْ تكون لمةُ الملَكَ به أغلبُ من لمة الشيطان وأقوى فإذا ألمَّ به الشيطانُ وجدَ من الألمِ والضيقِ والحصرِ وسوءِ الحال بحسب ما عنده من حياةِ القلب فيبادِرُ إلى طردِ تلك اللمّةِ ولا يدعُها تستحكِمُ فيصعب تدارُكها فهو دائماً في حربٍ بين اللمتين يدالُّ له مرة ويدالُ عليه مرةً أُخرى والعاقبة للتقوى.
وليس شيءٌ أنفعُ للعبدِ من صحبة الملك له وهو وليه في يقظته ومنامه وحياته وعند موته وفي قبره ومؤنسه في وحشته وصاحبه في خلوته ومحدّثه في سرّه ويحارب عنه عدوه ويدافع عنه ويعينه عليه ويَعِدُه بالخير ويبشّره به ويحثّه على التصديق بالحق وإذا اشتدّ قربُ الملك من العبدِ تكلّم على لسانه وألقى على لسانه القولَ السديدَ وإذا بعدُ منه وقرب الشيطانُ من العبدِ تكلّم على لسانه قول الزور والفحش حتى يُرى الرجلُ يتكلّم على لسانِ الملَكِ والرجلُ يتكلّم على لسانِ الشيطان.
وذكر ابن القيم أنّ العبدَ يصحبُ الملك ويدنيه منه إنْ هو اشتغلَ بالإيمان والعبادةِ للرحمن ويطردهُ منه ويقصيه إن اشتغلَ بالذنوبِ والمعاصي وفي ذلك يقول مِنْ عقوبةِ المعاصي أنّها تباعِدُ عن العبد ووليَّه وأنصحَ الخلق له وأنفعَهم له ومن سعادته في قربه منه وهو الملَكُ الموكل به وتدني منه عدوَّه وأخسِّ الخلق وأعظمهم ضرراً له وهو الشيطان فإنّ العبدَ إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية حتى إنّه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافةً بعيدةً فإذا كان هذا تباعدُ الملكِ منه من كذبة واحدة فماذا يكون قدر تباعده منه مما هو أكبر من ذلك وأفحش منه....
3 ـ السفارة بين الله وبين عباده من بني ادم:
من أهم الوظائف المنوطة بالملائكة قيامهم بتبليغ الوحي إلى أنبياء الله ورسله فالملائكةُ واسطةٌ بين الله تعالى وبين الرسل في تبليغ الوحي والشرائع ويكونُ الملكُ واسطةً بين الرسول وبين ربه والرسولُ واسطةٌ بين الملك وقومه وما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان قرانٌ ووحي، فقد اصطفى الله سبحانه وتعالى من بني ادم أفراداً شرّفهم بنبوته ورسالته وأرسل إليهم ملائكة منه يبلغونهم أوامر الله سبحانه وتعالى ودينه وهؤلاء المصطَفْون هم الأنبياءُ والرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} 163 ـ 16 وقد ذكر الله عزّ وجلّ المقامات التي يوحي بها إلى عباده فقال سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ *وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ *} الشورى: 51 ـ 53.
قال ابنُ كثير هذه مقاماتُ الوحي إلى جناب الله عز وجل وهو أنه تبارك وتعـالى تـارةً يقذِفُ في رَوْعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمـارى أنّـه من الله عز وجل أو مِنْ وراءِ حجـابٍ كمـا كلّم موسى عليه الصلاة والسلام ـ أو يرسـل رسولاً كمـا ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيرُه من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والذي يهمّنا في هذا المبحث المقام الثالث وهو الوحي بواسطة الملَكِ.
فقد أثبتت الآيات القرآنية والأحـاديث النبوية أنّ جبريلَ عليه السلام هو الذي ينزِلُ بالوحي من الله تعالى على الأنبياء والرسل فكان الوساطـةَ بين الله تعالى ورسلهِ.
الأدلة من الكتاب العزيز:
قال تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} 193 ـ 19 وقال تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} 9 وقال تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل 10 {بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *} النجم: وأخرج الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلَ جبريلُ عليه بالوحي يحرِّكُ لسانه وشفتيه فيشتدّ عليه فكان ذلك يُعْرَفُ منه أنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *} القيامة: 16- 19. فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهبَ قرأه كما وعده الله.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ *وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ *} التكوير: 19 ـ 23.
وقد كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على أشكال:
أ ـ فمن تلك الأشكال أنّه كان يأتيه على صورة غير مرئية ويقع كلامهُ على قلبِّ النبي صلى الله عليه وسلم فيعي ما يقول ولا يرى الصحابةُ جبريلَ عليه السلام والحالةُ هذه ولكن تظهر لهم علاماتٌ تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُوْحَى إليه ومن هذه العلامات:
خروج العرق من جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم في اليوم البارد ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت إنْ كانَ ليُنزلُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الغداةِ الباردةِ ثم تفيضُ جبهتهُ عرقاً.
تغير وجهه الشريف ففي «صحيح مسلم» عن عُبادةَ بن الصامتِ رضي الله عنه قال «كان نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أُنـزلَ عليه الوحيُ كَـرُبَ لذلك وتربَّـد وجهُه».
ثقل جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: إنِّي لاخذةٌ بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزلتْ عليه المائدةُ كُلُّها فكادت مِنْ ثقلِها تدقُّ عضدَ الناقةِ.
وروى البخاري في «صحيحه» عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال «أُنزل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفخذُه على فخِذي فثقلتْ عليَّ حتى خِفْت أن ترضَّ فخذي.
ب ـ وقد يراه على صورته التي خُلِق عليها:
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ على صورته التي خُلِقَ عليها مرتين فقد روى مسلمٌ بسنده عن عائشةَ رضي الله عنها قالت إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ جبريلَ في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مرتين مرةً عند سِدْرةِ المنتهى ومرّةً في جياد، له ستمئة جناح قد سدَّ الأفقَ.
جـ وقد يتمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجلٍ فيكلّمه بالوحي ومن ذلك:
تمثل جبريل عليه السلام بصورة الصحابي دِحْيةَ بنِ خليفةَ الكلبي رضي الله عنه وكان معروفاً بجماله فقد روى الإمام أحمد عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال كان جبريلُ عليه السلام يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية.
وقد يأتيه على صورة رجلٍ غير معروفٍ ومن ذلك ما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم إذ طلعَ علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلسَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه ووضعَ كفيه على فخذيه وساق عمرُ الحديث إلى أن قال في اخره ثم انطلق فلبثتُ مليَّاً ثم قال لي «يا عمرُ أتدريَ مَنِ السائلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم قال «فإن جبريلُ أتاكم يعلمكم دينكم» .
وقد جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الشكلين «أ ج»، في قوله «أحياناً يأتيني مثلَ صلصلةِ الجرسِ وهو أشدُّه عليَّ فيفصمُ عني وقد وعيتُ ما قال وأحياناً يتمثّلُ لي الملكُ رجلاً فيكلِّمني فأعي ما يقول».
وأخبرنا القران الكريم أن الله سبحانه وتعالى أرسل بعضَ الملائكة المقربين واسطةً منه تعالى إلى أشخاص من البشر ليسوا بأنبياء تشريفاً لهم وتكريماً وأنَّ أولئك الملائكة عليهم السلام جاءت وساطتهم بالبشارة والنذارة والإبتلاء لهؤلاء الأشخاص ونريدُ أن نبيّن تلك الوساطات في النقاط الاتية:
أ ـ سارة زوجة إبراهيم عليهما السلام:
لما ذكر الله تعالى قصّةَ ملائكته الذين أرسلهم إلى إبراهيم عليه السلام ذكر في أثنائها أنهم خاطبوا زوجه سارة وبشّروها بولدها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب عليهما السلام وذلك في ايتين من كتاب الله العزيز قال تعالى {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *قَالَت ياوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ *قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ *} هود: 70 ـ 73. وقال تعالى {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلام عَلِيمٍ *فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ *} الزاريات: 28 ـ 30.
فتبيّنَ من هاتين الايتين أنّ الله تعالى أوحى إلى سارة بواسطةِ هؤلاء الملائكة الذين بشّروها بأنها ستلدُ إسحاق رغمَ كبرِ سنّها وشيخوخةِ بعلها وأنّ إسحاقَ سيولد له ولدٌ يسمّى يعقوب.
ب ـ مريم ابنة عمران عليها السلام:
اقتضت حكمةُ الله سبحانه وتعالى أن يولد عيسى بنُ مريم عليه السلام من أمٍ دونَ أبٍ ليكون ذلك دليلاً مشاهَداً على عظم قدرة الله عز وجل ولمّا كانت مريمُ عليها السلام هي الأم التي قدّر الله ولادتها لهذا النبي الوجيه أرسل إليها الملائكةَ مراراً وقد بيّنت آيات القران الكريم ذلك في عِدّة مواضع فمن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *} آل عمران 42 ـ 43. قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ومن الصَّالِحِينَ *قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}[ال عمران 45 ـ 47. وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *} [مريم 17 ـ 21.
فثبت من هذه الآيات أنّ الملائكة أوحت إلى مريم ثلاث مرّاتٍ واسطة بينها وبين الله تعالى وفي بعض هذه المرات كانت الواسطةُ جمعاً من الملائكة بصيغة العموم وفي المرة الثالثة ـ في سورة مريم ـ كان الواسطةُ هو جبريلَ عليه السلام حيث تمثّل لمريمَ على صورة رجل تامِّ الخلقة وأخبرَها أنّه رسولٌ من عندِ الله تعالى ليهبَ لها غلاماً زكياً.
ولا يفهم من وحي الله إلى كلٍّ من سارة ومريم بواسطة الملائكة أنه توجد نبيةٌ من النساء لأنَّ النبوة لا تثبتُ لأحدٍ من البشر إلا بدليلٍ ولا يوجد دليلٌ على نبوة واحدة من النساء بل القران الكريم قصر الرسالةَ على الرجال دون النساء. قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 10 وهذا قولُ جمهورِ أهل العلم وهو الراجح.
ج ـ الملك الذي أرسله الله إلى الرجل الذي زار أخاه في الله:
روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ رجلاً زار أخاً له في قريةٍ أخرى فأرصدَ الله على مدرجتِهِ ملكاً فلمّا أتى عليه قال أين تريدُ؟ قال أريدُ أخاً لي في هذه القرية قال هل لكَ عليه من نعمةٍ تُربُّها، قال: لا غيرَ أنِّي أحببتُه في اللهِ عز وجل، قال: فإنِّي رسولُ اللهِ إليكَ بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه».
فثبت بهذا الحديث أنّ الله تعالى قد أرسلَ ملكاً من ملائكته واسطةً بينه وبين هذا الرجل الصالح ليعلمه فضلَ الحُبِّ في الله تعالى ومنزلةَ المتحابيّن فيه.
د ـ الملك الذي بعثه الله إلى الأبرص والأقرع والأعمى في بني إسرائيل لابتلاهم:
وقد مرّ الحديث معنا مفصلاً فقد دلّ هذا الحديثُ على أنّ الله تعالى قد بعث ملكاً من ملائكته واسطةً بينه وبين هؤلاء الثلاثة نفر من بني إسرائيل لابتلائهم وامتحانهم وأنّه أتاهم على صورة رجلٍ من البشر.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالملائكة
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC170.pdf
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
1 ـ حفظ بني ادم:
قال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ *} الرعد: 11. أي للعبدِ ملائكةٌ يتعاقبون عليه حرسٌ بالليل وحرسٌ بالنهار يحفظونه من الأسواءِ والحادثاتِ كما يتعاقب ملائكةٌ اخرون لحفظِ الأعمالِ من خيرٍ أو شرِّ ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فاثنان عن اليمين والشِمال يكتبان الأعمال صاحبُ اليمين يكتبُ الحسنات وصاحبُ الشِمال يكتبُ السيئات وملكان اخران يحفظانه ويحرسانه واحدٌ من ورائه واخرُ من قدّامه فهو بين أربعة أملاكٍ بالنهار وأربعةٍ بالليل بدلاً حافظان وكاتبان كما جاء في الصحيح «يتعاقبون فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهار ويجتمعون في صلاةِ الصبحِ وصلاةِ العصرِ فيصعدُ إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ـ وهو أعلم بكم ـ كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلَّون وتركناهم وهم يصلون».
وروى عن بعض أهل العلم في تفسير قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلّوا عنه.
وقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *} الانعام: 61. أي وهو الذي قهر كلَّ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} وخضعَ لجلاله وعظمتهِ وكبريائه كلُّ شيءٍ أي من الملائكةِ يحفظون بدن الإنسان.
وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ *} أي حافظ يحرسها من الآفات.
وقد بيّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعضَ الأذكارِ التي تحفظُ الملائكةُ مَنْ قالها في يومه ذاك أو في موضعه الذي قالها فيه فمن ذلك.
أ ـ اية الكرسي:
فقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ مَنْ قرأها وكّل الله به مَلَكاً يحوطه كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظِ زكاةِ رمضانَ فأتاني اتٍ فجعلُ يحثو من الطعامِ فأخذتهُ فقلتُ لأرفعنَّك إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقصَّ الحديث وفيه فقال إذا أويتَ إلى فراشِكَ فاقرأ ايةَ الكرسي فإنّك لنْ يزالَ عليكَ من اللهِ حافظٌ ولا يقربنّكَ شيطانٌ حتّى تصبحَ وكانوا أحرصَ شيءٍ على الخير فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم «أَما إنَّه قَدْ صدقكَ وهو كذوبٌ تعلمُ مَنْ تخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ يا أبا هريرة؟» قال لا قال «ذاكَ شيطانٌ».
ب ـ قراءة أواخر سورة البقرة:
عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأ بالايتينِ من اخرِ سورةِ البقرةِ في ليلةٍ كفتاه».
قال النوويُّ اختلفَ العلماءُ في معنى «كفتاه» فقيل من الافاتِ في ليلته وقيل كفتاه مِنْ قيامِ ليلته فقلتُ (أيّ النووي) ويجوزُ أن يراد الأمران.
ج ـ قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين ثلاث مرات:
عن عبد الله بن خبيب رضي الله عنه قال خرجنا في ليلةِ مطرٍ وظلمةٍ شديدةٍ نطلبُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي لنا فأدركناه فقال «قل» فلم أقلْ شيئاً ثم قال «قُلْ»، فلم أقل شيئاً ثم قال: «قل»، فقلت يا رسول الله ما أقول؟ قال «قل هُوَ الله أحد والمعوّذتين حين تمسي وحين تصبحَ ثلاثَ مرّاتٍ يكفيك من كلِّ شيء».
د ـ قول (لا إله إلا الله وحده لا شريك له):
قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «مَنْ قالَ لا إله إلاّ وحدَه لا شريكَ له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير في يوم مئةَ مرّةٍ كانتْ له عدلُ عشرِ رقابٍ وكُتِبَتْ له مئةُ حسنةٍ ومُحيتْ عنه مئةُ سيئةٍ وكانت له حِرزاً من الشيطانِ يومه ذلك حتّى يمسي ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلاّ أحدٌ عمل أكثر منه».
2 ـ ملازمته ودعوته للخير:
وممن هو ملازم للإنسان من الملائكة القرينُ وهذا من أعظم نِعَمِ الله على الإنسان ولله الحمد والمنة فقد يسّرَ الله لكلِّ إنسانٍ مَلَكٌ يدعوه إلى الخير ويحثّه عليه ويخوّفه من الشرّ ويحذَّره قال تعالى {وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ *} ق: 23.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «ما مِنْكُم مِنْ أحدٍ إلاّ وَقَدْ وكل به قرينُه من الجنِّ وقرينُه من الملائكةِ» قالوا وإيّاك يا رسول الله قال «وإيّايَ إلا أنَّ الله أعانني عليه فأسلمُ فلا يأمرُني إلاّ بخيرٍ».
وقد وضّح النبيُّ صلى الله عليه وسلم عملَ هذين القرينينِ للإنسان وطريقةَ السلامةِ من الشيطان في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «إذا أوى الرجلُ إلى فراشِهِ ابتدره مَلَكٌ وشيطانٌ فيقول المَلَكُ اختم بخيرٍ ويقول الشيطانُ اختمُ بشرِّ فإنْ ذكرَ الله ثم نامَ باتَ المَلكُ يكلؤه فإذا استيقظَ قال الملك افتحْ بخيرٍ وقال الشيطانُ افتْح بشرِّ فإن قال الحمدُ للهِ الذي يُمْسِكُ السماواتِ والأرضَ أن تزولا إلى اخر الاية الحمدُ للهِ الذي يُمْسِكُ السماءَ أن تقعَ على الأرضِ إلاّ بإذنه، فإنْ وقع من سريره فماتَ دخلَ الجنّة».
وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً ما يوضّحُ هذا الأمرَ وفيه «إنَّ للشيطانِ لمةً وللَمَلكِ لمةً فأمّا لمةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيبٌ بالحقِّ وأمَّا لمةُ المَلَكِ فإيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ فمن وجدَ ذلك فليحمدِ الله ومَنْ وجدَ الأُخرى فليتعوّذ مِنَ الشيطانِ» ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} البقرة: 269.
يقول ابنُ القيّم وإذا تأملتَ حالَ القلبِ مع المَلَكِ والشيطانِ رأيتَ أعجبَ العجائبِ فهذا يلمُّ به مرةً وهذا يلمُّ به مرةً فإذا ألمَّ به المَلَكُ حدثَ مِنْ لمّتِهِ الانفساخ والانشراحُ والنورُ والرحمةُ والإخلاصُ والإنابةُ ومحبةُ الله وإيثارُهُ على ما سواه وقِصَرُ الأملِ والتجافي عن دارِ البلاءِ والامتحانُ والغرورُ فلو دامتْ له تلك الحالة لكان في أهنأ عيشٍ وألزه وأطيبه ولكن تأتيه لمةٌ الشيطانِ فتحدِثُ له من الضيقِ والظلمةِ والهمِّ والغمِّ والخوفِ والسخطِ بالمقدورِ والشك في الحق والحرصِ على الدنيا وعاجلها والغفلةِ عن الله ....
ثم للناس مراتبُ في هذه المحنة لا يحصيها إلا الله فمنهم مَنْ تكون لمةُ الملَكَ به أغلبُ من لمة الشيطان وأقوى فإذا ألمَّ به الشيطانُ وجدَ من الألمِ والضيقِ والحصرِ وسوءِ الحال بحسب ما عنده من حياةِ القلب فيبادِرُ إلى طردِ تلك اللمّةِ ولا يدعُها تستحكِمُ فيصعب تدارُكها فهو دائماً في حربٍ بين اللمتين يدالُّ له مرة ويدالُ عليه مرةً أُخرى والعاقبة للتقوى.
وليس شيءٌ أنفعُ للعبدِ من صحبة الملك له وهو وليه في يقظته ومنامه وحياته وعند موته وفي قبره ومؤنسه في وحشته وصاحبه في خلوته ومحدّثه في سرّه ويحارب عنه عدوه ويدافع عنه ويعينه عليه ويَعِدُه بالخير ويبشّره به ويحثّه على التصديق بالحق وإذا اشتدّ قربُ الملك من العبدِ تكلّم على لسانه وألقى على لسانه القولَ السديدَ وإذا بعدُ منه وقرب الشيطانُ من العبدِ تكلّم على لسانه قول الزور والفحش حتى يُرى الرجلُ يتكلّم على لسانِ الملَكِ والرجلُ يتكلّم على لسانِ الشيطان.
وذكر ابن القيم أنّ العبدَ يصحبُ الملك ويدنيه منه إنْ هو اشتغلَ بالإيمان والعبادةِ للرحمن ويطردهُ منه ويقصيه إن اشتغلَ بالذنوبِ والمعاصي وفي ذلك يقول مِنْ عقوبةِ المعاصي أنّها تباعِدُ عن العبد ووليَّه وأنصحَ الخلق له وأنفعَهم له ومن سعادته في قربه منه وهو الملَكُ الموكل به وتدني منه عدوَّه وأخسِّ الخلق وأعظمهم ضرراً له وهو الشيطان فإنّ العبدَ إذا عصى الله تباعد منه الملك بقدر تلك المعصية حتى إنّه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافةً بعيدةً فإذا كان هذا تباعدُ الملكِ منه من كذبة واحدة فماذا يكون قدر تباعده منه مما هو أكبر من ذلك وأفحش منه....
3 ـ السفارة بين الله وبين عباده من بني ادم:
من أهم الوظائف المنوطة بالملائكة قيامهم بتبليغ الوحي إلى أنبياء الله ورسله فالملائكةُ واسطةٌ بين الله تعالى وبين الرسل في تبليغ الوحي والشرائع ويكونُ الملكُ واسطةً بين الرسول وبين ربه والرسولُ واسطةٌ بين الملك وقومه وما يؤديه الملك إلى الرسول ليؤديه الرسول إلى قومه ضربان قرانٌ ووحي، فقد اصطفى الله سبحانه وتعالى من بني ادم أفراداً شرّفهم بنبوته ورسالته وأرسل إليهم ملائكة منه يبلغونهم أوامر الله سبحانه وتعالى ودينه وهؤلاء المصطَفْون هم الأنبياءُ والرسل عليهم الصلاة والسلام قال تعالى {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وعيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ۚ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا * رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا *} 163 ـ 16 وقد ذكر الله عزّ وجلّ المقامات التي يوحي بها إلى عباده فقال سبحانه {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ *وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقَيمٍ *صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ *} الشورى: 51 ـ 53.
قال ابنُ كثير هذه مقاماتُ الوحي إلى جناب الله عز وجل وهو أنه تبارك وتعـالى تـارةً يقذِفُ في رَوْعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم شيئاً لا يتمـارى أنّـه من الله عز وجل أو مِنْ وراءِ حجـابٍ كمـا كلّم موسى عليه الصلاة والسلام ـ أو يرسـل رسولاً كمـا ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيرُه من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والذي يهمّنا في هذا المبحث المقام الثالث وهو الوحي بواسطة الملَكِ.
فقد أثبتت الآيات القرآنية والأحـاديث النبوية أنّ جبريلَ عليه السلام هو الذي ينزِلُ بالوحي من الله تعالى على الأنبياء والرسل فكان الوساطـةَ بين الله تعالى ورسلهِ.
الأدلة من الكتاب العزيز:
قال تعالى {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *} 193 ـ 19 وقال تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} 9 وقال تعالى {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل 10 {بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ *} تعالى {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى *ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى *وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى *ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى *فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى *فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى *} النجم: وأخرج الشيخان عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلَ جبريلُ عليه بالوحي يحرِّكُ لسانه وشفتيه فيشتدّ عليه فكان ذلك يُعْرَفُ منه أنزل الله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *} القيامة: 16- 19. فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهبَ قرأه كما وعده الله.
وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ *ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ *مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ *وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ *وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ *} التكوير: 19 ـ 23.
وقد كان نزول جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم على أشكال:
أ ـ فمن تلك الأشكال أنّه كان يأتيه على صورة غير مرئية ويقع كلامهُ على قلبِّ النبي صلى الله عليه وسلم فيعي ما يقول ولا يرى الصحابةُ جبريلَ عليه السلام والحالةُ هذه ولكن تظهر لهم علاماتٌ تدلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يُوْحَى إليه ومن هذه العلامات:
خروج العرق من جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم في اليوم البارد ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت إنْ كانَ ليُنزلُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الغداةِ الباردةِ ثم تفيضُ جبهتهُ عرقاً.
تغير وجهه الشريف ففي «صحيح مسلم» عن عُبادةَ بن الصامتِ رضي الله عنه قال «كان نبيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا أُنـزلَ عليه الوحيُ كَـرُبَ لذلك وتربَّـد وجهُه».
ثقل جسمه الشريف صلى الله عليه وسلم فعن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: إنِّي لاخذةٌ بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أُنزلتْ عليه المائدةُ كُلُّها فكادت مِنْ ثقلِها تدقُّ عضدَ الناقةِ.
وروى البخاري في «صحيحه» عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال «أُنزل على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وفخذُه على فخِذي فثقلتْ عليَّ حتى خِفْت أن ترضَّ فخذي.
ب ـ وقد يراه على صورته التي خُلِق عليها:
وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريلَ على صورته التي خُلِقَ عليها مرتين فقد روى مسلمٌ بسنده عن عائشةَ رضي الله عنها قالت إنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يرَ جبريلَ في صورته التي خُلِقَ عليها إلا مرتين مرةً عند سِدْرةِ المنتهى ومرّةً في جياد، له ستمئة جناح قد سدَّ الأفقَ.
جـ وقد يتمثل جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجلٍ فيكلّمه بالوحي ومن ذلك:
تمثل جبريل عليه السلام بصورة الصحابي دِحْيةَ بنِ خليفةَ الكلبي رضي الله عنه وكان معروفاً بجماله فقد روى الإمام أحمد عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال كان جبريلُ عليه السلام يأتي النبيَّ صلى الله عليه وسلم في صورة دحية.
وقد يأتيه على صورة رجلٍ غير معروفٍ ومن ذلك ما ثبت في «صحيح مسلم» من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال بينما نحن جلوسٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم إذ طلعَ علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثيابِ شديدُ سوادِ الشعرِ لا يُرى عليه أثرُ السفر ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلسَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه ووضعَ كفيه على فخذيه وساق عمرُ الحديث إلى أن قال في اخره ثم انطلق فلبثتُ مليَّاً ثم قال لي «يا عمرُ أتدريَ مَنِ السائلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلم قال «فإن جبريلُ أتاكم يعلمكم دينكم» .
وقد جمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الشكلين «أ ج»، في قوله «أحياناً يأتيني مثلَ صلصلةِ الجرسِ وهو أشدُّه عليَّ فيفصمُ عني وقد وعيتُ ما قال وأحياناً يتمثّلُ لي الملكُ رجلاً فيكلِّمني فأعي ما يقول».
وأخبرنا القران الكريم أن الله سبحانه وتعالى أرسل بعضَ الملائكة المقربين واسطةً منه تعالى إلى أشخاص من البشر ليسوا بأنبياء تشريفاً لهم وتكريماً وأنَّ أولئك الملائكة عليهم السلام جاءت وساطتهم بالبشارة والنذارة والإبتلاء لهؤلاء الأشخاص ونريدُ أن نبيّن تلك الوساطات في النقاط الاتية:
أ ـ سارة زوجة إبراهيم عليهما السلام:
لما ذكر الله تعالى قصّةَ ملائكته الذين أرسلهم إلى إبراهيم عليه السلام ذكر في أثنائها أنهم خاطبوا زوجه سارة وبشّروها بولدها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب عليهما السلام وذلك في ايتين من كتاب الله العزيز قال تعالى {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ *وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ *قَالَت ياوَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ *قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ *} هود: 70 ـ 73. وقال تعالى {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلام عَلِيمٍ *فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ *قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ *} الزاريات: 28 ـ 30.
فتبيّنَ من هاتين الايتين أنّ الله تعالى أوحى إلى سارة بواسطةِ هؤلاء الملائكة الذين بشّروها بأنها ستلدُ إسحاق رغمَ كبرِ سنّها وشيخوخةِ بعلها وأنّ إسحاقَ سيولد له ولدٌ يسمّى يعقوب.
ب ـ مريم ابنة عمران عليها السلام:
اقتضت حكمةُ الله سبحانه وتعالى أن يولد عيسى بنُ مريم عليه السلام من أمٍ دونَ أبٍ ليكون ذلك دليلاً مشاهَداً على عظم قدرة الله عز وجل ولمّا كانت مريمُ عليها السلام هي الأم التي قدّر الله ولادتها لهذا النبي الوجيه أرسل إليها الملائكةَ مراراً وقد بيّنت آيات القران الكريم ذلك في عِدّة مواضع فمن تلك الآيات قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ *يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَّبِكِ واسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ *} آل عمران 42 ـ 43. قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً ومن الصَّالِحِينَ *قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} {يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}[ال عمران 45 ـ 47. وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا *قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا *قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا *} [مريم 17 ـ 21.
فثبت من هذه الآيات أنّ الملائكة أوحت إلى مريم ثلاث مرّاتٍ واسطة بينها وبين الله تعالى وفي بعض هذه المرات كانت الواسطةُ جمعاً من الملائكة بصيغة العموم وفي المرة الثالثة ـ في سورة مريم ـ كان الواسطةُ هو جبريلَ عليه السلام حيث تمثّل لمريمَ على صورة رجل تامِّ الخلقة وأخبرَها أنّه رسولٌ من عندِ الله تعالى ليهبَ لها غلاماً زكياً.
ولا يفهم من وحي الله إلى كلٍّ من سارة ومريم بواسطة الملائكة أنه توجد نبيةٌ من النساء لأنَّ النبوة لا تثبتُ لأحدٍ من البشر إلا بدليلٍ ولا يوجد دليلٌ على نبوة واحدة من النساء بل القران الكريم قصر الرسالةَ على الرجال دون النساء. قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} 10 وهذا قولُ جمهورِ أهل العلم وهو الراجح.
ج ـ الملك الذي أرسله الله إلى الرجل الذي زار أخاه في الله:
روى مسلم في «صحيحه» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ رجلاً زار أخاً له في قريةٍ أخرى فأرصدَ الله على مدرجتِهِ ملكاً فلمّا أتى عليه قال أين تريدُ؟ قال أريدُ أخاً لي في هذه القرية قال هل لكَ عليه من نعمةٍ تُربُّها، قال: لا غيرَ أنِّي أحببتُه في اللهِ عز وجل، قال: فإنِّي رسولُ اللهِ إليكَ بأنَّ الله قد أحبَّك كما أحببتَه».
فثبت بهذا الحديث أنّ الله تعالى قد أرسلَ ملكاً من ملائكته واسطةً بينه وبين هذا الرجل الصالح ليعلمه فضلَ الحُبِّ في الله تعالى ومنزلةَ المتحابيّن فيه.
د ـ الملك الذي بعثه الله إلى الأبرص والأقرع والأعمى في بني إسرائيل لابتلاهم:
وقد مرّ الحديث معنا مفصلاً فقد دلّ هذا الحديثُ على أنّ الله تعالى قد بعث ملكاً من ملائكته واسطةً بينه وبين هؤلاء الثلاثة نفر من بني إسرائيل لابتلائهم وامتحانهم وأنّه أتاهم على صورة رجلٍ من البشر.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالملائكة
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/BookC170.pdf