الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

إقامة العدل بين الناس من أهم مقاصد القرآن الكريم

الحلقة: الرابعة عشر

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ مايو 2020

العدل من الأسس والقيم التي جاءت بها جميع الشرائع السماوية، فأنزل الله به كتبه، وأرسل به رسله. قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]: أي: العدل، فما من كتاب أنزل ولا رسول أُرسل إلا أمر أمته بالعدل، وأوجبه عليها، والأممُ بين طائع اخذ منه بنصيب، وحائدٍ مائلٍ عن العدلِ والقسط بجهلٍ أو هوى، والرسلُ ما تزال تجدّدُ ما نسيته الأجيال، وتذكر الناسَ بما نسوا إلى أن ختمت الرسالاتُ بخاتمِ الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الرسالةُ المحمدية خاتمةَ الرسالات، والنبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل، وهذه الأمةُ ـ التي جعلها الله شاهدةً على الناس وقيّمة على البشرية، تبلّغها دين الله، وتشهد لها بالإيمان أو عليها بالكفر والعصيان ـ هي خاتمة الأمم قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]: فقد كـان العدلُ من أهم ما يجب على هذه الأمة، بل هو من أعظم مـا يميّزهـا عن الأمم، ولم يكتف الحقُّ تبارك وتعالى بإيجابِ العدل على هذه الأمة، بل أراد منها أن تجعلَه خُلقاً من أخلاقها، وصفةً من صفاتها، وصبغةً تصطبغ بها من دون الناس، فأمرها أن تكونَ قائمةً بالعدل، بل قوامةً به بين الناس، لله عز وجل، لا لأي شيءٍ آخر، فلا تحابي فيه قريباً لقرابته، ولا تضارّ عدواً لعداوته. قال تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾[المائدة: 8].
فالعدل الذي أمر بـه الله عز وجل في القرآن الكريم حقٌّ لكل الناس جميع الناس، لا عدلاً بين المسلمين فحسب، ولا عدلاً مع أهل الكتاب دون سائر الناس، وإنمـا هو لـكل إنسان بوصفه إنسـان، فهذه الصفة ـ صفة الـنـاس ـ هي التي يترتب عليهـا حق العدل في المنهج الربـاني، وهذه الصفـة هي التي يلتقي عليها البشر جميعاً مؤمنين وكفـاراً، أصدقـاء وأعداءً، سوداً وبيضاً، عرباً وعجماً، والأمة المسلمة قيمـة على الحكم بين الناس بالعدل متى حكمت أمرهم.
فالعدل من مقاصد القرآن الكريم، وقد أوجبه الله على المؤمنين به، ولو كان مراغمةً لعواطف البغض والعداوة، ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾، وهو كذلك واجبٌ، ولو كان فيه مراغمة لكافة عواطف الحب وا-لمودة والقرابة ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ﴾ [النساء: 135].
والأمة مأمورة بأن تقوم بالعدل والقسط والشهادة لله، وليس لأحد سواه، وأن يكون ذلك منهم بدافع التقوى والخوف من الله عز وجل؛ حتى يصبح الجميع أمام العدل سواء، من دون اعتبار لدوافع الحب والولاء والقرابة، أو البغضاء والشنان والعداوة؛ لأنها إنما تقوم بالعدل والقسط بين الناس لله وبأمر الله، والعدل بهذه الصورة الشاملة لم تعرفه البشرية قط إلا على يد هذه الأمة، ولم تنعم به البشرية قط إلا تحت حكم الأمة المسلمة.
الشورى:
من مقاصد القرآن الكريم: تحقيق ممارسة الشورى بين الناس.
1 ـ قال تعالى: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ۝ وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾[الشورى: 36 ـ 38].
وهناك دلالات لطيفة لقيمة الشورى في الإسلام، في ضوء تفسير هذه الاية، فالاية وردت في سورة تحمِلُ اسم الشورى، وهي سورة الشورى، وتسمية إحدى سور القرآن الكريم باسم الشورى هو في حدِّ ذاته تشريفٌ لأمر الشورى، وتنويه بأهميتها ومنزلتها، وجاءت الشورى في هذه الاية وصفاً تقريرياً، ضمن صفات أساسية لجماعة المؤمنين المسلمين، فهم بعد إيمانهم متوكلون على ربهم، مجتنبون لكبائر الإثم والفواحش، مستجيبون لأمر ربهم، مقيمون لصلاتهم، وأمرهم شورى بينهم، ويزكون أموالهم، وينفقون منها في سبيل الله.
وهي اية مكية، مما يدل على أنّ الشورى في الإسلام ممارسةٌ اجتماعية قبل أن تكون من الأحكام السلطانية، وهي تصفُ حال المسلمين في كلِّ زمان ومكان، فهي ليست طارئـةً ولا مرحليةً، ولقد جعل الله سبحانه احترامَ الشورى من أثمن خصال المؤمنين وصفاتهم.
وهي تجعل جميع المسلمين فيما لم ينزل فيه وحي، شورى بينهم، فهي حق لهم جميعاً، إلا ما كان من شأن أهل العلم والتخصص، فإنّ المؤمنين يحملهم إيمانهم أن يردوا ما أشكل عليهم إلى مَنْ يعلمُ كيف يستنبطُ الأحكام من النصوص.
وقد انتبه عدد من العلماء إلى وقوع هذه الاية الكريمة كصفة من ضمن صفات تعدّ من المقومات والأركان الاساسية في ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وهو ما يعني أنها واحدةٌ من تلك الفرائض والأركان. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ﴾ يدل على جلالة موقع ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾، لذكره لها مع الإيمان وإقامة الصلاة، ويدل على أنهم مأمورون بها.
2 ـ وقال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾[ال عمران: 159].
وهذه الاية جاءت خطاباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته داعياً وهادياً، ومرشداً ومربياً، وأميراً وقائداً، وهذا ما يقتضيه أن يكون رفيقاً بالناس، متلطفاً معهم، رحيماً لهم، عفواً عنهم، متسامحاً معهم، بل مستغفراً لهم في أخطائهم وذنوبهم، ومستشيراً لهم، ومراعياً لارائهم، وهذا الأمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بمشاورة أصحابه أمرٌ لكل من يقوم مقامه من الدعاة والقادة والأمراء، بل إنَّ العلماءَ والمفسرين يعتبرون أنَّ هؤلاء مأمورون من باب أولى وأحرى، فهم الأحوجُ إلى هذا الأمر، وبفارق كبير جداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هنا عُدت هذه الايةُ قاعدةً كبرى في الحكم والإمارة، وعلاقة الحاكم بالمحكوم، فالشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين ـ وأهل التخصص في فنون العلوم ـ فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه.إن الشورى مقصد من المقاصد الإسلامية، وجزء من الشريعة الإسلامية.

يمكنكم تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب:
الإيمان بالقرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022