تقرير كرامة الإنسان من أهم مقاصد القرآن الكريم
الحلقة: السابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
رمضان 1441 ه/ مايو 2020
يظهر التكريمُ الإلهيُّ للإنسان في عِدّةِ أمورٍ، منها:
1 ـ الإنسان خليفة في الأرض:
أكد القرآن الكريم أن الإنسان مخلوق كريم على الله، فقد خلق ادم بيديه، ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، تكريماً للإنسان، وجاء ذلك في حوار بديع، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].
2 ـ الإنسان محور الرسالات السماوية:
إنّ الإنسان هو المقصودُ غايةً وهدفاً في ابتعاث الرسل، واختيار الأنبياء، وإنزال الكتب والصُّحف، وإنّ الله سبحانه وتعالى الذي جعل ادمَ خليفةً في الأرض، اقتضت حكمته ومشيئته ورحمته بالإنسان ألاّ يخلقه عبثاً، وألاّ يتركه سدًى، وإنّما تكفّل بهدايته وإرشاده، وأخذ بيده إلى الطريق الأقوم، والمنهج الأمثل، وطمأنه منذ استقراره في الأرض أنه لن يدعه طعاماً سائغاً لوساوس الشيطان، ولن يتركه نهباً للوهم، والخبط، والضلال، والشهوات، ولن يسلمه للجهالة والحيرة والضياع، وإنما أكرمه بالهداية والرشاد بالتي هي أقوم، قال تعالى: ﴿قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 38]. وقال تعالى: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ ﴿مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 123 ـ 124].
وهكذا توالت الرسلُ، وتتابع الأنبياء، وأُنزلت الكتب، وكلّها تدور على محور واحدٍ، هو الإنسان، بما يحقق له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاءت الشرائع لتأمينِ مصالح الناس بجلب النفع لهم، ودفع المضارّ عنهم، فترشدهم إلى الخير، وتهديهم إلى سواء السبيل، وتدلّهم على البر، وتأخذ بيدهم إلى الهدى القويم، وتكشِفُ لهم طريق الخير، وتحذّرهم من الغواية والشرّ.
وجاءت الشريعة لتحصيل المصالح وتكميلهـا، وتقليل المفـاسد وتعطيلها، فإنّ الأحكام الشرعية إنما شرعت لجلب المصالح، أو لدرء المفاسد.
3 ـ تكليف الملائكة بالسجود لآدم:
لم يقتصر الأمر الإلهي باختيار الإنسان خليفة في الأرض، بل تأكد ذلك في السماء والجنات العلا، واقترن بالفعل والتطبيق، وأعلن الله تعالى ذلك في الملأ الأعلى بإرادته عن خلق ادم، واتخاذه خليفة، وسجل ذلك في اللوح المحفوظ، وأنزله وحياً يتلى على البشر، ثم أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لادم تعظيماً، واحتراماً له؛ لأنّ الإرادة الإلهية تعلقت باختياره، فقال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ص: 71 ـ 74]. وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾[الحجر: 28 ـ 31].
وكرّر القرآن الكريم هذا الأمر، وهذه القصة في عدة سور قرآنية لتذكير الإنسان بفضل الله تعالى أولاً، وليعرف مكانته من الوجود والكون ثانياً، وليحذره من غواية إبليس ثالثاً.
4 ـ تفضيل الإنسان عن سائر المخلوقات:
صرّح القرآن الكريم بهذا التفضيل والتكريم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ [الإسراء: 70].
5 ـ تسخير ما في الكون للإنسان:
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ [لقمان: 20].
وصرّح القرآن الكريم بأنّ الله تعالى خلق الأنعام، وملَّكها للإنسان، ثم ذلّلها له للركوب، والأكل، والمنافع، والمشارب، قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ ﴾ [يس: 71 ـ 73].
ووجّه القرآن الكريم الإنسان إلى البحث في الكون، والتعرف على خواصّه وأسراره، والانتفاع به في الحياة.
فقال تعالى عن الثروة المائية: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا﴾ [النحل: 14]. وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأنعام: 141].
وقال تعالى عن الثروة الحيوانية: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 5 ـ 8].
وقال تعالى عن الثروة الصناعية: ﴿وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحديد: 25]. وقال تعالى: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [سبأ: 10 ـ 11].
6 ـ تكريم الإنسان بالعقل:
فالعقل هو الأداة الكبرى للمعرفة، ويتفرّع عنه التفكير، والإرادة، والاختيار، وكسب العلوم؛ لذلك كان الإنسانُ مسؤولاً عمّا يصدر عنه، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ [الإسراء: 36].
وعدّ القرآن الكريم الإنسانَ الذي يعطل حواسه وعقله أضلّ من الأنعام والحيوان؛ لأن لديه وسائل المعرفة، لكنه عطلها عما خلقت له. قال تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [الأنفال: 22].
وقد تعدّدت الآيات القرآنية صراحةً وإشارةً في مخاطبة العقل، ودعوته للتفكير، والنظر والبحث في الكون، وجعل التفكير فريضة إسلامية. قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأِولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190 ـ 191]. وقال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾[الروم: 24] وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾[البقرة: 164] وقال تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾[الرعد: 4].
وآيات كثيرة تثيرُ العقلَ وتحثّه، وتؤدي بالعقل إلى الإيمان بالله تعالى، واليقين بأنّه الخالق المدبر.
وبالمقابل إذا فشل العقل في أداء هذه الوظيفة فقد وجوده، وسلب الإنسان إنسانيته، وهذا ما أكّده القرآن الكريم بنفي العقل عن الكفار، وحكم عليهم بأنّهم لا يعقلون، وذلك لعدم الاستفادة من السمع والبصر للانتفاع من آيات الكون التي تنطِقُ بوجود الله تعالى، وتوجب طاعته، وعندئذٍ ينسلخ الكافر من إنسانيته، ويتساوى بالحيوان ثم ينحدر عنه، قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ﴾[الفرقان: 43 ـ 44].
7ـ تكريم الإنسان بالأخلاق والفضائل:
تظهر كرامة الإنسان والدعوة إلى تكريمه بدعوة الإسلام إلى الأخلاق الفاضلة، وترغيب الفرد والمجتمع بمعالي الأمور، والتسامي عن المادة، والحض على الخير والفضيلة بين الناس؛ لذلك وصف القرآن الكريم نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم بأعلى أوسمةِ الفخار والثناء، فقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. وبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنما بُعثتُ لأتمِّمَ مكارمَ الأخلاق».
فدعا الإسلامُ الناسَ جميعاً إلى البِرِّ، والرحمة، والإخاء، والمودة، والتعاون، والوفاق، والصدق، والإحسان، ووفاء الوعد، وأداء الأمانة، وتطهير القلب، وتخليصه من الشوائب، كما دعا إلى العدل والمسامحة والعفو، والمغفرة والصبر والثبات، ودعا إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحَثَّ على النصيحة وغير ذلك من مكارم الأخلاق والفضائل، والأخلاق الفاضلة تزين الإنسانيةَ، وتُعلي شأنها، وتُنسق بين أفرادها، وتصون العلاقات الجماعية، وتوجيهها إلى الخير والكمال، لتصوّر الحياة البشرية في أجمل صورها، وأحسن أحوالها، وتتجنّب الرذيلة، والفساد الخُلُقي والاجتماعي.
يمكنكم تحميل سلسلة كتب الإيمان كتاب:
الإيمان بالقرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172.pdf