الإثنين

1446-10-30

|

2025-4-28

من خصائص دعوة الأنبياء

الحلقة: الثالثة و العشرون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020

1 ـ اختصاصها بالعلم النافع المنجي:
تكفّل الأنبياءُ صلواتُ الله وسلامه عليهم وانفردوا في دعوتهم بالعلم النافع ، وبالعلم الذي لا سعادةَ للإنسان ولا نجاةَ له بغيره ، وهو العلمُ الذي يَعْرِفُ به الإنسانُ خالقه، وفاطرَ هذا الكون، ومدبّرَ هذا العالم ، وصفاتِه العليّة ، والصلةَ التي بينه وبين عبده ، وموقف الإنسان في هذا العالم ، وموقفه من ربّه ، ومبدأه ومصيره ، وما يرضيه تبارك وتعالى وما يُسخطه ، وما يشقي الإنسانَ في الدار الاخرة وما يُسْعِدهُ ، وخواص عقائده وأعماله وأخلاقه ، وجزاءها ، وما يترتّب على ما يصدرُ منه من قولٍ واعتقادٍ ، وعملٍ من الثواب والعقاب ، والنتائج البعيدة الطويلة المدى ، وهذا هو العلمُ الذي يستحق أن يُسمّى (علم النجاة).
2 ـ الإيمان بالاخرة والاهتمام بها:
من سمات دعوة الأنبياء وملامحها وشعائرها التشديدُ على جانب الاخرة ، واللهجُ بها ، والإشادةُ بذكرها ، والتنويهُ بشأنها تنويهاً يجعلها من النقاط الأساسية في دعوتهم ، ويشعُرُ كلُّ مَنْ يعيش في أخبارهم وأحاديثهم ، ويتذوّق كلامهم أنَّ الاخرة دائماً نُصب أعينهم ، لا تزال ماثلة أمامهم بنعيمها وجحيمها ، وسعادتها وشقائها ، فهم إلى الجنة في حنين شديد ، ومن جهنم في فزع كبير ، وهو شيءٌ طبيعي ، قد ملك عليهم مشاعرهم ، واستولى على فكرهم ، وحسناً أن نقرأ ما حكاه القران من قول إبراهيم ، وقد جاشت نفسُه ، وفاضت عواطفه ، حيث ذكر الاخرة ، وتمثل هولها وفزعها قال تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ *رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ *وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ *وَاغْفِرْ لأَِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ *وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ *يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ *إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ *وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ *} [الشعراء : 82 ـ 91].
والإيمان بالاخرة، وتمثُّل ما فيها من سعادةٍ دائمةٍ، وشقاءٍ دائمٍ، وما أعدَّ الله فيها لعباده المؤمنين المطيعين من جزاءٍ ، وللكفّار العصاةِ من عقاب ، هو الحافزُ الحقيقي إلى دعوتهم ، وبذل نصحهم ، وهو الذي يقلقهم ، ويطيّر نومهم ، ويكدَّر صفو عيشهم ، ويجعلهم لا يهدأ لهم بال ، ولا يقرُّ لهم قرار ، وهو حافزٌ أقوى وأعظم سلطاناً على نفوسهم ممّا يشاهدونه من اختلال النظام واضطراب الأحوال ، وما يشعرون به من الأخطار المحيطة بهذا المجتمع إذا انتشر فيه الفساد ، ويجعلون ذلك موجِباً لدعوتهم ، وإنذارهم ، وسبباً لقلقهم وإشفاقهم.
وقد تعدّى الإيمانُ بالاخرة إلى أتباعهم ، والمؤمنين بهم ، وتجلّى لهم مدى الحياة وتفاهتها ، وعظمة الحياة الاخرة وخلودها ، وأنها المبتغى الذي يجاهد في سبيله المجاهدون ، ويسعى له العاملون ، ويتنافس فيه المتنافسون ، قال مؤمن من ال فرعون {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةِ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ *مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ *} [غافر : 39 ـ 40].
وقال سحرة فرعون بعد لحظة من إيمانهم بموسى عليه السلام ، لمّا أوعدهم فرعون بالعذاب الأليم ، وما أدراكم به؟ تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، والتصليب في جذوع النخل: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا *وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى *} [طه: 72 ـ 76].
والأنبياء يبعدون كلَّ البعد عن أن يُطمعوا أمتهم في مُلك أو سيادة أو منفعة دنيوية ، ويجعلونه ثمناً لإيمانهم ، أو مكافأة لقبول دعوتهم ، بل بالعكس من ذلك ، ينكرون على الناس حب العلو والاستعلاء والاستيلاء بدافع حب الجاه والطموح الفردي أو القومي قال تعالى: {الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [القصص : 83]. إنّما يطمعونهم في رحمة الله، ويخوفونهم من عذاب الله، ويجعلون مناط الأمر الثوابَ والجزاءَ في الاخرة، إنّما يذكرون أنّ هذا الإيمان والطاعة والاستغفار يجلبُ رحمة الله، ويستدرُّ الرزق، ويُنزل الأمطار، ويدفع ما هم فيه من جَدْب وضيق، فيقول نوح عليهالسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا *يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا *} [نوح : 10 ـ 11].
وقال تعالى: {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ *} [هود : 25] ، وهذه طبيعةُ الإيمانِ والاستغفارِ ، وسجيتها التي لا تختلف عنها كطبائع الأشياء وخواصّ الأدوية ، ونواميسَ الفطرة.
3 ـ دعوة حضارية ، لها أسلوبها الخاص في الحياة:
إنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لم يدعوا إلى عقيدة وشريعة فحسب ، ولم يحملوا ديناً جديداً فحسب ، بل كانوا مؤسسي حضارة ومدنية وأسلوب من الحياة جديدٍ خاص ، جديرٍ بأن يسمّى الحضارة الربانية ، ولهذه الحضارة أصولٌ ودعائمُ ، وعلاماتٌ وشعائرُ ، تمتازُ بها عن الحضاراتِ الأخرى ، الحضارات التي تُسمّى الحضارات الجاهلية ، امتيازاً واضحاً ، امتيازاً في الأساس وفي الروح ، وفي الأشكال والتفاصيل.
وكان إبراهيم الخليل الحنيف صلى الله عليه وسلم إمامَ هذه الحضارة الحنيفية المؤسسة على توحيد الله تعالى ، والإيمان به وذكره ، المؤسسة على متابعة الفطرة السليمة ، والقلب السليم ، المؤسسة على الحياة والأدب مع الله ، والإنابة والرحمة على بني الإنسان ، ورقّة العاطفة ، وقد سرت أخلاقه في هذه المدنية ومنهج الحياة قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ *} [التوبة : 114].
وكان إبراهيم عليه السلام ولا يزال مؤسس هذه الحضارة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وهو حفيده ـ مجدّدَ هذه الحضارة ومتممَّها ، وهو الذي بعث فيها الروحَ ، وأفاض عليها الخلودَ ، وأرسى قواعدها ، وشدّ بنيانها ، وجعلها خالدة باقية عالمية.
إنّ هذه الحضارة الإبراهيمية المحمدية لا تعرفُ الوثنيةَ والشركَ ، ولا تسمح به في لونٍ من الألوان ، وفي أي مكان وزمان ، فكان أكبرُ دعاء إبراهيم وأكبرُ همه {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ *} [ابراهيم : 35] ، وكان أكبرُ وصيته ودعوته للأمم والأفراد جميعاً {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج : 30 ـ 31].
إنها لا تعرِفُ التهالك على الشهوات ، والتكالُبَ على حطام الدنيا ، والتناحُرَ على جِيفَ المادة ، والتقاتل في سبيل الحكومات والمناصب ، إنّها دعوة لم تزل عقيدتُها: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [القصص : 83].
إنّها حضارة لا تعرِفُ الفصل بين الإنسان والإنسان ، والتمييز بين الألوان والأوطان ، «فالناسُ كلهم من ادم ، وادمُ من تراب ، لا فضلَ لعربيٍّ على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ألا بالتقوى» {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات : 13].
قال لمن هتف بالأنصار ومن هتف بالمهاجرين: «دعوها فإنها منتنة».إنّها حضارةٌ تُعْرَفُ في العقيدةِ بالتوحيد ، وفي الاجتماعِ باحترام الإنسانية ، والمساواةِ بين أفرادها.
وفي دائرة الأخلاق والمنهج بتقوى الله ، والحياء والتواضع ، وفي ميدان الكفاح بالسعي للاخرة ، والجهاد في سبيل الله ، وفي ساحة الحرب بالرحمة والعاطفة الإنسانية ، وفي أنواع الحكومات بترجيح جانبِ الهداية على جانبِ الجباية ، والخدمة على الاستخدام ، تعرف في التاريخ بخدمة الإنسانية المخلصة ، وإنقاذها من براثن الجاهلية ، والدعواتِ المضلّة الطاغية ، وفي العالم باثارها الزاهرة الزاهية ، وخيراتها المنتشرة الباقية ، إنها عُجِنت مع اسم الله ومراقبته ، وصبغت بصبغة الله ، وقامت على أساس الإيمان ، فلا يمكن تجريدُها عن الطابع الديني ، واللون الرباني ، والروح الإيماني.

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf

 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022