شبهات حول عصمة الأنبياء:
نوح وابراهيم عليهما السلام
الحلقة: الثالثة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
أ ـ نوح عليه السلام:
وأمّا نوحٌ عليه السلام ، فما وقع منه فهو أنّه سأل الله عن هلاك ابنه مع مَنْ هلكوا في الطوفان ، مَعْ وعدِ الله بنجاته ونجاةِ أهله ، فقد بيّن القران الكريم أنّ الله تعالى أوصاه أن يحمِلَ أهله والمؤمنين في السفينة. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ولهذا قال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَال يانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ *}[هود: 45 ـ 47].
فلم يكن لنوحٍ عليه السلام علمٌ بأنّ نسب ابنه إليه قد انتفى بكفره، وإعراضه عن دعوة الله ، فأعلمه الله تعالى أنّ الصلة الدينية والنسب الروحي أقوى من صلة الدم ، فإذا انقطعت هذه الصلةُ ذهبت بصلةِ النسب والدمِ ، فقال له معلماً إياه: معلّلاً ذلك بأنّ عمله عملٌ غيرُ {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ، وبذلك ينتفي نسبُه من أبيه ، فلا يكونُ من أهله الذين وُعِدُوا بالنجاة. وعلّلَ نفيَ كونه من أهله الحقيقيين لكفره بقوله بعد ذلك والعجيبُ في الجملة أنّه حوّل الشخص نفسه إلى رُكامٍ من العمل غير {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} ، لم يقل إنه عملَ عملاً غير صالح ، ولكنّه قال: إنه عمل غير صالح ، وفرقٌ بعيدٌ بين الجملتين ، وما أثبته نوح عليه السلام عن ابنه أنه من أهله ، أراد به الصلة النسلية النسبية بينهما ، وما نفاه الله عن ابنه ، أراد به الصلة الإيمانية الاعتقادية فيما أنه ليس من دينه ، فقد انقطعت الصلةُ بينهما ، رغم أنّه ابنه من صلبه ونسبه ، وقد مات كافراً ، وعرف نوحٌ حقيقةَ نهاية ابنه ، وقد عاتب الله نوحاً عليه السلام عتاباً شديداً على سؤاله ولذلك قال تعالى له: وسارع نوح عليه السلام إلى الاعتذار والاستغفار واللجوء إلى {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ *} ، قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ *} [هود : 47].
ولم يكن نوحٌ عليه السلام معترضاً على حكم الله في ابنه ، ولمّا عرف الحقيقة التزم بها ، واستغفر ربه ، وأناب ، وعاتبه الله ، لأنه فعل خلافَ الأَوْلى ، فرغم أنّه لم يخطىءْ في سؤاله ، إلا أنه كان الأَوْلى والأجدرُ به أنْ لا يسأل ، وأنْ يعرفَ الأمر بدون سؤال ، والله يريدُ من رسوله عليه السلام أن يكون فعلُه دائماً وفقَ الأولى والأفضل والأكمل والأحسن ، والله بعتابه له يرشده إلى ما هو أولى وأفضل رغم أن فعله صواب.
ب ـ إبراهيم عليه السلام:
وأمّا ما ذكر عن إبراهيم عليه السلام ، من أنّه كان شاكّاً في الله أوّل أمره ، متأثراً ببيئة قومه في عبادة الكواكب ، فليسَ بصحيحٍ ، بل إنّه نشأ مؤمناً بالله منذُ صغره ، وما كان منه من قوله للكوكب وللقمر وللشمس (هذا ربي) ، فإنّما هو من قبيل التسليم الجدلي في مقام الاستدلال على وجود الله لإقامة الحجّة على قومه ، بحيث يتنزّل معهم إلى مستوى إدراكهم وفهمهم ، ويتدرّجُ معهم حسب اعتقادهم ، ليبطِلَ عقيدتهم في عبادة هذه الالهة المزعومة بالمنطق السليم ، وبالحجة والبرهان ، ولهذا امتدحَ الله عزّ وجلّ إبراهيمَ عليه السلام على الأسلوبِ الذي اتبعه في الاستدلال ، وإليك هذه الايات: قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ *فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ *} [الانعام : 76 ـ 79].
فهذه الأقوال من إبراهيم الخليل لم تكن شكّاً في الله ، ولم تكن جهلاً بالخالق جلّ وعلا.. وإنّما كانت من أجل إقامة الحجة على ضلال قومه ، عن طريق البرهان والاستدلال ، وإفحامهم بأعظم الحُجج الدامغة.
فمن ظنَّ بإبراهيمَ الشك ، أو اعتقد أنّه عبدَ الشمس أو الكوكب ، فقد جانب الحق ، وأخطأ الفهم ، وجهل صفات الأنبياء والمرسلين ، وكيف يكون والله جلّ جلاله قد أعطاه العقلَ وكمالَ الرُّشد قبل ذلك ، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *} [الانبياء : 51].
وقـد أطلعَ اللهُ عزّ وجل إبراهيمَ عليه السلام على ملكوت السماوات والأرض ، وأخبرنا بأنّه كان من المؤمنين الموحّدين الكاملين في الإيمان واليقين ، وأنّ الله تعالى قد وهبه وأعطاه الحجة الدامغة ، التي تقصِمُ ظهر كلّ معاندٍ ومكابرٍ ، وأنه في مقام الاستدلال وإقامة البرهان على وجود الله الواحد الأحد ما كان يغلبه أحد ، استمع إلى الايات الكريمة ، كيف أنّ الله عزّ وجلّ يسوقُ البراهين على كمالِ يقينه ، قال جل ثناؤه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *} [الانعام : 74 ـ 75].
فالله عزّ وجل أعطى إبراهيم الحُججَ المقنعةَ ، والبراهينَ الساطعةَ ، التي بها قام الدليلُ على وجودِ الصانع الحكيم ، فهو يجادِلُ أباه بقوله ثم يصفُ قومَه بالضلالة في عبادة مَنْ {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً} يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغني عن الحقِّ شيئاً ، . فيقول:{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *} ثم يأتي البرهانُ على كمالِ يقين إبراهيم بشهادة الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ *}
والاياتُ التي جاءت بعدها إنّما هي في مقام الاستدلال على وجود الله ، وفي تقرير الحجة على قومه ، بحيث يتنزّل معهم إلى مستوى إدراكهم وفهمهم ، ويتدرّجُ معهم على حسب اعتقادهم ، فيقول عن النجم (هذا ربي) ثم عن القمر ثم الشمس ، ليبطلَ عقيدتهم في عبادةِ هذه الالهةِ المزعومة بالمنطق السليم ، وبالحجّة والبرهان ، ولهذا ختم الله عزّ وجلّ هذه القصة بقوله جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ *} [الانعام : 83].
وأمّا النص الثاني فهو قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *} [البقرة : 260].
فإبراهيمُ الخليل عليه السلام لم يكن شاكّاً في ربه ، أو في قدرته تعالى ، وإنّما سأل عن الكيفية ، ولم يسأل عن الماهية ، فلم يقل: هل تقدِرُ يا ربِّ أن تحيي الموتى والسؤال عن الكيفية إنما هو بدافع الشوقِ والتطلّع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية.
إنّه التشوّق إلى ملابسة سرِّ الصنعة الإلهية ، وحين يجيءُ هذا التشوّق من إبراهيم الأوّاه ، الحليم ، المؤمن ، الراضي ، الخاشع ، العابد ، القريب ، الخليل ، حين يجيءُ هذا التشوّقُ من إبرهيم ، فإنّه يكشِفُ عمّا يختلجُ أحياناً من الشوقِ والتطلّع لرؤية أسرار الصنعة الإلهية في قلوبِ أقربِ المقربين.
إنّه تشوّقٌ لا يتعلّقُ بوجودِ الإيمانِ وثباتِهِ وكمالِهِ واستقراره ، وليس طلباً للبرهانِ أو تقويةٍ للإيمان ، إنّما هو أمرٌ اخر له مذاقٌ اخر ، إنّه أمرُ الشوق الروحي إلى ملابسةِ السرِّ الإلهي ، في أثناء وقوعه العملي ، ومذاقُ هذه التجربة في الكيان البشري مذاقٌ اخر غيرُ مذاق الإيمان بالغيب ، ولو كان هو إبراهيم الخليل الذي يقول لربه ويقول له ربه ، وليس وراءَ هذا إيمانٌ ولا برهانٌ للإيمان ، ولكنّه أراد أن يرى يدَ القدرةِ وهي تعملُ ، ليحصلَ على مذاق هذه الملابسةِ فيستَرْوِحَ بها ، ويتنفّس في جوّها ، ويعيش معها ، وهي أمرٌ اخرٌ غير الإيمان الذي ليس بعده إيمانٌ.
كان إبراهيم عليه السلام إنساناً لا يعرِفُ حدّاً للشبع من المعرفة الإلهية ، كان دائمَ الطلب: هل من مزيد؟ أعطني يا ربِّ من معرفتك المزيد ، لذا ففي حديثٍ يرويه البخاريُّ ومسلم يقول: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نحن أحقُّ بالشكّ من إبراهيم»، أي بما أننا لا نشكُّ في إحياء الموتى ، فمِنَ الأَوْلى عدمُ وجودِ الشكِّ عندَ إبراهيم.
التعريضات الثلاثةُ لإبراهيم عليه السلام:
ورد في السنة النبوية ما يشيرُ ظاهرُه إلى عدم (العصمة) بحقِّ إبراهيم عليه السلام ، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لمْ يَكْذِبْ إبراهيمُ إلاّ ثلاثَ كذباتٍ: اثنتين منهنَّ في ذاتِ اللهِ ، قوله: وقوله: وقال: بينما هو {إِنِّي سَقِيمٌ * بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} يومٍ وسارةُ ، إذ أتى على جبارٍ من الجبابرة ، فقيل له: إنّ هاهنا رجلاً معه امرأةٌ من أحسن النّاس ، فأرسل إليه ، فسأله عنها: مَنْ هذهِ؟ قال: هي أختي. فأتى ، فقال لها: إنَّ الجبارَ إنْ يعلمْ أنّكِ امرأتي يَغْلِبُني عليك ، فإنْ سألكِ فأخبريه أنّك أختي ، فإنّكِ أختي في الإسلام ، ليس على وَجْه الأرضِ مؤمنٌ غيري وغيرُك ، فأرسلَ إليها ، فأتى بها ، وقام إبراهيمُ يصلّي ، فلمّا دخلت عليه ذهبَ يتناولها بيده ، فأُخِذَ ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرُّك ، فدعتَ الله فأُطلقَ ، ثم تناولها الثانية ، فأُخذ مثلها أو أشدّ ، فقال: ادعي الله ولا أضرّك ، فدعت اللهَ ، فدعا بعضَ حجبته فقال: إنّكَ لم تأتني بإنسانٍ ، إنّما أتيتني بشيطانٍ ،فأخدمَها هاجرَ ، فأتته وهو قائمٌ يصلّي ، فأومأ بيده مُهيم؟ قالت: ردّ اللهُ كيدَ الكافرِ في نحرِه ، وأخذَ هاجر» قال أبو هريرة: تلك أمكم يا بني ماء السماء.
هذا الحديث الشريف ليس فيه ما يدلُّ على عدم العصمة ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصدْ بهذه الكلماتِ الثلاثة حقيقةً معنى الكذب ، إنّما قصد أنَّ إبراهيم الخليل أخبرَ بإخباراتٍ توهِمُ الكذب في الصورة ، وهي ليست بكذبٍ في الحقيقة والواقع، وهذه هي التعريضات الثلاثة لإبراهيم عليه السلام ، وسنتناولها جميعاً لنرى الوجْهَ الحقيقيّ لعصمته بعد معرفة ماهية الحوادث.
إني سقيم:
يبين القران الكريم التعريض الأول فيقول: {وَإِنَّ مِنْ شِيْعَتِهِ لإَِبْرَاهِيمَ *إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ *إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ *أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ *فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ *فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ *فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ *فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ *} [الصافات : 83 ـ 90] كان إبراهيم عليه السلام يقصِدُ من الإشارةَ إلى السبب الرئيس لعدم شعوره {إِنِّي سَقِيمٌ *} ، كانتِ الأصنامُ مصدرَ حزنه وسقمه ، وشعرَ بأنّه ما لم يهدم هذه الأصنام ويكسرها ، فلن يجدَ طعماً للراحة ، وعندما قال لمنحوله: ظنوه مريضاً من الناحية {إِنِّي سَقِيمٌ *} ، فتولّوا عنه ، إذ كانوا يصرّون على اصطحابه معهم لمشاركتهم في احتفالهم الديني ، وما إن خرجوا من عنده حتى أسرعَ ليحطم الأصنام ، مبيناً بذلك السبب الحقيقي لسقمه ، غير أنّه استعمل في كلامه معهم تعريضاً يفهمون منه شيئاً غير مقصودِهِ الحقيقي ، ولكنّه لم ينحرف في كلامه هذا إلى الكذب أبداً ، كل ما هناك أَنَّ قومه لم يفهموا قصده الحقيقي ، وليس هذا بغريبٍ عن قومه الذين صمّوا اذانهم عن الاستماع إلى الحق.
بل فعله:
والتعويض الثاني هو: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ *إِذْ قَالَ لأِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ *قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ *قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ *قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ *قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *وَتاللَّهِ لأِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ *فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ *قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ *قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ *قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ *قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ *قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *} [الانبياء : 51 ـ 63].
فقوله: لم يكن في الحقيقة {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ، وإنّما هو نوع من الحُجّة الدامغة ، والبرهانِ الساطع أراد أن يقيمَه إبراهيمُ على قومه ، فحين سألوه مَنْ حطّم هذه الأصنام؟ أشار إلى الصنمِ الأكبرِ ، سخريةً وتهكماً بهم وبهذه الأصنام ، ثم لمّا راهم متعجّبين من كلامه أجابهم بالجواب المسكت {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ *} [الانبياء : 63].
إنك أختي:
لا توجد في التعريض الثالث ذرّةٌ من الكذب ، بل لا يمكِنُ حتى إطلاق كلمة (التعريض) على كلامه ، فهو كلامٌ صحيحٌ صادِقٌَ تمامَ الصدق ، إذ أوصى زوجته سارة أن تقول للنمرود ولرجاله إن سألوها (إنني أخته) ولو سألوا إبراهيم عليه السلام عنها لقال: إنها أختي ، ذلك لأنَّ إبراهيم عليه السلام لو قال: إنّها زوجته لامتدت أيديهم بالأذى والسوء إليها ، ولوقع هو وزوجته في ضيق شديد ، وربّما اضطر إلى ترك تلك البلاد ، والرحيل عنها ، غير أنّ ما قاله إبراهيم عليه السلام مطابِقٌ للحقيقة ، ذلك لأنَّ جميع المؤمنين إخوة كما يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات : 10].
والإيمانُ هو الرباط الأول الذي يربط الإنسان بالاخرين ، واختلاف الزمان والمكان لا يكونُ حائلاً بين أخوة الإيمان ، والمؤمنون والمؤمنات إخوة فيما بينهم دونَ أيّ تفرقة بين ذكر وأثنى ، أمّا نقاط التقارب الأخرى فتأتي بعد هذه الأخوة، فإن قام مؤمنٌ بتطليق زوجته، انقطعت رابطة الزوجية فيما بينهما، ولكنَّ رابطة الإيمان تبقى موجودةً ، فإبراهيم عليه السلام أشار إلى هذه العلاقة ، وإلى هذه الرابطة ، وقال عن زوجته: إنّها أخته ، وهذه الكلمة تفيد عينَ الحقيقة.
استغفاره لأبيه:
لمّا أصرّ والد إبراهيم عليه السلام على كفره ، وردّ عليه دعوته بغلظةٍ وفظاظةٍ ، ردّ عليه إبراهيم عليه السلام بحلمٍ وهدوءٍ ، ووعده أن يستغفرَ الله له ، قال تعالى: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي ياإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا *قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *} [مريم : 46 ـ 47].
واستغفار إبراهيم لأبيه مبنيٌّ على إيمانه بالله ، أي: إنْ امنَ أبوه طلبَ من الله أن يغفر له ، أمّا إن لم يؤمن ، وأصرّ على كفره ، فلن يغفِرَ الله له ، لأنَّ إبراهيم عليه السلام يعلمُ أنّ الله لا يغفِرُ لإنسانٍ كافرٍ بالله ، ماتَ على كفره وشركه ، فهذه مسألة اعتقادية جاء بها جميعُ الرسل ، ويعلمُها جميعُ الرسل ، إذن لا يُلامُ إبراهيم على استغفاره لأبيه ، لأنَّ استغفاره له مشروط بالإيمان ، كأنّه باستغفاره يقول: اللهم إنْ امنَ أبي فاغفر له ، وقد أخبرنا الله عن استغفاره لأبيه في قوله تعالى: {وَاغْفِرْ لأِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ *} [الشعراء : 86].
ولكنّ أباه لم يؤمن ، وأصرّ على كفره ، عند ذلك لم يستمرّ إبراهيم عليه السلام في استغفاره له ، وإنّما تبرأ منه ، وقطع صلته به ، وايات القران في هذه صريحةٌ ، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ *وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَِبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ *} [التوبة : 113 ـ 114].
وحتى لا يستشهدَ أحدُهم بفعل إبراهيم عليه السلام ، وحتّى لا يستغفرَ لقريبه الكافر مقتدياً بإبراهيم في استغفاره لأبيه ، فقد وضّحت الايةُ ملابساتِ ذلك: والمعنى: استغفرَ إبراهيمُ عليه السلام لأبيه بسبب الوعد الذي وعد {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَِبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} ، حيث وعد أباه أن يستغفرَ له ، وذلك في قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا *} [مريم : 47] وعندما تبيّن له حقيقة موقف أبيه تبرّأَ منه: لقد تبرّأَ إبراهيمُ من أبيه في {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ *} ، وأظهرَ عداوته له ولقومه.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf