عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: (2)
الحلقة: السابعة عشر
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
خلاف الأولى والأحسن والأفضل:
الرسول صلى الله عليه وسلم محفوظ بعناية الله ، محاط برعايته ، فلا يمكن أن تقعَ له مخالفة لأمر الله ، أو يرتكب ذنباً يستحقّ عليه العقوبة ، ولكنّه صلى الله عليه وسلم قد يجتهدُ فيفعل خلافَ الأولى والأفضل والأحسن ، فيعاتبه ربه ، وليس هذا من قبيل الذنب والمعصية ، وإنما هو من قبيل التنبيه إلى فعل الأكمل والأفضل.
وإليك بعضُ النصوص الكريمة التي ورد فيها العتابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أ ـ عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن أسرى بدر:
قال ابن عباس: ولما أسروا الأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى؟».
فقال أبو بكر: يا نبي الله ، هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذَ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى اللهُ أن يهديهم للإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب»؟ قلت: لا ، والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنِّي أرى أن تمكنّا فنضربَ أعناقهم ، فتمكِّنَ علياً من عقيلٍ فيضربَ عنقه ، وتمكنُّني من فلانٍ (نسيباً لعمر) فأضربَ عنقه ، فإنّ هؤلاء أئمةُ الكفرِ وصناديدُه.
فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ، ولم يهوَ ما قلتُ (يعني ما قاله عمر).
فلمّا كان من الغدِ جئتُ ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان. قلت:
يا رسولَ الله ، أخبرني من أيِّ شيء تبكي أنتَ وصاحبُكَ ، فإنْ وجدتُ بكاءً بكيتُ ، وإن لم أجدْ تباكيتُ لبكائكما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عَرضَ عليّ أصحابُكَ من أخذهم الفداءَ ، لقد عُرِضَ عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرة (شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عز وجل قول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ } إلى قوله: فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً} فأحلّ الله الغنيمةَ لهم ِ ُ].
وفي رواية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يومُ بدرٍ ، وجيء بالأسرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟».
فقال أبو بكر: يا رسول الله ، قومُكَ وأهلُكَ ، استبقهم ، واستأنِ بهم ، لعلّ الله أنْ يتوبَ عليهم.
وقال عمر: يا رسول الله ، كذّبوك وأخرجوك ، قرّبهم فاضربْ أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ، انظر وادياً كثيرَ الحطب ، فأدخلهم فيه ، ثم أضرمْ عليهم ناراً.
قال: فقال العباس: قطعتَ رحِمَك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يردَّ عليهم شيئاً.
فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناسٌ: يأخذ بقول عمر ، وقال ناس: يأخذُ بقول عبد الله بن رواحة.
قال: فخرجَ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنَّ الله ليُليِّنُ قلوبَ رجالٍ فيه حتى تكونَ ألينَ من اللبن ، وإنّ الله ليُشَدِّدُ قلوب رجالٍ فيه حتى تكونَ أشدَّ من الحجارة ، وإنَّ مثلكَ يا أبا بكر مثل إبراهيمَ عليه السلام حيث قال: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [ابراهيم : 36]. وإنّ مثلكَ يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [المائدة : 118] وإن مثلك يا عمرُ كمثل موسى ، قال: {وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ *} [يونس : 88].
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتمُ اليومَ عالةً فلا ينفلتنَّ أحدٌ منهم إلا بفداءٍ أو ضربِ عُنُقٍ».
وأما الايات التي نزلت بشأن الأسرى ، فقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ *لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ *} [الانفال : 67 ـ 71].
لقد كان هذا العتاب توجيهاً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأفضل والأولى والأصحّ والأصوب لهم في تلك الحادثة.
والحقيقة أنّ التحذيرَ الواردَ هنا ، والدرسَ المرادَ تلقينه هو للمسلمين جميعاً ، أمّا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لم يكن له من قبلُ ، ولن يكون له من بعدُ أيَّ ميلٍ للدنيا ، فهذا التحذيرُ موجَّهٌ للمسلمين في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكي يعتبروا ، ويستفيدوا من التوجيه الإلهي.
وما أجمل ما قاله ابن القيم حول هذه المسألة: وقد تكلّم الناسُ في أيِّ الرأيين كان أصوب: فرجحتْ طائفةٌ قول أبي بكر ، لاستقرار الأمر عليه ، وموافقته الكتاب الذي سيق من الله بإحلال ذلك لهم ، ولموافقته الرحمة التي سبقت الغضبَ ، ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى عليهما السلام ، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى عليهما السلام ، ولحصول الخير العظيم الذي حصل بإسلام أكثر أولئك الأسرى ، ولخروج من خرجَ من أصلابهم من المسلمين ، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء ، ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولاً ، ولموافقة الله له اخراً ، حيث استقرّ الأمر على رأيه ، ولكمال نظر الصديق ، فإنه رأى ما يستقرّ عليه حكم الله اخراً ، وغلب جانب الرحمة على جانب العقوبة.
قالوا: وأمّا بكاءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإنّما كان رحمةً لنزول العذاب بمن أراد بذلك عرض الدنيا ، ولم يُرد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ، وإن أراده بعضُ الصحابة ، فالفتنةُ كانت تعُمّ ولا تصيبُ من أراد ذلك خاصة.
ب ـ إذنُ الرسول صلى الله عليه وسلم المتخلّفين عن غزوة تبوك:
قال تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ *} [التوبة : 43].
لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك استأذنه بعضُ المنافقين في التخلّف ، لأعذار أبدوها ، فأذنَ لهم فيه لسببين:
أحدهما: أنّ الله لم يقدّم إليه في ذلك أمراً ولا نهياً.
ثانيهما: أنّه لم يرد أن يجبرهم على الخروج معه ، فقد يكون في خروجهم على غير إرادتهم ضررٌ.
فأنزل الله تعالى يبيّن له أنَّ تركَ الإذنِ لهم كان أولى ، لما يترتّب عليه من انكشافِ الصادقِ من الكاذبِ ، فيما أبدوه من الأعذار ، واستفتح ربُّ العزّةِ ما أنزله بجملةٍ دعائية هي قوله: على عادةِ العرب في استفتاح كلامهم بهذهِ {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} ، أو بقولهم: (غفر الله لك) ، أو (جعلت فداك) ، أو نحوها يقصدون تكريمَ المخاطب ، إذ كان عظيمَ القدر ، ولا يقصدون المعنى الوصفيَّ للجملة، ولو بدأ ربُّ العزة حبيبه ومصطفاه بقوله: لخيفَ عليه أن ينشقَّ قلبُه من هيبة هذا {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، لكنّ الله تعالى برحمته أخبره بالعفو حتى سكن قلبه ، ثم قال له: بالتخلف حتى يتبيّنَ لك الصادقُ في عذره من الكاذب؟ وفي هذا بيانٌ لعظيم منزلته عند {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ، مما لا يخفى على ذي لب.
ومن إكرامه إياه ، وبرّه به ، ما ينقطع دون معرفة غايته نياط القلب ، فليتأمّل كلُّ مسلمٍ هذه الملاطفةَ العجيبة في السؤال من ربِّ العالمين ، المنعم على الكلِّ ، المستغني عن الجميع ، ويستثير ما فيها من الفوائد ، وكيف ابتدأ بالإكرام قبل العتب ، وهل سمعتم بمعاتبةٍ أحسنَ من هذا إن كان ثَمَّ عتبٌ ، وأنس العفو قبل ذكر الذنب إن كان ثَمَّ ذنب ، وهكذا في أثناء عتبه براءته ، وفي طيِّ تخويفه تأمينه وكرامته، إن قوله تعالى: غايةٌ {لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} يمكِنُ أن يدعى فيها أن تكون دالةً على أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأَوْلى والأفضل ، وقد بينتُ أنَّ ترك الأولى ليس بذنب.
ج ـ عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن عبد الله بن أم مكتوم:
أجمع المفسرون والأخباريون على أنّ مطلع سورة (عبس) نزل عتاباً من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم لموقفه من الصحابي عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه ، ومطلعُ السورة النازلُ في تلك الحادثة هي قوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى *وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى *أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى *أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى *وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى *كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ *فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ *فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ *مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ *بِأَيْدِي سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ *} [عبس : 1 ـ 16].
أتى عبدُ الله بن أم مكتوم النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام ، والعبّاس بن عبد المطلب ، وأبي بن خلف ، وأمية بن خلف ، ويدعوهم إلى الله تعالى ، ويرجو إسلامهم ، فقال له ابن أم مكتوم: يا رسول الله ، علّمني ممّا علمك الله ، وجعل يناديه ، ويكرّرُ النداء ، ولا يدري أنّه مشتغِلٌ مقبِلٌ على غيره ، حتى ظهرت الكراهيةُ في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، فعبسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعرضَ عنه ، وأقبل على القوم الذين يكلّمهم ، فأنزل الله تعالى هذه الايات ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك يكرِمُه ، وإذا راه يقول: «مرحباً بِمَنْ عاتبني فيه ربي».
فأنتَ ترى من سبب النزول أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مشغولاً مع رؤساء قريش ، وكان يحرصُ على دعوتهم ، لأنهم إذا أسلموا أسلم بإسلامهم الناسُ ، وقد جاءه هذا الأعمى في وقت كان صلى الله عليه وسلم مشغولاً فيه ، فترك إجابته لما هو ـ في نظره ـ أهمّ وأعظم ، فعاتبه الله على هذا ، وبيّن له ما هو الأفضل والأحسن.
د ـ ثبات الرسول صلى الله عليه وسلم أمام مساومات الكفار:
إنّ الله هو الذي ثبّتَ الرسول صلى الله عليه وسلم على الحقِّ ، وجعله يواجه مساوماتٍ وإغراءاتٍ وعروض الكافرين بمزيدٍ من الثبات ، وقد امتنَّ الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق ، وأخبره أنه لولا فضله عليه بذلك التثبيت لاستجاب للمشركين ، فقال له: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً *إِذًا لأََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا *وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَ يَلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إِلاَّ قَلِيلاً *سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً *}[الإسراء: 73 ـ 77].
وقد أحسن محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره للايات فقال: ولولا أنْ عصمناك من الخطأ في الاجتهاد ، وأريناك أنّ مصلحة الشدّة في الدين ، والتنويه باتباعه ـ ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا ـ لا تعارضُها مصلحةُ تأليفِ قلوب المشركين ، فإنّ إظهارَ الهوادةِ في أمر الدّين تطمعُ المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعدُ مدًى مما سألوه ، فمصلحةُ ملازمةِ موقفِ الحزمِ معهم أرجحُ من مصلحةِ ملاينتهم وموافقتهم ، ولولا ذلك كله كدتَ تركنُ إليهم قليلاً ، أن تميلَ إليهم ، أي: تعدهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك ، استناداً لدليل مصلحةٍ مرجوحةٍ واضحةٍ ، وغفلة عن مصلحة راجحةٍ خفيةٍ ، واغتراراً بخفة بعض ما سألوه في جانب عظيم ما وعدوا به من إيمانهم.
وركون الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم غيرُ واقع ، ولا مقاربُ الوقوع ، وقد نفته الايةُ بأربع أمور هي: (لولا) الامتناعية ، وفعل المقاربة (كاد) المقتضي أنه ما كان يقعُ الركون ، ولكن يقع الاقترابُ منه ، والتحقير المستفاد من كلمة (شيئاً) والتقليل المستفاد من كلمة (قليلاً) ، أي: لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخيف أن تقتربَ من ركونٍ ضعيفٍ قليل ، ولكنَّ ذلك لم يقع ، ودخلت (قد) في حيّزِ الامتناع فأصبح تحقيقها {ولَوْلاَ} ، أي: لولا أن ثبتناك لتحقق قربُ ميلك القليل ، ولكنّ ذلك لم يقع ، لأنّا ثبتناك.
لقد أخبر الله تعالى عن تأييده لرسوله صلى الله عليه وسلم وتثبيته ، وعصمته وسلامته من شرّ الأشرار وكيدِ الفجار ، وأنّه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنّه لا يكله إلى أحدٍ من خلقه ، بل هو وليُّه ، وحافظه ، وناصره ، ومؤيده ، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه في مشارق الأرض ومغاربها.
هـ قال تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ *} [يونس : 94].
فهذه الايةُ الكريمةُ ليس فيها ما يدلُّ على شك الرسول صلى الله عليه وسلم في الوحي الذي نزل عليه ، وإنّما هو من باب (الفرض والتقدير) كما هو عادةُ العربِ في تقدير الشك ليبنَى عليه ما ينفي احتمال وقوعه ، كما تقول لابنك: (إن كنت ابني فلا تكن بخيلاً) ومعنى الاية على هذا التقدير: إنْ وقع منك يا محمد شكٌ ـ فرضاً وتقديراً ـ فيما قصصنا عليك من أخبار الأنبياء السابقين كنوحٍ وإبراهيمَ ، فسأل علماءُ أهل الكتاب الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ، فإنّهم على علم من ذلك ، فالغرضُ وصفُ الأحبار بالعلم ، لا وصفُ النبيِّ بالشك والريب ، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: لا واللهِ ما شكَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفةَ عينٍ ، ولا سأل أحداً منهم.
و ـ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *} [الاحزاب : 1 ـ 2].
فإنّ هذا النصّ الكريم ليس فيه ما يدلَّ على وقوع الذنب من الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنّما هو خطابٌ للأمة توجّه إلى القائد والزعيم في صورة الخطاب له صلى الله عليه وسلم ، والمراد به أمته ، كما يقول الملك لقائد جيشه: (لا تتسامحْ مع العدو ، وقاتلهم حتى يخضعوا لحكمك ، وينقادوا لأمرك ، ولا تقتل طفلاً ولا امرأة ولا شيخاً كبيراً ، ولا تُظْهِرْ أمام عدوك الخوفَ والفزعَ إلى اخر ما يأمر به) فهو يخاطب القائد ، والمراد به الجند ، وينبّه الزعيمَ ، والمرادُ به الأمة ، والدليل أنَّ المقصود بالخطاب هو الأمة لا شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أنَّ الله تعالى ختم الاياتِ الكريمة بصيغة الجمع: ولم يقل: بما {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا *} ، فهو مثل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق : 1]. هي خطابٌ للأمة في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا حملنا الخطابَ على الرسول صلى الله عليه وسلم فليس فيه ما يدلّ على أنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم همّ بطاعة الكافرين والمنافقين ، أو فعل معصية حتى أمره الله تعالى بالتقوى ، وإنّما غايةُ ما في الأمر أنَّ الله تعالى حذّره من مكر الكافرين ، وخداع المنافقين ، وأطلعه على خبيئةِ نفوسهم ، ليكونَ الرسول صلى الله عليه وسلم منهم على حذرٍ ، ولئلا ينخدع بمعسول كلامهم.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب :
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي