حقوق النبي (صلى الله عليه وسلم)
الحلقة: الحادية والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020
1 ـ الإيمان به :
هو تصديقه ، وطاعاته ، واتّباع شريعته، وهذه الأمور هي الركائز التي يقوم عليها الإيمان بالنبي .
وعن بيان هذه الأمور المطلوبة عند الإيمان به بالنبي . قال العلماء:
أ ـ أما تصديقه فيتعلّق به أمران عظيمان:
أحدهما: إثباتُ نبوته ، وصدقه فيما بلّغه عن الله ، وهذا مختصٌّ به .
ويندرج تحت هذا الإثبات والتصديق عدّةُ أمورٍ منها:
* الإيمانُ بعموم رسالته إلى كافة الثقلين إنسهم وجنهم.
* الإيمان بكونه خاتم النبيين ، ورسالته خاتمة الرسالات.
* الإيمان بكون رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.
* الإيمان بأنه قد بلغ الرسالة ، وأكملها ، وأدّى الأمانة ، ونصح لأمته حتى تركهم على بيضاء ليلها كنهارها.
* الإيمان بعظمته.
* الإيمان بماله من حقوق ، كما سيأتي تفصيلُها بإذن الله.
ب ـ تصديقُه فيما جاء به ، وأنَّ ما جاء به من عند الله حقٌّ يجبُ اتباعه ، وهذا يجب عليه وعلى كلِّ أحد.
فيجب تصديقُ النبيِّ في جميع ما أخبر به عن الله عز وجل ، من أنباء ما قد سبق وأخبار ما سيأتي ، وفيما أحلّ من حلال ، وحرّم من حرام ، والإيمان بأنّ ذلك كله من عند الله عز وجل ، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *} [النجم : 3 ـ 4].
ويجب على كلّ أحدٍ أن يؤمنَ بما جاء به الرسول إيماناً مُجملاً ، ولا ريبَ أنَّ معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرضٌ على الكفاية.
ب ـ طاعته واتباع شريعته:
إنّ الإيمان بالرسول كما يتضمّن تصديقه فيما جاء به ، فهو يتضمّن كذلك
العزم على العمل بما جاء به ، وهذه هي الركيزةُ الثانيةُ من ركائز الإيمان به ، وهي تعني: الانقياد له ، وذلك بفعل ما أمر به ، واجتناب ما نهى عنه وزجر ، امتثالاً لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7].
2 ـ وجوب طاعة النبي ولزوم سنته ، والمحافظة عليها:
إنَّ الايات الواردة في الأمر بطاعة النبي واتباعه والاقتداء به ، جاءت في مواطنَ متعددة من القران الكريم ، واتّصفت تلك الايات بتنوع أساليبها ، وتعدّد صيغها مع اتحادها جميعاً في الأمر بالاقتداء بالنبي وطاعته في جميع ما جاء
به من شرائع وأحكام من عند الله عز وجل، ويمكن تقسيمُها على حسب ما اتّحدت به في السياق على النحو التالي:
أ ـ الايات التي جاء فيها الأمر بطاعته:
ومن تلك الايات:
قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : 80].
وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ *} [ال عمران: 132].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *} [النور : 52].
وقال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا *} [الاحزاب : 71].
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ *} [ال عمران: 32].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا *} [الفتح : 17].
ب ـ وفي ايات أخر يأمر الله سبحانه بطاعته وطاعة رسوله ، مع إعادة الفعل ، وفي ذلك إشارةٌ إلى أنّ ما يأمرُ به رسول الله تجبُ طاعته فيه ، وإن لم يكن مأموراً به بعينه في كلام الله ، الذي هو القران ، فتجبُ طاعةُ الرسول مفردةً ،
كما تجب مقرونةً بأمره سبحانه ، ومن هذه الايات:
قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ *} [محمد : 33].
وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [المائدة : 92].
وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [النور : 54].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء : 59].
وفي هذه الاية أمر تعالى بطاعته، وطاعة رسوله ، وأعاد الفعل إعلاماً بأنّ طاعة الرسول تجب استقلالاً من غير عرض ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً ، سواء كان ما أمرَ به في الكتاب أو لم يكن فيه ، فإنّه أوتي الكتاب ومثله معه، لقوله : «ألا أني أوتيت الكتاب ومثله معه».
ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً ، بل حذف الفعلَ ، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول ، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول ، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ، ومن أمر منهم بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمعَ له ولا طاعة ، كما صحّ عنه أنه قال: «لا طاعة في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف»، وقال : «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحبّ أو كره، إلا أنْ يؤمر بمعصية ، فلا سمع ولا طاعة».
وفي قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ *} [النور : 54].
فقد أخبر تعالى في هذه الاية أنّ الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها ، فإنه معلّق بالشرط ، فينتفي بانتفائه.. وهذا من الأحكام التي ترتبت على شروط وعلقت ، فلا وجودَ لها بدون شروطها إذا ما علّق على الشرط ، فهو عدم عند عدمه ، وإلا لم يكن شرطاً له ، وإذا ثبت هذا ، فالاية نصٌّ في انتفاء الهداية عند عدم طاعته.
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} ، والمعنى: أنّه قد حمل أداء الرسالة وتبليغها ، وحملتم طاعته ، والانقياد له ، والتسليم.
ج ـ الايات التي جاء فيها الأمر باتباعه والتأسي به والأخذ بما شرعه:
فقد جاء الأمر من الله تبارك وتعالى باتباع رسوله والتأسي به في مواطن متعددة كما في كتابه العزيز.
قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [ال عمران: 31].
ففي هذه الايةُ الأولى جعل الله الاتّباع سبيلاً إلى نيل حبّه ، ووسيلةً إلى تحقيق رضاه ، وحصول غفرانه ، إذ باتّباع الرسول يحصلُ حبُّ الله تعالى ورضاه ومثوبته ، فالخير كلّ الخير في اتّباعه ، والشرّ كلّ الشرّ في مخالفته والابتعاد عن سنته ، فالاتّباع هو دليل المحبّة وبرهانها ، وبتحقّقه تكون المحبّة التي هي إحدى ثمراته ، كما قال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ، كما أنّ من ثمراته غفران الذنوب ، كما جاء في هذه الاية نفسها {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}
وهذه المنزلةُ والمكانةُ لاتّباع الرسول نابعةٌ من كون هذا الاتباع إنّما هو في الحقيقة اتباع لله ، إذ الرسول إنّما جاء لهذا الدين من عند الله عز وجل ، فهو شرعُ الله ودينه الذي أوحاه لرسوله ليبلغه للعباد ، فالرسول إنّما هو مبلّغ عن الله ، ولم يأتِ بشيء من عند نفسه ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} [الكهف : 110]. وقال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة : 285].
ومن الايات التي جاء فيها الأمرُ بالتأسّي به واتباعه قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *} [الاعراف : 158].
جاء الأمر بالاتباع عقب الأمرِ بالإيمان تأكيداً على وجوب اتباع النبي ، وإلا فإنّ الاتباع داخل في الإيمان ، ولكن أفرد بالذكر هنا تنبيهاً على أهميته وعظيم منزلته.
وقال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر : 7]. فهذه الاية أوجبت الاتّباع المطلق للنبي ، فما أمر به من شيء ، فإن علينا فعله ، وما نهى عن شيء ، فإنّ علينا تركه واجتنابه ، فهو لا يأمر إلا بخير ، ولا ينهى إلا عن شر.
وفي هذا الاتّباع والانقياد حياتنا وفلاحنا ، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ *} [الانفال : 24].
إذ الحياةُ الحقيقية الطيّبة هي حياةُ مَنِ استجابَ لله ولرسوله ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات، وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكملُ الناس حياة أكملَهم استجابةً لدعوة الرسول ، فإنّ كلّ ما دعا إليه ففيه الحياة ، فمن فاته جزءٌ منه فاته جزءٌ من الحياة ، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
ولقد أعقب هذا الأمرَ بالاستجابة تحذيرَ مَنْ تركَ الاستجابة له ، أو تثاقل وتباطأ عنها ، فقال تعالى: والمعنى: أنكم إن تثاقلتم عن {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ، وأبطأتم عنها ، فلا تأمنوا أنّ الله يحول بينكم وبين قلوبكم ، فلا يمكنكم بعد ذلك من الاستجابة عقوبة لكم بعد وضوح الحق واستبانته.
وأما قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *} [الاحزاب : 21].
فقد جعل الله تبارك وتعالى من رسوله الأسوة والقدوة ليحتذيَ به الخلقُ في أقواله وأفعاله ، وجميع ما جاء به النبي ، قال ابن كثير: هذه الاية الكريمة أصلٌ كبيرٌ في التأسّي برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله.
د ـ الايات التي جاء فيها التسليم لحكمه والانقياد له:
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء : 65].
يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة المقدّسة أنّه لا يؤمن أحدٌ حتى يحكِّمَ الرسول في جميع الأمور ، فما حَكَمَ به فهو الحقُّ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ، ولهذا قال تعالى: {ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا *} [النساء : 65] ، أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم ، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمتَ به ، وينقادون له في الظاهر والباطن ، فيسلّمون لك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة.
وهذه الايةُ ينبغي لكلِّ مسلم أن يعرض نفسه عليها ومتى أراد العبدُ أن يعلم ـ قبوله لحكم الرسول والتسليم له ـ فلينظرْ في حاله ، ويطالعْ قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه ، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها: {بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ *وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ *} [القيامة : 14 ـ 15].
فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص بودّهم أنْ لو لم ترد؟ وكم من حزازة في أكبادهم منها؟ وكم من شجًى في حلوقهم منها ومن موردها؟ ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.
ومن الايات التي جاءت في وجوب التسليم لحكمه ، والانقياد له ، قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [النور : 51]. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [الاحزاب : 36].
وأمّا الأحاديث النبوية في حَثِّ الأمة على طاعة رسول الله وامتثال أمره ، واتباع ما جاء به ، فهي كثيرةٌ منها:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: «كلُّ أمتي يدخلونَ الجنَّةَ إلا مَنْ أبى» قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخلَ الجنَّة ، ومن عصاني فقد أبى».
وقال رسول الله : «من أطاعني فقد أطاعَ الله ، ومن عصاني فقد عصى الله».
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: «ما مِنْ نبيٍّ بعثَه
اللهُ في أُمةٍ قبلي إلاّ كان له من أُمّته حواريون وأصحاب ، يأخذون بسنّته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنّها تخلف من بعدهم خلوفٌ يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، ومن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبةُ خردلٍ».
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءَ ثلاثةُ رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي ، فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها ، فقالوا: وأينَ نحنُ من النبيِّ ، وقد غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر؟! قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلِّي الليل أبداً. وقال اخر: أنا أصومُ الدهرَ ولا أفطرُ. وقال اخر: أنا أعتزِلُ النساءَ فلا أتزوّجُ أبداً.
فجاء رسول الله فقال: «أنتم الذين قلتُم كذا وكذا؟ أما واللهِ أنِّي أخشاكم للهِ وأتقاكم له ، ولكنِّي أصومُ وأُفْطِرُ ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ ، وأتزوّجُ النساءَ ، فَمَنْ رَغِبَ عن سنّتي فليسَ مني».
وقد رسم النبي في هذا الحديث ركيزتين أساسيتين في هذا الدين هما: الاتباع ، وترك الابتداع.
وقد بيّن الرسول مواقفَ الناسِ من الأخذ بدعوته واتّباع سنته ، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبيّ أنه قال: «إنّ مثلَ ما بعثني الله به عزّ وجلّ من الهُدى والعلم كمثل غيثٍ أصابَ أرضاً ، فكانت منها طائفةٌ طيبةٌ قبلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأَ والعشبَ الكثيرَ ، وكان منها أجادِبُ أمسكتِ الماءَ ، فنفع الله منها الناسَ ، فشربوا منها ، وسُقوا ، وزرَعوا ، وأصابَ طائفةً منها أُخرى ، إنّما هي قِيعانٌ لا تمسِكُ ماءً ، ولا تُنْبِتُ كلأً ، فذلك مَثَلُ مَنْ فَقِه في دينِ اللهِ ، ونفعه الله به فعلِمَ وعَلَّمَ ، ومثل مَنْ لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسلتُ به».
وفي هذا الحديث قسّم النبيُّ الناسَ ـ فيما يتّصل بدعوته ـ إلى ثلاث أقسام ، وشبّه العِلْمَ الذي جاء به بالغيث ، لأنّ كلاً منهما سبب الحياة ، فالغيثُ سببُ حياة الأبدان ، والعلمُ سببُ حياة القلوب ، وشبّه القلوبَ بالأودية كما قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد : 17] كما أنّ الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث.
إحداها: أرضٌ زكية، قابلةٌ للشراب والنبات ، فإذا أصابها الغيثُ ارتوتْ ، ومنه يثمِرُ النبتَ من كلِّ زوجٍ بهيجٍ ، فذلِكَ مَثَلُ القلبِ الزكي الذكي ، فهو يَقْبَلُ العلمَ بذكائه ، فيثمِرُ فيه وجوه الحِكَمِ ودين الحق بزكائه ، فهو قابِلٌ للعلم بذكائه ، ويثمِرُ فيه وجوهَ الحكم والدين بزكائه ، فهو قابِلٌ للعلمِ مثمرٌ لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.
والثانية: أرضٌ صلبةٌ قابلةٌ لثبوتِ ما فيها وحفظه ، فهذه تنفعُ الناسَ لورودها والسقي منها ، والازدراع وهو مثل القلب الحافظ للعلم ، الذي يحفظه كما سمعه دون في تصرّف فيه ، ولا استنباط ، بل للحفظِ المجرّدِ فهو يؤدّي كما سمع ، وهو مِنَ القسم الذي قال فيه النبيُّ : «فَربَّ حامِلِ فقهٍ إلى مَنْ هو أفقه منه ، وربَّ حامِلِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ».
فالأول: كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجاراتِ ، فهو يكسب بماله ما شاء.
والثاني: مثل الغني الذي لا خبرةَ له بوجوه الربح والمكسب ، ولكنّه حافِظٌ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه.
والأرض الثالثة: أرضٌ قاعٌ ، وهو المستوى الذي لا يقبلُ النباتَ ، ولا يمسِكُ ماءً ، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنفع منه بشيءٍ.
فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية ، وإنّما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ ، وهو مثلُ الفقيرِ الذي لا مال له ، ولا يحسن يمسك مالاً.
فالأول: عالمٌ معلّمٌ ، وداع إلى الله على بصيرةٍ ، فهذا من ورثةِ العلم.
والثاني: حافظٌ مؤدٍّ لما سمعه ، فهذا يحمِلُ لغيره ما يتّجِرُ به المحمولُ إليه ويستثمر.
والثالث: لا هذا ولا هذا ، فهو الذي لم يقبل هدى الله ، ولم يرفع به رأساً فاستوعب هذا الحديثُ أقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان: قسم سعيد ، وقسم شقي.
هـ الأدلة من القران الكريم على التحذير من معصية الرسول وحكم من خالفه:
ورد التحذيرُ من معصية الرسول في مواطنَ عدّة من القران الكريم ، وقد جاء التحذيرُ مصحوباً بالوعيد الشديد لذلك المخالف العاصي ومن تلك المواطن.
قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [النور : 63].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ *} [النساء : 14].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً *} [النساء : 36].
وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *} [الجن : 23].
وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الانفال : 13].
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ *} [التوبة : 63].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَآدُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ *} [المجادلة : 20].
كما أنّ كلَّ من أعرضَ عن حكم الرسول ولم ينقد له ، ولم يرضَ به إلاّ إذا كان موافقاً لهواه ، فهو محكومٌ عليه بالنفاق بنصِّ القران الكريم.
قال تعالى: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا *} [النساء : 60 ـ 61].
وقال تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ *وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [النور : 48 ـ 51].
فمن سمةِ المنافقين أنّهم لا يتحاكمون لشرع الله ، إلاّ إذا كان الحقّ في صفّهم ، وحكم الشرع لصالحهم ، أمّا إذا كان الأمرُ على خلافِ ذلك ، فلا ترى منهم سوى الإعراضِ عن شرع الله المتمثّل في كتاب الله وسنة نبيه . وأمّا أهل الإيمان الذين ترسّخَ في قلوبهم الإيمانُ بشرع الله اعتقاداً بالقلبِ ، وقولاً باللسان ، وعملاً بالجوارح ، فإنّ من صفاتهم وعلاماتهم تحاكمهم لكتاب الله وسنة رسول الله في جميع أحوالهم وشؤونهم مع الرضى والتسليم لذلك الحكم سواء كان لهم أم عليهم ، ولذلك فقد وصف الله أهل الإيمان بالفلاح، فقال تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} بينما وصفَ أهلَ النفاقِ بالظلم حيث تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf