الجمعة

1446-06-26

|

2024-12-27

وجوب تعزير وتوقير وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم

الحلقة: الثالثة والخمسون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

ذو الحجة 1441 ه/ أغسطس 2020


ومعنى التعزير: اسمٌ جامع لنصره وتأييده ، ومنعه من كل ما يؤذيه.
ومعنى التوقير: اسم جامع لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام ، وأن يعامَل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حدّ الوقار.
ومعنى التعظيم: التبجيل ، وقد استخدمه العلماء في كلامهم عند هذه المسألة ، وذلك لقربه في المعنى إلى ذهن السامع ، ولتأديته للمعنى المراد من لفظتي (التعزير) و(التوقير).
إنّ تعظيمَ النبي صلى الله عليه وسلم وإجلالَه وتوقيرَه شعبةٌ عظيمةٌ من شعب الإيمان ، وهذه الشعبةُ غير شعبة المحبة ، بل إنَّ منزلتها ورتبتَها فوقَ منزلة ورتبة المحبة ، ذلك لأنّه ليس كلُّ محبِّ معظِّماً ، ألا ترى أنّ الوالد يحبُّ ولده ، ولكن حبه إياه يدعوه إلى تكريمه ، ولا يدعوه إلى تعظيمه ، والولد يحب والده فيجمع بين التكريم والتعظيم ، فعلمنا بذلك أنَّ التعظيم رتبته فوق رتبة المحبة.
ومن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن يُهابَ ويعظَّم ويوقّر أكثر من كل ولد لوالده ، ومن كل عبد لسيده ، فهذا حق من حقوقه الواجبة. وهو ما أمر الله به في كتابه العزيز قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح : 9]. وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الاعراف : 157].
وفي القران الكريم ايات كثيرة جاء فيها التأكيد على هذا الحق من حقوقه صلى الله عليه وسلم وبخاصة في جوانب معينة من جوانب تعظيمه ، ومن تلك الايات ما يلي:
أ ـ قوله تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63]. ففي هذه الاية نهي من الله أن يدعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلظة وجفاء ، وأمرهم أن يدعوه بلين وتواضع، وأمرهم أن يفخّموه ويشرّفوه.
فقد خص الله نبيه في هذه الاية بالمخاطبة بما يليق به ، فنهى أن يقولوا: يا محمد أو يا أحمد ، أو يا أبا القاسم ، ولكن ليقولوا: يا رسول الله ، يا نبي الله ، وكيف لا يخاطبونه بذلك ، والله سبحانه أكرمه في مخاطبته إياه بما لم يكرمْ به أحداً من الأنبياء ، فلم يدعُه باسمه في القران قط بل يقول: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الاحزاب : 28]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة : 67].
ب ـ وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ *إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [الحجرات : 1 ـ 5].
ج ـ وقال تعالى: {مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} التوبة : 120].
د ـ وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً *} [الاحزاب : 57].
هـ وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا *} [الاحزاب : 53].
و ـ وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [النور: 62 ـ 63].
فهذه الايات تبيّنُ لنا حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنّه أجلّ وأعظمُ وأكرمُ وألزمُ لنا وأوجبُ علينا من حقوق الاباء على أولادهم ، لأنّ الله أنقذنا به من النار في الاخرة ، وعصم به لنا أرواحنا وأبداننا وأعراضنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا في العاجلة ، فهدانا به لأمر إن أطعناه كانت طاعته سبباً في دخول جنات النعيم ، فأيُّ نعمة توازي هذه النعم؟! وأية مِنّةٍ تداني هذه المنن؟! فحقٌّ علينا إذن أن نحبّه ونجلّه ونعظّمه ونهابه ، فبهذا نكون من المفلحين: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *} [الأعراف: 157].
فالاية بيّنت أنّ الفلاح إنّما يكون لمن جمع إلى الإيمان به تعزيره ولا خلاف أن التعزير هنا التعظيم ، فلقد سجل الله في هذه الاية الفلاح بأسلوب الحصر للذين تأدّبوا بهذا الأدب القراني الرفيع ، وكما قال تعالى في الإناطة بمقامه الأشرف ، وبيان حقه على كل مؤمن ومؤمنة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 8 ـ 9] ، راجع إلىرسول الله صلى الله عليه وسلم وتفخموه في أدب
المخاطبة ، والتحدث إليه ومجالسته، فالتسبيحُ لله وحده ، والتعزيرُ والتوقيرُ للرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بالله ورسله.
فهذه الايات وغيرُها نزلت لتبيّن مقامَ شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند ربه ، مما يوجِبُ على المؤمنين برسالته أن يكونوا في مخاطبتهم معه على سنن الإجلال والتعظيم.
ومما يدل على عظيم قدره ، ورفعة مكانته عند ربه ، الخصائص التي أمتنّ الله بها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، والتي تدلل على تشريف الله عز وجل وتكريمه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد أكرم الله نبينا محمد بخصائص في الدنيا والاخرة دلّت على علو قدره ، ورفعة مكانته ، وسموّ منزلته عند الخالق تبارك وتعالى ، فقد قال تعالى في محكم تنزيله: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا *} [النساء : 113].
ففي هذه الاية يمتنُّ الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بما أسبغَ عليه من الفضائل ، التي هي المناقب والمراتب التي أعطاه الله إياه ، وميّزه بها على بقية أنبيائه ، فالله سبحانه فضّل بعض الرسل على بعض ، فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة : 253].
فكان لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم النصيبُ الأوفر من هذا الفضل ، فقد خصّه الله وميّزه بخصائص ومناقب دنيوية وأخروية ، فُضِّلَ بها على سائر الأنبياء ، ومَنْ سواهم من البشر.
ومن هذه الخصائص على وجه الاختصار:
أ ـ أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسول عليهم الصلاة والسلام:
من الأمور التي تدل على عظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه ما أخذ الله من العهد له صلى الله عليه وسلم على جميعِ الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على أنّه لو بُعِثَ صلى الله عليه وسلم وهم أحياء
أو أحدٌ منهم ، فإنّه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه.
قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ *} [ال عمران: 81].
ب ـ أنه صلى الله عليه وسلم أكثرُ الأنبياء تبعاً:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِنْ نبيٍّ إلا أُعْطِيَ من الايات ما مِثْلُهُ امنَ عليه البشرُ ، وإنّما كان الذي أُوْتِيْتُه وَحْياً أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعاً يوم القيامة».
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثرُ الأنبياء تبعاً يوم القيامة».
ج ـ أنّ قرنه صلى الله عليه وسلم خيرُ قرون بني ادم كما أنه خير قرون أمته والقرون التي تلي قرنه صلى الله عليه وسلم:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بُعِثْتُ من خيرِ قرونِ بني ادم قرناً فقرناً حتى كنتُ من القرنِ الذي كنتُ فيه».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم».
د ـ أن الله تعالى أخبره أنه غَفَرَ له ما تقدّمَ من ذنبه وما تأخّرَ وهو حيٌّ صحيحٌ يمشي على الأرض:
قال تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً *لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا *وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا *} [الفتح : 1 ـ 3].
هـ أن الله رفع له ذكره:
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ *} [الشرح : 4].
فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه ، ولا تصحُّ للأمة خطبةٌ ولا تشهّدٌ حتى يشهدوا أنّه عبده ورسوله ، وأوجب ذكره في كل خطبة ، وفي الشهادتين اللتين هي عمادُ الدين ، إلى غير ذلك من المواضع.
و ـ أن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ *} [الحجر : 72].
والإقسامُ بحياة المقسَم بحياته يدلُّ على شرف حياته ، وعزتها عند المقسم بها ، وأنّ حياته صلى الله عليه وسلم لجديرةٌ أن يقسَمَ بها لما فيها من البركة العامة والخاصة ، ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم.
ـ أن الله وقره في ندائه ، فناداه بأحبِّ أسمائه وأحسنِ أوصافه ، فقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ}:
وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره ، بل ثبت أنَّ كلا منهم نودي باسمه ، فقال تعالى: {يَازَكَريَا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} [مريم : 7] ، {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم : 12] ، {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص : 26]. {يَاآدَمُ اسْكُنْ} [البقرة : 35]. {يانُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ} [هود : 48]. {يالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} [هود : 81].
فمن دُعِيَ بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه.
ح ـ أنّ الله أمرَ الأمةَ بأن لا تناديه باسمه ، بل تناديه يا رسول الله ، يا نبي الله:
قال تعالى: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [النور : 63].
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير عند تفسيرها كانوا يقولون: يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يقولوا: يا نبي الله ، يا رسول الله.
ط ـ أن الله نهى الأمة أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم ولا يجهروا له بالقول ، كما هو الحال بين الناس ، حتى لا تحبطَ أعمالهم:
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *} [الحجرات : 2].
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابتَ بن قيس ، فقال رجلٌ: يا رسول الله أنا أعلمُ لك عِلْمَه ، فأتاه ، فوجده جالساً في بيته منكِّساً رأسَه ، فقال له ما شأنك؟.
فقال: شر. كان يرفعُ صوته فوقَ صوت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد حبط عمله ، وهو من أهل النار ، فأتى الرجلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره أنّه قال كذا وكذا ، فقال موسى ، فرجع إليه المرة الاخرة ببشارةٍ عظيمة ، فقال: «اذهب إليه فقل له: إنكَ لستَ من أهل النار ، ولكنّك من أهلِ الجنَّة».
قال عبد الله بن الزبير بن العوام: ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاية حتى يستفهمه.
ي ـ أن الله أمرَ الأمةَ بأنهم إذا أرادوا أن يناجوه صلى الله عليه وسلم بأن يقدّموا بين يدي نجواهم صدقةً ، ثم نسخ ذلك ، وأمرهم بالطاعة:
قال تعالى: {تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المجادلة : 12 ـ 13].
ك ـ ما وهبه الله له من المعجزات التي تميزت عن معجزات من قبله من الأنبياء:
فمعجزة سيد الأولين والاخرين هي القران العظيم ، الباقي إلى يوم الدين ، الذي لا تنضبُ معانيه ، ولا تفنى عجائبه ، ولا تنقطع فوائده ، وهو المحفوظ ـ بحفظ الله له ـ من التغيير والتبديل والتحريف ، فيه دواء وشفاء ، ومواعظ وأحكام ، فيه خبرُ مَنْ سبقنا ، وأحوالُ منْ بعدنا ، وهو حبلُ الله المتين ، مَنْ امن به واتبعه رشد ، ومن تركه وضلّ عنه غوى وهلك ، وخاب وخسر ، فهو المعجزة الخالدة الباقية ما بقي الإنسان في هذه الدنيا ، بينما تصرّمت وانقرضت معجزاتُ مَنْ قبله من الأنبياء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ نبيِّ إلا أُعْطِيَ من الاياتِ ما مِثْلُهُ امنَ عليه البشرُ ، وإنّما كان الذي أوتيته وحياً أوحى الله لي ، فأرجو أن أكونَ أكثرَهم تابعاً يوم القيامة».
وكذلك فقد وجد من معجزاته ما هو أظهرُ في الإعجاز من معجزات غيره ، كتفجير الماء بين أصبعيه صلى الله عليه وسلم ، فهو أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر ، لأن جنس الأحجار ممّا يتفجر منه الماء ، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم أبلغُ من انفجار الماء من الحجر لموسى عليه الصلاة والسلام.
وعيسى عليه السلام أبرأ الأكمه مع بقاء عينه في مقرها ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ العين بعد أن سالت على الخدِّ ، ففيه معجزة من وجهين: إحداهما: التئامها بعد سيلانها. والأخرى: ردُّ البصر إليها بعد فقده منها.
فعن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه عن جده قتادة أنه أُصيبتْ عينُه يومَ أُحدٍ فسالت حدقتُه على وجنته ، فأرادوا أن يقطعوها ، فسألوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لا». فدعا به ، فغمز عينه براحته ، فكان لا يَدرِي أيّ عينيه أصيبتْ.
والأمثلة في هذا الباب كثيرة وقد تطرّق إليها مَنْ كتب في (الدلائل) و(الخصائص).
قال الشافعي: ما أعطى الله نبياً ما أَعطى محمّداً صلى الله عليه وسلم.
وقال السيوطي: قال العلماء: ما أوتي نبيٌّ معجزة ولا فضيلة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم نظيرها أو أعظم منها.
ل ـ أنه سيد ولد ادم يوم القيامة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيدُ ولدِ ادم يوم القيامة ، وأوّلُ من يَنْشَقُّ عنه القبر ، وأوّلُ شافعٍ وأوّلُ مشفّع».
وسيادة النبي صلى الله عليه وسلم للناس يوم القيامة تظهر واضحة جلية بما سيناله من الشرف العظيم يوم القيامة ، وعلى رأس ذلك الشرفِ شفاعتُه في أهل الموقف ، واختصاصه بذلك من بين الأنبياء والرسل.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنّا مع النبي صلى الله عليه وسلم في دعوةٍ ، فرُفعت إليه الذراعُ ـ وكانت تُعْجِبُه ـ فنهسَ منها نهسةً ، قال: «أنا سيد الناسِ يومَ القيامة ، هل تدرون بمن يجمع الله الأولين والاخرين في صعيد واحد فيبصرهم الناظر ، ويسمعهم الداعي ، وتدنو منهم الشمس ، فيقول بعض الناس: ألا ترون ما أنتم فيه إلى ما أبلغكم؟! ألا تنظرون إلى من شفع لكم إلى ربكم؟!.
فيقول بعض الناس: أبوكم ادم ، فيأتونه فيقولون: يا ادم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك مِنْ روحه ، وأمر الملائكةَ فسجدوا لك ، وأسكنك الجنة ، ألا تشفع لنا إلى ربك؟! ألا ترى ما نحن فيه ما بلغنا؟!.
فيقول: ربي غَضِبَ غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، ونهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وسمّاك الله عبداً شكوراً ، أما ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما بلغنا؟! ألا تشفع لنا إلى ربك؟.
فيقول: ربي غضبَ اليومَ غضباً لم يغضبْ قبله مثله ، ولا يغضبُ بعده مثله ، نفسي نفسي ، حتى ينتهوا إلى عيسى عليه السلام فيقول لهم: ائتوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيأتوني ، فأسجدُ تحت العرش ، فيقال: يا محمدُ ارفع رأسك ، واشفع تشفَّع ، وسل تعطى».
واشتمل الحديث كذلك على خصيصة أخرى تدلُّ على تخصيصه وتفضيله صلى الله عليه وسلم، وهي كونه أول شافع ، وأول مشفّع ، فهذا أمرٌ خص الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم ، إذ جعله الشفيع يوم المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده ، وهو المقام المحمود الذي لا يليقُ إلا له ، والذي يحيدُ عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه ، فيكون هو المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.
وقد اتفق المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم أعظمُ الخلق جاهاً عند الله ، ولا جاه لمخلوق عند الله أعظمُ من جاهه ، ولا شفاعة أعظمُ من شفاعته.
م ـ أن الله جعل لواء الحمد بيد النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة:
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيّدُ الناس يوم القيامة ولا فخرَ ، ما مِنْ أحدٍ إلا هو تحت لوائي يوم القيامة ينتظِرُ الفرجَ ، وإن معي لواءَ الحمد ، أنا أمشي ويمشي الناس معي ، حتى اتي باب الجنة ، فأستفتح ، فيقال: من هذا؟ فأقول محمد ، فيقال: مرحباً بمحمد ، فإذا رأيتُ ربي خررت له ساجداً أنظر إليه».
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد ادم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذٍ ادمَ فمن سواه ، إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشقُّ عنه الأرض ولا فخر».
فهذه الخصيصةُ وغيرُها من الخصائص تدلُّ على علوِّ مرتبته صلى الله عليه وسلم ، وعلوّ منزلته ، إذ لا معنى للتفضيل إلا التخصيص بالمناقب والمراتب.
ن ـ أنه أول من يجوز على الصراط ، وأول من يقرع باب الجنة ، وأول من يدخلها:
وهذه الأمور مما خُصَّ به النبي صلى الله عليه وسلم عن باقي الأنبياء السابقين ، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الطويل قال: إن ناساً قالوا: يا رسول الله ، هل نرى ربنا يوم القيامة؟... وفيه «يضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، فأكونُ أول من يجوزُ من الرسلِ بأمته».
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ، وأنا أول من يقرعُ بابَ الجنة».
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتي باب الجنة يومَ القيامة فأستفتحُ ، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد ، فيقول: بك أُمرتُ لا أفتح لأحدٍ قبلك».

يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book94(1).pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022