صفة النار
الحلقة: الثانية والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
1 ـ أبواب النار:
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ *لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ *﴾ [الحجر: 43 ـ 44] .
وعندما يردُ الكفّار النارَ تفتّح الأبوابُ، ثم يدخلونها خالدين، قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى﴾ [الزمر: 71]، وبعد هـذا الإقرار يقال لهم ﴿قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ *﴾ [الزمر: 72] .
وهـذه الأبواب تغلقُ على المجرمين، فلا مطمَعَ لهم في الخروج منها بعد ذلك، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ *﴾ [البلد: 19 ـ 20] ومؤصدة: مغلقة الأبواب، فأبوابُ النار مؤصدةٌ مغلَقةٌ، وأسوارُها ذاتُ عمدٍ ممدودةٍ طويلةٍ، لا يمكِنُ تخطّيها، ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ *فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ *﴾ [الهمزة: 8 ـ 9].
2 ـ دركات النار:
قال تعالى: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾ [النساء: 145] والدَّرْك: هو أقصى قَعْرُ الشيء، وقال الراغب: (الدرك) كالدرج، لـكن الدرج يقال اعتباراً بالصعود، والدرك اعتباراً بالحدور، ولهـذا قيل: درجاتُ الجنةِ ودركاتُ النار، وقد يطلَقُ على منازِل النار درجاتٍ، كقوله تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ *﴾ [آل عمران: 163] .
وفي سورة الأنعام ذكر الله أهل الجنة والنار ثم قال: وقال سبحانه: ﴿كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ *﴾ [آل عمران: 162 ـ 163] .
وتتفاوتُ دركاتُ أهل النار بحسب أعمالهم وسيئاتهم، وقد بيّنا أنَّ الله عز وجل ذكر أنَّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وكونهم في الدرك الأسفل يستلزِمُ أنّهم في أشدِّ العذاب، وليست هـذه الدركةُ مختصةً بالمنافقين فقط بل معهم غيرهم، فقد ذكر الله تعالى لنا ثلاثة أصنافٍ من الناس أنّهم في أشدِّ العذاب .
الصنف الأول: فرعون وقومه، قال تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ *﴾ [غافر: 46] .
الصنف الثاني: اليهودُ الذين امنوا ببعض الكتاب، وكفروا ببعضه، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *﴾ [البقرة: 85] .
الصنف الثالث: الذين كفروا من أصحاب المائدة، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ *قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ *قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأَِوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ *قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ *﴾ [المائدة: 112 ـ 115] .
وأمّا أهونُ أهل النار عذاباً فهو رجلٌ ينتعِلُ بنعلين يغلي منهما دماغه، فعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله (ﷺ) قال: « إنَّ أدنى أهلِ النارِ عذاباً ينتعلُ بنعلينِ من نارٍ، يغلي دماغهُ من حرارةِ نعليه » .
3 ـ وَقودُ النار:
وَقودُ النار، البشر والحجر، قال تعال: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ *﴾ [البقرة: 24] . وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ *﴾ [آل عمران: 10] وقال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ *﴾ [الأنبياء: 98] وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ *﴾ [التحريم: 6] .
4 ـ شدّةُ حرِّها وعظِمُ دخانها وشرارها:
قال تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ *وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ *لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ *﴾ [الواقعة: 41 ـ 44] وقد تضمّنتْ هـذه الآية ذكر ما يتبرّد به الناسُ في الدنيا في الكرب والحر، وهو ثلاثة: الماء، والهواء، والظل، وذكرت الآية أنَّ هـذه لا تغني عن أهل النار شيئاً، فهواء جهنم السَّموم، وهو الريحُ الحارّةُ الشديدةُ الحر، وماؤها الحميمُ، الذي قد اشتدّ حرَّه، وظلّها اليحموم، وهو قِطعُ دخانها . والظلُّ الذي أشارت إليه الآية ﴿وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ *﴾ [الواقعة: 43] هو ظلُّ دخانِ النارِ، والظلُّ يُشْعِرُ عادةً بالنداوةِ والبرودةِ، كما أنَّ النفسَ تحبُّه وتستريحُ إليه، أمّا هـذا الظلُّ فإنّه ليس باردَ المدخلِ ولا بكريم المنظر، إنّه ظلٌّ من يحموم .
وقد حدّثنا القرآن في هـذا الظل الذي هو دخان جهنم الذي يعلو النار، فقال: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ *لاَ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ *إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ *كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ *﴾ [المرسلات: 30 ـ 33] فالآية تقرّرُ أنَّ الدخانَ الذي يتصاعدُ من هـذه النار لفخامته ينقسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ: وهو يلقي ظلالاً ولكنّها غيرُ ظليلةٍ، ولا تقي من اللهب المشتعل . أما شرارُ هـذه النار المتطاير منها فإنّه يشبه الحصونَ الضخمةَ، كما يشبه هـذا الشرارُ الجمالَ الصفر، أي الإبلَ السود .
وقال الحقُّ مبيناً قوّة هـذه النار، ومدى تأثيرها في المعذبين: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ *﴾ [المدثر: 27 30] إنّها تأكل كلَّ شيءٍ، وتدمِّرُ كلَّ شيءٍ، لا تبقي ولا تذر، تحرقُ الجلودَ، وتصلُ إلى العظامِ، وتصهرُ ما في البطون، وتطّلع على الأفئدة .
وقد أخبرنا الرسول (ﷺ): « أنّ نارنا جزءٌ من سبعينَ جزءاً من نار جهنم » قيل: يا رسول الله إنْ كانت لكافيةٌ، قال: « فُضِّلَتْ عليها بتسعينَ جزءاً، كلهنَّ مثلُ حَرِّها ».
وعندما تسقبِلُ النارُ أهلَها يوم القيامة تسعّر، قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ *﴾ [التكوير: 12] ومعنى سُعِّرت: أُوقدت، وأحميت.
5 ـ النار تتكلّم وتبصر وتغضب:
الذي يقرأُ النصوصَ من الكتاب والسنة التي تصفُ نار جهنم يجدُها مخلوقاً يتكلّم ويبصر ويغضبُ :
أمّا كلامها فيقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ *﴾ [ق: 30] .
وأما رؤيتُها للناسِ، فيقول تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سعيرا * اذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا﴾ [الفرقان: 11 12] فقوله: ﴿رَأَتْهُمْ﴾ يدل على أنها تبصِرُ، وقوله: ﴿سَمِعُوا لَهَا﴾ يدلُّ على أنها تتكلم.
وأما غضبها فيقول سبحانه: ﴿إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ *تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ *﴾ [الملك: 7 ـ 8] وقال تعالى: ﴿إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا*﴾ [الفرقان: 12] فهي تشهقُ وتزفُرُ من غيظها على الكافرين، بل تكادُ تتميّزُ ـ أي تتقطع ـ من شدّةِ عضبها عليهم .
6 ـ وديان النار:
سمّى الله تعالى بعضَ أسماءِ هـذه الأودية، وهي التالية :
أ ـ وداي الويل: قال تعالى: ﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ *﴾ [الأنبياء: 18] وقال تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ *يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ*﴾ [الهمزة: 1 ـ 3] وعن أبي سعيد عن رسول الله (ﷺ) أنه قال: «ويلٌ وادٍ في جهنَّم يهوي فيه الكافِرُ أربعينَ خريفاً قبل أن يبلغَ قعرَهُ، والصَّعُوْدُ جبلٌ من نارٍ يُصْعَدُ فيه سبعينَ خريفاً ،ثم يهوي فيه كذلك منه أبداً» .
ب ـ وادي الغي: قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا *﴾ [مريم: 59] قال ابن مسعود رضي الله عنه في تفسيره قوله: هو وادٍ في جهنم يُقْذَفُ فيه الذين اتبعوا الشهوات.
وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: ( الغي ) وادٍ في جهنم بعيدُ القعرِ، منتنُ الريح، وهـذا لا يقالُ من قبل الرأي، فله حكم الرفع.
ج ـ وادي المَوْبق: قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا *﴾ [الكهف: 52] قال أنس بن مالك في قوله تعالى: وادٍ من قَيْحٍ ودَمٍ.
7 ـ جبال النار:
قال تعالى: ﴿سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *﴾ [المدثر: 17] قال ابن عباس في تفسير هـذه الآية: جبلٌ في جهنم .
8 ـ سرادق النار:
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا*﴾ [الكهف: 29] السرادِقُ: كلُّ ما أحاطَ بشيءٍ من حائطٍ أو مضربٍ أو خباءٍ. وقال رسولُ اللهِ (ﷺ): « لسرادقِ النارِ أربعُ جُدُرٍ كُثُفٍ، كلُّ جدارٍ مثل مسيرة أربعينَ سنة »، وهـذا السورُ له أعمدةٌ ممدودةٌ طويلةٌ كما قال تعالى: ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ *فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ*﴾ [الهمزة: 8 ـ 9] .
9 ـ سعةُ النارِ، وبُعد قعرها، وعظم عمقها:
وتدلُّ على ذلك أمورٌ كثيرة منها:
أ ـ أنّ مِنْ أسماءِ النارِ الهاويةُ: أي يُهوَى بها لبُعْدِ قعرِها ،عن أبي هريرةَ قال: كُنّا مع رسولِ اللهِ (ﷺ) إذ سمعَ وجبةً، فقال النبيُّ (ﷺ): « تدرونَ ما هـذا؟» قال: قلنا: الله ورسولُه أعلم . قال: « هـذا حَجَرٌ رُمِيَ به في النَّارِ منذُ سبعينَ خريفاً، فهو يهوي في النارِ الانَ حتّى انتهى إلى قعرها».
ب ـ أنّ الكافرَ يكبُرُ حجمُه في النارِ: قال رسول الله (ﷺ): « ضِرْسُ الكافرِ أو نابُ الكافرِ مثلُ أحُدٍ، وغِلَظُ جلدِهِ مسيرةُ ثلاثٍ » .
والذين يدخلونَ النارَ أعدادٌ لا تحُصى، ومع العدد الهائلِ من الناس وبهـذا الحج الكبير للكفار فإنّها لا تمتلىء، بل تطلبُ المزيد، قال تعالى: ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ *﴾ [ ق: 30 ] .
ج ـ ويدلُّ على عظمها أيضاً كثرةُ الذين يجرونها من الملائكة: فقد فسّر النبيُّ(ﷺ) قوله تعالى: ﴿وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى *﴾ [الفجر: 23] بأنّ الذين يجيئون بها ملائكةٌ، قال رسول الله: «يؤتَى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمامٍ مع كلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرّونها» .
10 ـ وصف عذاب النار:
إنّ الذي يتأمل ويتدبّر في القرآن الكريم يجدُ في آيات كثيرة أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصفَ عذابَ الحياةِ الآخرة، بأوصافٍ كثيرةٍ متنوّعةٍ، مما يدلُّ على عظمة عذابها وشدته، فمن هـذه الأوصاف :
أ ـ أنّه أشقُّ وأشدُّ: قال تعالى: ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ *﴾ [الرعد: 34] . وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وَأَبْقَى *﴾ [طـه: 127] .
ب ـ غرام: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا *﴾ [الفرقان: 65] والغرامُ: اللازمُ الدائمُ، ومنه سمِّيَ الغريمُ لملازمته، ويقال: فلانٌ مغرمٌ بكذا، أي: ملازمٌ له ومولَعُ به، هـذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى :
إنْ يعاقِبْ يكنْ غراماً وإنْ يُعْـ
ـطِ جَزِيلاً فإنّهُ لا يُبَالِي[
ج ـ العذاب المهين: قال تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ *﴾ [البقرة: 90] وقوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ *﴾ لمّا كان كفرُهم سبَبَه البغي ، منشأ ذلك التكبر، قوبلوا بالإهانة والصَّغارِ في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين﴾ [غافر: 60] . أي صاغرينَ حقيرينَ ذليلينَ راغمينَ .
د ـ العذاب الأخزى: ومن أوصافِ عذاب الآخرة أنّه عذاب أخزى، قال تعالى: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَخْزَى وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ *﴾ [فصلت: 16] وقال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ﴾ [آل عمران: 192] .
هـ العذاب العظيم: قال تعالى: ﴿وَلاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ*﴾ [آل عمران: 176] .
و ـ العذاب السيء: ومن أوصاف عذاب الآخرة أنه العذاب السيء، الشديد النكاية، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ *﴾ [الزمر: 24] وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ *﴾ [الزمر: 47] .
ز ـ العذاب الأكبر: قال تعالى: ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ *فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ [الزمر: 25 ـ 26] وقال تعالى: ﴿كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ [القلم: 33] وقال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ *إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ *فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ*﴾ [الغاشية: 21 ـ 24] .
11 ـ كيفية دخول أهل النار إلى جهنم:
فصّل الله تعالى كيفيةَ دخول أهل النار إلى جهنم، وبيّن ذلك في كثير من الآيات، فقد أمر الله تعالى الملائكةَ أن تقيّدَ وتغلَّ الكافر، قال تعالى: ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *﴾ [الحاقة: 30] الغُلُّ: هو ما يُقَيَّدُ به، وهـذا القيدُ يكون في عنقه كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*﴾ [الرعد: 5] وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *﴾ [سبأ: 33] . وهـذه الأغلالُ عبارةٌ عن سلاسل من الحديد، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ *إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ *فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ *﴾ [غافر: 70 ـ 72] ثم تجمعُ الملائكة نواصيهم مع أقدامهم: ﴿يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ *﴾ [الرحمـن: 41] عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «يُجْمَعُ بينَ رأسِهِ ورجليه، ثم يُقْصَفُ كما يُقْصَفُ الحطبُ» . ثم يساقون إلى النار سوقاً شديداً، ويدفعون إليها دفعاً ﴿يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا *هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ*﴾ [الطور: 13 ـ 14] والدعُّ: الدفع الشديد .
ثم إذا اقتربوا منها فُتِحَت أبوابُها في وجوههم بغتةً حتّى يصيبَهم عذابُ الفزع، قال تعالى: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ *﴾ [الزمر: 71] ثم يُلْقُون فيها إلقاء من مكان ضيق، وهم مكتّفون، قال تعالى: ﴿وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا*﴾ [الفرقان: 13] مقرنين أي مشدودين ومربوطين .
وهـذا الربط بالأصفاد هي الأغلال ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ *﴾ [إبراهيم: 49] وهـذا الإلقاءُ إنّما يكونُ على وجوههم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ*﴾ [النمل: 90]ثم يُلْقَى بعضُهم على بعضٍ، قال تعالى: ﴿فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ *وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ *﴾ [الشعراء: 94 ـ 95] كُبكبوا: ألقي بعضُهم على بعضٍ . ثم تبدأُ بعد ذلك سلسلةٌ طويلٌ من أنواع العذاب وأصناف النكال وألوان الالام.
12 ـ أوّل من تسعّر بهم النار يوم القيامة:
قال رسول الله (ﷺ): «إنَّ أوّلَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامة عليه، رجلٌ اسُتْشِهدَ فأُتِي به، فعرّفه نعمه فعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استشهدتُ، قال: كذبتَ، ولكنّك قاتلتَ لأنْ يقالَ جريءٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه حتّى أُلْقِيَ في النَّارِ .
ورجلٌ تعلّمَ العِلْمَ وعلَّمه، وقرأَ القرآن، فأُتِيَ به، فعرّفه نعمه فعرَفها، قال: فما عملتَ؟ قال: تعلّمتُ العلمَ وعلّمتهُ، وقرأتُ فيكَ القرآن، قال: كذبتَ، ولكنّكَ تعلّمتَ العلم ليُقالَ عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقالَ قارىٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، حتى أُلقِيَ في النَّارِ .
ورجلٌ وسَّعَ اللهُ عليهِ، وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كله، فأُتِي به فعرّفه نعمهَ فَعَرَفَهَا، قال: فما عملتَ فيها ؟ قال: ما تركتُ مِنْ سبيلٍ تحبُ أن يُنْفَقَ فيها إلاّ أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنّكَ فعلتَ ليُقالَ هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهِهِ، ثم أُلْقِيَ في النَّارِ ».
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي