الإثنين

1446-07-13

|

2025-1-13

درجات الجنة
الحلقة: الثالثة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
 
الجنةُ درجاتٌ متفاضلاتٌ تفاضلاً عظيماً، وأولياءُ الله المتقون في تلك الدرجات بحسب إيمانهم وتقواهم، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ﴾ [طـه: 75] .
وقال تبارك وتعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاَهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا *كُلاًّ نُمِدُّ هَؤُلاَءِ وَهَؤُلاَءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا *انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً *﴾ [الإسراء: 18 ـ 21] فبيّن الله سبحانه وتعالى أنه يمدُّ من يريدُ الدنيا ومن يريدُ الآخرة من عطائه، وأنَّ عطاءَه ما كان محظوراً من بَرٍّ ولا فاجر، ثم قال: ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً *﴾ فبيَّن الله سبحانه أنّ أهل الآخرة يتفاضلون فيها أكثر مما يتفاضل الناسُ في الدنيا، وأن درجات الآخرة أكبر من درجات الدنيا.
وتفاضلُ أنبيائه عليهم السلام كتفاضل سائر عباده المؤمنين، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيْسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253] وقال تعالى: ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ *﴾ [آل عمران: 163] .
وهـذه الدرجات تختلف باختلاف العمل، فكلّما كان عملُ الإنسانِ أكثرَ، وموافقاً للسنة، كان أجرُه أكثرَ، ودرجتهُ في الجنة أعلى، قال تعالى: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ *﴾ [الأحقاف: 19] .
وأهلُ الدرجاتِ العالياتِ يكونون في نعيمٍ أرقى من الذين دونهم، فقد ذكر الله أنّه أعدَّ للذين يخافون جنتين: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *﴾ [الرحمـن: 46] ووصفهما ثم قال: ﴿وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ *﴾ [الرحمـن: 62] أي دونَ تلك الجنتين في المقام والمرتبة، ومن تأمّلَ صفاتِ الجنتين اللتين ذكرهما الله اخراً، علم أنّهما دون الأُوليينِ في الفضل، فالأُوليان للمقربين، والآخريان لأصحاب اليمين، قال القرطبيُّ: لمّا وصفَ الجنتين أشار إلى الفرق بينهما .
فقال في الأُوليين: ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ *﴾ [الرحمـن: 50] وقال في الآخريين: ﴿فِيهِمَا *﴾ [الرحمـن: 66] أي فوّارتان بالماء، ولكنّهما ليستا كالجاريتين، لأنَّ النضخَ دون الجري .
وقال في الأُوليينِ: ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ *﴾ [الرحمـن: 52] معروفٌ وغريبٌ، رطبٌ ويابسٌ، فَعَمَّ ولم يخصّ، وفي الآخريينِ: ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ *﴾ [الرحمـن: 68] ولم يقل مِنْ كلِّ فاكهة زوجان .
وقال في الأُوليين: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ﴾ [الرحمـن: 54] وهو الديباج . وقال في الآخريين: ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ *﴾ [الرحمـن: 76]، والعبقريُّ الوشيُ، ولا شكَّ أنَّ الديباجَ أعلى من الوشي، والرَفْرَفُ كَسْرُ الخِباء، ولاشكَّ أنَّ الفُرُشَ المعدّة للاتكاء فيها أفضلُ من الخباء
وقال في الأُوليين في صفة الحور العين: ﴿كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ *﴾ [الرحمـن: 58] وفي الآخريين: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ *﴾ [الرحمـن: 70] وليس كلُّ حُسْنٍ كحُسْنِ الياقوت والمرجان .
وقال في الأُوليين: ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ *﴾ [الرحمـن: 48] وفي الآخريين: ﴿مُدْهَآمَّتَانِ*﴾ [الرحمـن: 64] أي خضروان كأنّهما من شِدّة خضرتهما سوداوان
ووصف الأُوليينِ بكثرة الأغصان، والآخريينِ بالخضرة وحدها.
وقد بيّنَ رسولُ الله (ﷺ) درجاتِ الجنة، فقال (ﷺ): « إنّ أهلَ الجنّةِ يتراءونَ أهلَ الغُرَفِ مِنْ فوقهم، كما تتراءَونَ الكوكبَ الدُّرِيَّ الغابِرَ في الأُفقِ مِنَ المَشرِقِ أو المَغْرِبِ لتفاضُلِ ما بينهم »، قالوا: يا رسولَ اللهِ، تلكَ منازِلُ الأنبياءِ لا يبلغُها غيرهم؟ قال: «بلى، والذي نفسِي بيدِهِ رجالٌ امنوا باللهِ وصدّقوا المرسلين ».
وأعلى درجاتُ الجنّةِ هي الفردوسِ الأعلى، وقد ذكرها الله سبحانه في كتابه في قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*﴾ [المؤمنون: 10 ـ 11] وبيّن الرسولُ (ﷺ) منزلةَ هـذه الدرجة، فقال(ﷺ): « مَنْ امنَ باللهِ ورسولِه، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كانَ حقّاً على اللهِ أن يدخلَهُ الجنَّة، هاجرَ في سبيلِ اللهِ، أو جلسَ في أرضِهِ التي وُلِدَ فيها »، قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشّرُ الناس ؟ قال: « إنّ في الجنَّةِ مئةُ درجةٍ أعدَّها اللهُ للمجاهدينَ في سبيلهِ ما بينَ الدرجتينِ كما بينَ السماءِ والأرضِ، فإذا سألتُم اللهَ فاسألوه الفردوسَ، فإنّه أوسطُ الجنّةِ، وأعلى الجنّةِ، وفوقَهُ عرشُ الرحمنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجنّةِ ».
والمقصودُ بـ ( وسط الجنة ) أي عرضاً، و( أعلى الجنة ) أي طولاً، فهـذا يدلُّ على أنّ الفردوسَ على مثلِ الربوةِ أو القُبّةِ، ويدل أن الجنة مقببة . قال ابن كثير: ولا تكون هـذه الصفة إلا في المقبب، فإن أعلى القبة هو أوسطها، فالجنة والله أعلم كذلك.
وأعلى درجاتُ الفردوسِ هي الوسيلةُ، وهي منزلةٌ لشخصٍ واحدٍ فقط هو نبيُّنا محمد (ﷺ)، فعن عبدِ اللهِ بن عمروِ بنِ العاص أنّه سمعَ النبيَّ (ﷺ) يقولُ: « إذا سمعتُم المؤذِّن فقالوا مثلَ ما يقولُ، ثم صلُّوا عليَّ، فإنَّه مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلّى اللهُ بِهَا عَشْراً، ثُمَّ سَلُوا الله ليَ الوسيلةَ، فإنَّها منزلةٌ في الجنَّةِ لا تنبغي إلاّ لعبدٍ من عبادِ اللهِ، وأرجو أنْ أكونَ أنا هُوَ، فَمنْ سألَ لِيَ الوسيلةَ حَلَّتْ له الشَّفَاعَةُ » .
 
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022