الإيمان باليوم الآخر:
(فضلُ نعيم الجنةِ على متاعِ الدنيا)
الحلقة: السادسة والخمسون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
محرم 1442 ه/ سبتمبر 2020
قارن المولى عزّ وجلّ بين متاع الدنيا ونعيم الجنة، وبيّن أنَّ نعيمَ الجنّةِ خيرٌ من الدُّنيا وأفضل، وأطال في ذمِّ الدنيا وبيان الآخرة، وما ذلك إلا ليجتهد العبادُ في طلب الآخرة، ونيل نعيمها، ونجدُ ذَمَّ الدنيا ومدحَ نعيم الآخرة، وتفضيلَ ما عند الله على متاع الدنيا القريب العاجل في مواضع، قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى *﴾ [طـه: 131] . وقال في موضع ثانٍ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: 14 ـ 15] .
وسِرُّ أفضليةِ نعيم الآخرة على متاع الدنيا من وجوهٍ منها:
1 ـ متاع الدنيا قليل:
قال تعالى: ﴿الْقِتَالَ لَوْلاَ أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخرة خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً *﴾ [النساء: 77] .
وقد صور لنا الرسول (ﷺ) قِلّةَ متاعِ الدنيا بالنسبةِ إلى نعيم الآخرة بمثالٍ ضربه فقال: « واللهِ ما الدُّنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعلُ أحدُكم أصبعَه هذِهِ ـ وأشار بالسبابة ـ في اليَمِّ . فلينظرْ بِمَ تَرْجِعُ ». مالذي تأخذُهُ الأصبعُ إذا غُمِسَتْ في البحرِ الخِضَمِّ، إنّها لا تأخذُ منه قطرة، هـذه هي نسبةُ الدنيا إلى الآخرة .
ولما كان متاع الدنيا قليل، فقد عاتبَ الله المؤثرين لمتاع الدنيا على نعيم الآخرة، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرة فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ *﴾ [التوبة: 38]
2 ـ هو أفضلُ من حيث النوع:
قال تعالى: ﴿وَالآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَى *﴾ [الأعلى: 17] ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى*﴾ [طـه: 131] فثيابُ أهلِ الجنّةِ وطعامُهم وشرابُهم وحليِّهم وقصورُهم أفضلُ مما في الدنيا، قال تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا *﴾ [الإنسان: 20] بل لا وجهَ للمقارنة، فإنّ موضعَ السوطِ في الجنّة خيرٌ من الدنيا وما فيها، فعن سهلِ بن سعدِ الساعديِّ قال: قال رسول الله (ﷺ): «موضعُ سوطٍ في الجنّةِ خيرٌ من الدنيا وما فيها»، وقال رسول الله (ﷺ): «لغدوةٌ أو روحةٌ في سبيلِ اللهِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها» .
وقارن نساء أهل الجنة بنساءِ الدنيا لتعلمَ فَضْلَ ما في الجنة على ما في الدنيا، عن أنس بن مالك عن النبيِّ (ﷺ): « لروحةٌ في سبيلِ اللهِ أو غدوةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقابُ قوسِ أحدِكم من الجنّةِ أو موضعُ قيدِ ـ يعني سوطه ـ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولو أنَّ امرأةً مِنْ أهلِ الجنّةِ اطّلعتْ إلى أهلِ الأرضِ لأضاءتْ ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصِيْفُها على رأسِهَا خيرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها » .
وقال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ *﴾ [الزخرف: 70]: أي تفرحون، والفرح في القلب.
3 ـ الجنةُ خاليةٌ من شوائبِ الدُّنيا وكدرها:
فطعام أهل الدنيا وشرابُهم يلزمُ منه الغائط والبول والروائح الكريهة، وإذا شربَ المرءُ خمر الدنيا فقد عقلَه، ونساءُ الدُّنيا يحضنَ ويلدنَ، والحيضُ أذًى، والجنةُ خاليةٌ من ذلك كله، فأهلها لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يبصقون، ولا يتفلون، وخمرُ الجنة كما وصفها خالِقُها: ﴿بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ *﴾ [الصافات: 46] وماءُ الجنة لا يأسَنُ، ولبنُها لا يتغيَّر طعمُه ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ *﴾ [محمد: 15] ونساءُ أهل الجنّةِ مطهَّرات من الحيض والنفاس وكل قاذورات نساء الدنيا، كما قال تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ [البقرة: 25] .
وقلوبُ أهل الجنة صافيةٌ، وأقوالُهم طيبةٌ، وأعمالُهم صالحةٌ، فلا تسمعُ في الجنّةِ كلمةً نابيةً تكدّرُ الخاطرَ، وتعكّرُ المزاجَ، وتستثيرُ الأعصابَ، فالجنةُ خاليةٌ من باطلِ الأقوالِ والأعمالِ ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ﴾ [الحجر: 47] .
ولا تطرقُ المسامعَ إلا الكلمةُ الصادقةُ الطيبةُ السالمةُ من عيوبِ كلام أهل الدنيا ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا *﴾ [النبأ: 35] ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلاَمًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا *﴾ [مريم: 62] وقال تعالى: ﴿لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً *﴾ [الغاشية: 11] إنَّها دارُ الطُّهْرِ والنَّقاءِ والصَّفاءِ الخاليةِ من الأوشاب والأكدار، إنّها دارُ السّلامِ والتسليم ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا *إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا *﴾ [الواقعة: 25 ـ 26 ] فأهلُ الجنّةِ ـ عند دخول الجنة ـ لا اختلافَ بينهم ولا تباغضَ، قلوبُهم على قلبٍ واحدٍ، يسبّحون الله بكرةً وعشياً، وصَدَقَ اللهُ إذ يقول: ﴿وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ *﴾ [الحجر: 47] .
4 ـ نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ:
قال تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *﴾ [العنكبوت: 64] ولذلك سمَّى الحقُّ تبارك وتعالى ما زُيَّن للناسِ من زهرةِ الدنيا متاعاً، لأنّهُ يَتَمتَّعُ به، ثم يزولُ . وأما نعيمُ الآخرة فهو باقٍ ليس له نفادٌ، قال تعالى: ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النحل: 96] قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ *﴾ [ص: 54] وقال: ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا﴾ [الرعد: 35] ﴿لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ *﴾ [الحجر: 48] .
وقد ضرب الله الأمثالَ لسرعةِ زوال الدنيا وانقضائها قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا *الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً *﴾ [الكهف: 45 46] فقد ضربَ الله مثلاً لسرعة زوال الدنيا وانقضائها بالماءِ النازلِ من السماءِ، الذي يخالِطُ نباتَ الأرض، فيخضرّ ويزهر ويثمر، وما هي إلا فترةٌ وجيزةٌ حتّى تزولَ بهجتُه، فيذوبُ ويصفّر، ثم تعصِفُ به الرياح في كلِّ مكانٍ، وكذلك زينةُ الدنيا من الشباب والمال والبناء والحرث والزرع كلُّها تتلاشى وتنقضي، فالشبابُ يذوبُ ويذهبُ، والصحةُ والعافيةُ تبدّلُ هرماً ومرضاً، والأموالُ والأولادُ قد تذهب، وأما الآخرة فلا رحيلَ ولا فناءَ ولا زوالَ، قال تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ *جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ*﴾ [النحل: 30 ـ 31] .
5 ـ العمل لمتاع الدنيا ونسيان الآخرة:
العمل للدنيا تعقبه الحسرة والندامة ودخول النيران، قال تعالى: ﴿الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *﴾ [آل عمران: 185] وأمّا العمل للآخرة فلا يعقبه إلا الفوز بها.
ومن تكريم الله لهم أنَّ الجنةَ تقرَّبُ لهم، لا يقربون هم إلى الجنة قال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ *﴾ [الشعراء: 90] وقال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ *﴾ [ق: 31] وقال تعالى: ﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ *﴾ [التكوير: 13] أي: قربت .
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي