العشور والفيء والغنائم مصادر مهمة للدخل زمن الخليفة الفاروق رضي الله عنه؛ جوانب من عبقرية عمر في التدبير المالي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة السابعة والأربعون
ـ العشور:
هي الأموال التي يتمُّ تحصيلها على التِّجارة الَّتي تمرُّ عبر حدود الدَّولة الإِسلاميَّة سواءٌ داخلةٌ أو خارجةٌ من أراضي الدَّولة، وهي أشبه ما تكون بالرُّسوم الجمركيَّة في العصر الحاضر، ويقوم بتحصيلها موظفٌ يقال له: (العاشر) أي: الَّذي يأخذ العشور، ولم يكن لهذه الضَّريبة وجودٌ في عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وخليفته الأوَّل أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ لأنَّ تلك الفترة كانت فترة دعوةٍ إِلى الإِسلام، والجهاد في سبيل نشره، وبناء الدَّولة الإِسلاميَّة، فلمَّا اتَّسعت الدَّولة في عهد الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ وامتدَّت حدودها شرقاً، وغرباً، وصار التَّبادل التِّجاري مع الدُّول المجاورة ضرورةً تمليها المصلحة العامَّة؛ رأى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يفرض تلك الضَّريبة على الواردين إِلى دار الإِسلام، كما كان أهل الحرب يأخذونها من تجَّار المسلمين القادمين إِلى بلادهم، معاملةً بالمثل.
وقد أجمع المؤرِّخون: أنَّ أوَّل من وضع العشر في الإِسلام عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ وذلك عندما كتب إِليه أهل منبج وَمَنْ وراء بحر عدن يعرضون عليه أن يدخلوا بتجارتهم أرض العرب، وله منها العشر، فشاور عمر في ذلك أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأجمعوا على ذلك، فهو أوَّل من أخذ منهم العشور، ولكن عمر أراد أن يتأكَّد من مقدار ما تأخذه الدُّول الأخرى من تجَّار المسلمين إِذا اجتازوا حدودهم، فسأل المسلمين كيف يصنع بكم الحبشة إِذا دخلتم أرضهم ؟ قالوا: يأخذون عشر ما معنا، قال: فخذوا منهم مثل ما يأخذون منكم، وسأل أيضاً عثمان بن حنيف: كم يأخذ منكم أهل الحرب إِذا أتيتم دارهم ؟ قال: العشر، قال عمر: فكذلك فخذوا منهم.
ورُوي: أنَّ أبا موسى الأشعري كتب إِلى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ: إِنَّ تجاراً من قبلنا من المسلمين يأتون أرض الحرب، فيأخذون منهم العشر. فكتب إِليه الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ: خذ أنت منهم كما يأخذون من تجَّار المسلمين، وخذ من أهل الذمَّة نصف العشر، ومن المسلمين من كلِّ أربعين درهماً درهماً، وليس فيما دون المئتين شيء، فإِذا كانت مئتين ففيها خمسة دراهم، وما زاد فبحسابه، وقد ساهم هذا التَّشريع الجديد في تنظيم العلاقات التِّجارية بين الدُّول.
وقد حقَّقت التِّجارة الإِسلاميَّة مكاسب كبيرةً في عالم التِّجارة، حيث فتحت أبواب الدَّولة الإِسلاميَّة للتِّجارة، وجُلبت البضائعُ، والسِّلع إِلى الدَّولة الإِسلاميَّة من كلِّ أنحاء العالم. وهذا بطبيعة الحال شجَّع التَّاجر المسلم، والأجنبي على زيادة نشاطهم في التَّصدير، والاستيراد من جميع أنحاء العالم، وبذلك نشطت المراكز التِّجارية داخل بلاد الدَّولة الإِسلاميَّة، بما فيها الجزيرة، وزادت حركة القوافل التِّجاريَّة القادمة، والذَّاهبة من أقاليم الجزيرة إِلى الأقاليم الإِسلاميَّة الأخرى، كما استقبلت موانأى بلاد الإِسلام السُّفن الكبيرة الَّتي تصل إِليها من الهند، والصِّين، وشرقي إفريقية محملة بأغلى، وأنفس البضائع، وظهر ذلك جليّاً في العصر الرَّاشدي، والدَّولة الأمويَّة.
وقد كان في عهد عمر عشَّارون يأخذون زكاة ما يمرُّ بهم من أموال التُّجار، ويعتبرون النِّصاب، والحول. قال أنس بن مالكٍ: بعثني عمر بن الخطَّاب على جباية العراق، وقال: إِذا بلغ مال المسلم مئتي درهم؛ فخذ منها خمسة دراهم، وما زاد على المئتين؛ ففي كلِّ أربعين درهماً درهم.
وذكر الشَّيباني: أنَّ عمر بن الخطَّاب بعث زياد بن جرير، وقيل: زياد بن حدير مصدِّقاً إِلى عين التَّمر، وأمره بأن يأخذ من أموالهم ربع العشر، ومن أهل الذِّمَّة إِذا اختلفوا بها للتِّجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر، وجعل عمر بن الخطَّاب نفقة العاشر ـ أي: المصدِّق ـ من المال الَّذي يأخذه.
إِنَّ مَنْ يفكِّر في ذلك التَّحديد الَّذي رسمه الخليفة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ قد يصل إِلى أنَّه فرض العشر على الحربيِّين لمعاملتهم المسلمين كذلك، فهذا مبدأ المعاملة بالمثل، وأنَّه فرض نصف العشر على أهل الذِّمَّة تمييزاً لهم عن المسلمين، وتطبيقاً لما سبق: إنَّ فرضه على نصارى بني تغلب الَّذين قبلوا أن تُؤخذ منهم الجزية ضعفَ ما يؤخذ من المسلمين من الصَّدقة، وإنَّ ما قرره على المسلمين هو بمثابة زكاةٍ، ومعروفٌ نصاب الزَّكاة لعروض التِّجارة، وهو الَّذي جعله حدَّاً أدنى لأخذها، ومنع من تكرار أخذها من المسلمين، وأهل الذِّمَّة، ما دام رأس المال ثابتاً، والبضاعة الواردة لم تزد قيمتها عنه، ولو تكرَّر مراتٍ دخولها إِلا بعد الحول، وتمشِّياً لمبدأ المعاملة بالمثل، فإِنَّه حينما يرفع أهل الحرب ما يأخذونه من المسلمين من ضريبةٍ، فيحقُّ للمسلمين رفع الضَّريبة على ما يرد منهم إِلى دار الإِسلام بنفس النِّسبة، وكذلك الحال عند إِسقاطهم لها، فعلى المسلمين إِسقاطها عنهم، وهذا ما تسير عليه الدُّول حديثاً، ويسمَّى برفع الحواجز الجمركيَّة، وعندما يكون المسلمون في حاجة إِلى بعض البضائع، والمنتجات الواردة إِليهم، فإِنَّهم يخفِّضون، أو يعفون التُّجار من ضريبتها تشجيعاً لتوريدها، والإِكثار منها، وقد فعل الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ ذلك حين أمر عمَّاله أن يأخذوا نصف العشر من الحربيِّين حين دخولهم الحجاز بالزَّيت، والحبوب، كما أمر بإِعفائهم أحياناً أخرى، فعن الزُّهريِّ عن سالم، عن أبيه، عن عمر ـ رضي الله عنه ـ: أنَّه كان يأخذ من النَّبَط من القطنيَّة العشر، ومن الحنطة والزَّبيب نصف العشر؛ ليكثر الحمل إِلى المدينة.
وقد كان لهذه التَّنظيمات الماليَّة التي وجدت أيَّام الخليفة عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ النَّفع الكبير في سهوله التَّبادل التِّجاريِّ بين المسلمين، وجيرانهم، وورود أصنافٍ متعدِّدةٍ من متطلَّبات النَّاس واحتياجاتهم، فهو لم يقتصر على تنظيم الموادِّ الاتية إِلى بيت المال، بل نظَّم الطرق الَّتي بواسطتها، وبسببها يزداد دخل بيت المال، وتنعم البلاد بالرَّخاء، ورغد العيش، ومن ذلك اهتمامه بالتِّجارة الخارجيَّة، وحسن معاملته لأهلها، وتتبُّعه العمال، والأمراء، والكتابة إِليهم بذلك، وحرصه على استيفاء حقوق الدَّولة من غير تعسُّفٍ في جبايتها.
الفيء، والغنائم:
أمَّا الفيء فهو كلُّ مالٍ وصل المسلمين من المشركين من غير قتالٍ، ولا بإِيجاف خَيْلٍ ولا ركابٍ، ويوزَّع خمس الفيء على أهل الخمسالَّذين بيَّنهم الله سبحانه في كتابه الكريم: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7].
وأمَّا الغنائم: فهي ما غلب عليه المسلمون من مال أهل الحرب حتَّى يأخذوه عنوةً، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} [الأنفال: 41].
ففي خلافة عمر ـ رضي الله عنه ـ زادت الغنائم زيادةً كبيرةً لاتساع المناطق المفتوحة، ولما كانت تتمتَّع به من ازدهارٍ اقتصاديٍّ كبيرٍ، وكان القادة الفرس، والرُّوم يخرجون إِلى الميدان بكامل أبَّهتهم، فيقع سلبهم للمسلم، وأحياناً يبلغ 000 , 15 درهم، و000 , 30 درهم.
وقد فتحت المدن العظيمة كالمدائن، وجلولاء، وهمذان، والرَّيِّ وأصطخر، وغيرها، فحاز المسلمون أموالاً عظيمةً مثل بساط كسرى، وهو 3600 ذراعٍ مربعةٍ، أرضه مفروشةٌ بالذَّهب، وموشَّى بالفصوص، وفيه رسوم ثمارٍ بالجواهر، وورقها بالحرير، وفيه رسومٌ للماء الجاري بالذَّهب، وقد بيعت بعشرين ألف درهم (000 , 20 درهم) وحاز المسلمون الذَّهب، والفضَّة والمجوهرات العظيمة من غنائم جلولاء ونهاوند حيث بلغ خمس جلولاء ستة ملايين درهم، وأعظم الغنائم هي أرض السَّواد؛ الَّتي وقفها عمر ـ رضي الله عنه ـ للدَّولة، وأراضي الصَّوافي؛ الّتي قتل أصحابها، أو فرُّوا عنها، وأملاك كسرى، وأهله، حيث جُعلت غلَّتها للدَّولة، فكانت بإِدارتها لصالح بيت المال، ويقال: إِن غلَّتها ـ فيما بعد ـ بلغت سبعة ملايين درهم، فقد كانت الغنائم عظيمة القدر، وأنَّها أغنت المسلمين أفراداً، ودولةً، وارتفعت بمستوى المعيشة، وظهرت اثارها أكثرَ جلاءً في خلافة عثمان رضي الله عنه.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf