بيت مال المسلمين، وتدوين الدَّواوين زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ إصلاحات ادارية واقتصادية جديدة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الثامنة والأربعون
بيت المال: هو المكان الَّذي ترد إِليه جميع موارد الدَّولة، وهو كذلك: المكان الذي تصرف منه جميع مصروفاتها من أعطيات الخلفاء، والجيش، والقضاة، والعمَّال، والمرافق العامَّة، والخاصَّة للدَّولة، وهكذا، وأمَّا الدَّواوين؛ فهي: السِّجلات، والدَّفاتر الَّتي تُسجَّل فيها أمور الدَّولة. وقد أطلقت كلمة ديوان على المكان الَّذي يجتمع فيه الكُتَّاب، والموظَّفون العاملون بتلك السِّجلات عند الفرس.
وفي بداية الدَّولة الإِسلاميَّة لم يكن هناك بيت مالٍ بالمعنى الَّذي عرف به فيما بعد، فقد كانت سياسة الرَّسول صلى الله عليه وسلم تقوم على أن لا يؤخِّر تقسيم الأموال، أو إِنفاقها، وقد سار أبو بكر على نهج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ونهج الفاروق طريق صاحبيه في أوَّل خلافته حتَّى اتَّسع سلطان الدَّولة شرقاً، وغرباً، فبدأ بالتَّفكير في طريقةٍ يدبِّر فيها ما تجمَّع لدى الخليفة من أموال الفتوحات، وغنائمها، وإِيرادات الجزية، والخراج، والصَّدقات، فكثرت الجيوش، واحتاجت إِلى ضبط احتياجاتها، وأسماء رجالها خوفاً من ترك أحدهم دون عطاءٍ، أو تكرار العطاء للاخرين، وتوالت حملات الفتح، وانتصاراتها، فكثرت الأموال بشكلٍ لم يكن معروفاً لدى المسلمين من قبل، فرأى أمير المؤمنين عمر ألا طاقة للخليفة، وأمرائه بضبطها، وأنَّه ليس من الحكمة الاقتصاديَّة أن يترك زمام الأمور الماليَّة بيد العمال والولاة دون أن يضبطها عدَّاً، أو يحصيها حساباً، فكان نتيجة ذلك التَّفكير مليّاً في وضع قواعد ثابتةٍ لهذه الأموال، ومن هنا نشأ الدِّيوان، وكان عمر ـ رضي الله عنه ـ هو أوَّل من وضع الدِّيوان في الدَّولة الإِسلاميَّة.
وقصَّة ذلك كما تناقلها المؤرِّخون: أنَّ أبا هريرة، قال: قدمت من البحرين بخمسمئة ألف درهم، فأتيت عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ فسألني عن النَّاس، فأخبرته، ثمَّ قال لي: ماذا جئت به ؟ قال: قلت: جئت بخمسمئة ألفٍ، قال: ويحك ! هل تدري ما تقول ؟ قلت: نعم مئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف، ومئة ألف. قال: إِنَّك ناعس، ارجع إِلى أهلك، فنم، فإِذا أصبحت فائتني ! فلمَّا أصبحتُ أتيته، فقال: ماذا جئت به ؟ قلت: جئت بخمسمئة ألف، قال: ويحك ! هل تدري ما تقول ؟! قلت: نعم، مئة ألف، حتَّى عدَّها خمس مرات، يعدُّها بأصابعه الخمس، قال: أطيب ؟ قلت: لا أعلم إِلا ذلك. قال: فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: أيُّها الناس ! إِنَّه قد جاءنا مالٌ كثير، فإِن شئتم أن نكيلكم كيلاً، وإِن شئتم أن نعدَّكم عدَّاً، فقام إِليه رجلٌ، فقال: يا أمير المؤمنين ! إِنِّي قد رأيت هؤلاء الأعاجم يدوِّنون ديواناً لهم، فاشتهى عمر ذلك.
وقد استشار عمر المسلمين في تدوين الدَّواوين، فأشار بعضهم بما يراه إِلا أن الوليد بن هشام بن المغيرة قال: جئت الشَّام، فرأيت ملوكها قد دوَّنوا ديواناً، وجنَّدوا جنداً. فدوَّن ديواناً، وجنَّد جنداً.
وفي بعض الرِّوايات أنَّ الذي قال ذلك هو خالد بن الوليد، وذكر بعض المؤرِّخين: أنَّه كان بالمدينة بعض مرازبة الفرس، فلمَّا رأى حيرة عمر؛ قال له: يا أمير المؤمنين ! إِنَّ للأكاسرة شيئاً يسمُّونه ديواناً، جميع دخلهم، وخرجهم مضبوطةٌ فيه، لا يشذُّ منه شيءٌ، وأهل العطاء مرتَّبون فيه مراتب لا يتطرَّق عليها خللٌ، فتنبَّه عمر، وقال: صفه لي. فوصفه المرزبان، فدوَّن الدَّواوين، وفرض العطاء، وقد حبَّذ عثمان التَّدوين، فأشار برأيه: أرى مالاً كثيراً يسع النَّاس، وإِن لم يحصوا حتَّى يُعرف من أخذ ممَّن لم يأخذ، خشية أن ينتشر الأمر.
هذه بعض الرِّوايات الَّتي حدثت بناء على استشارة عمر ـ رضي الله عنه ـ في مرَّاتٍ متعدِّدةٍ لمن يحضرون عنده، وهناك اختلافٌ بين المؤرِّخين في السَّنة الَّتي تم فيها التَّدوين، فمن قائل: إِنَّ ذلك في السنة الخامسة عشرة للهجرة كالطَّبري، وعنه أخذ ابن الأثير، وغيرهم. وقال اخرون: إِنَّ ذلك كان في شهر محرَّم من سنة عشرين هجريَّة كالبلاذري، والواقدي، والماوردي، وابن خلدون وغيرهم. والأرجح أن يكون تمَّ في سنة عشرين هجريَّة؛ لأنَّه في سنة خمس عشرة كانت القادسيَّة، ولم يستكمل فتح العراق، والشَّام، ومصر إِلا بعدها.
وقد سار عمر في تقسيم الأموال على خلاف ما سار عليه أبو بكر حيث كان الصِّدِّيق يقسم الأموال بين النَّاس بالسَّويَّة، في حين قسم عمر أعطياتهم على حسب السَّابقة في الإِسلام، والفضل في الجهاد، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان رأي الفاروق هذا من زمن الصِّدِّيق، وقال لأبي بكرٍ لما راه سوَّى بين النَّاس، قال له: أتسوِّي بين مَنْ هاجر الهجرتين، وصلَّى إِلى القبلتين، وبين مَنْ أسلم عام الفتح خوف السَّيف ؟ فقال له أبو بكر: إِنَّما عملوا لله، وإِنَّما أجورهم على الله، وإِنَّما الدُّنيا دار بلاغٍ للرَّاكب. فقال له عمر: لا أجعل مَنْ قاتل رسول الله كمن قاتل معه، ولذلك قسم الفاروق النَّاس في العطاء إلى أنواعٍ، هي:
ـ ذوو السَّوابق الَّذين بسابقتهم حصل المال.
ـ مَنْ يغني المسلمين في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور، والعلماء الَّذين يجلبون لهم منافع الدِّين، والدُّنيا.
ـ من يُبلي بلاء حسناً في دفع الضَّرر عنهم كالمجاهدين في سبيل الله من الجنود، والعيون، والنَّاصحين نحوهم.
ـ ذوو الحاجات.
هذه سياسته في التَّقسيم تضمَّنها قوله: ليس أحدٌ أحقَّ بهذا المال من أحدٍ إِنَّما هو الرَّجل وسابقته، والرَّجل وغناؤه، والرَّجل وحاجته.
وقد دعا الفاروق عقيل بن أبي طالبٍ، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شبَّان قريش، وقال: اكتبوا للنَّاس على منازلهم، فبدؤوا ببني هاشمٍ، فكتبوهم، ثمَّ أتبعوهم أبا بكرٍ، وقومه، ثمَّ عمر وقومه، وكتبوا القبائل، ووضعوها على الخلافة، ثمَّ رفعه إِلى عمر، فلمَّا نظر فيه؛ قال: لا، ما وددت أنَّه كان هكذا، ولكن ابدؤوا بقرابة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الأقرب، فالأقرب حتَّى تضعوا عمر حيث وضعه الله، فجاءت بنو عديٍّ إِلى الخليفة عمر ـ رضي الله عنه ـ وقالوا: إِنَّك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخليفة أبي بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وأبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الَّذين كتبوا ! فقال: بخٍ بخٍ يا بني عديٍّ ! أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم، لا، ولكنَّكم حتَّى تأتيكم الدَّعوة، وأن ينطبق عليكم الدفتر ـ يعني: ولو تكتبون اخر النَّاس ـ إِنَّ لي صاحبين سلكا طريقاً، فإِنْ خالفتهما؛ خولف بي، ولكنَّه والله ما أدركنا الفضل في الدُّنيا، ولا نرجو الثَّواب عند الله تعالى على عملنا إِلا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فهو شرفنا، وقومه أشراف العرب، ثمَّ الأقرب، فالأقرب. ووالله لئن جاءت الأعاجم بعملٍ، وجئنا بغير عملٍ؛ لهم أولى بمحمَّد صلى الله عليه وسلم منَّا يوم القيامة ! فإِنَّ مَنْ قصَّر به عمله لم يسرع به نسبه.
وبدأ عمر ـ رضي الله عنه ـ تسجيله بديوان سجل فيه أصحاب الأعطيات، ومقدار أعطياتهم، وسمِّي ديوان الجند على أساس أنَّ جميع العرب المسلمين جنودٌ للجهاد في سبيل الله، فبدأ سجلَّه للجيش ببني هاشم الأقرب، فالأقرب من رسول الله، ثمَّ بمن بعدهم طبقةً بعد طبقةٍ، وجعل لكلِّ واحدٍ من المسلمين مبلغاً محدَّداً وفرض لزوجات النَّبي صلى الله عليه وسلم، وسراريه، وسائر المسلمين من الرِّجال، والنِّساء، والأطفال منذ الولادة، والعبيد بمقادير مختلفة، وبإخراج هذا الدِّيوان أظهر عمر اهتمامه بأمر الجهاد في سبيل الله، واعتنى بأمر المجاهدين حفظاً لحقوقهم، وعمل سجل الجند باللُّغة العربية بالمدينة المنوَّرة على يد نفرٍ من نوابغ قريش، وعلماء الأنساب منهم، ثمَّ أمر بعمل الدَّواوين في أقاليم الدَّولة الإِسلاميَّة، فدوِّنت بلغة البلاد المفتوحة، ولم يتمَّ تعريبها إِلا في خلافة عبد الملك بن مروان، وابنه الوليد، وبعد تدوين الدَّواوين صار عمر يجمع المال مدَّة سنة، ثمَّ يقسمه بين النَّاس؛ لأنه يرى أنَّ جمعه أعظم للبركة، فكان جمع المال يستلزم أن يكون له أمناء، فكان زيد بن أرقم على بيت المال في عهد عمر.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf