مسائل قضائية زمن خلافة الفاروق رضي الله عنه؛ من أهمِّ رسائل عمر إِلى القضاة
بقلم: د. علي محمد الصلابي
الحلقة الخمسون
عندما انتشر الإِسلام، واتَّسعت رقعة الدَّولة في عهد عمر، وارتبط المسلمون بغيرهم من الأمم؛ دعت حالة المدنيَّة الجديدة إِلى تطوير مؤسَّسة القضاء، فقد كثرت مشاغل الخليفة، وتشعَّبت أعمال الولاة في الأمصار، وزاد النِّزاع والتَّشاجر، فرأى عمر ـ رضي الله عنه ـ أن يفصل الولايات بعضها عن بعضٍ، وأن يجعل سلطة القضاء مستقلةً، حتَّى يتفرَّغ الوالي لإِدارة شؤون ولايته، فأصبح للمؤسسة القضائيَّة قضاةٌ مستقلُّون عن الولايات الأخرى، كولاية الحكم، والإِدارة، فكان عمر بهذا أوَّل من جعل للقضاء ولايةً خاصَّةً، فعيَّن القضاة في الأمصار الإِسلاميَّة: في الكوفة، والبصرة، والشَّام، ومصر، وجعل القضاء سلطةً تابعةً له مباشرةً، سواء كان التَّعيين من الخليفة، أو كان بتفويض أحد ولاته بذلك نيابةً عنه، وهذا يدلُّ على أنَّ القيادة الإِسلاميَّة متمثلةً في شخصية الفاروق، لم تكن عاجزةً عن وضع قواعد أصليَّةً، في تنظيم الدَّولة، وترتيب شؤونها، وتحديد سلطاتها.
وإِذا كانت أوربا قد اكتشفت هذه القاعدة بصورة نظريَّةٍ في القرن الثَّامن عشر، واعتبرتها فتحاً جديداً في تنظيم الدَّولة، وفي رعاية حقوق المواطنين، يوم تحدث عنها (مونتسكيو) في كتابه روح الشَّرائع، ولكن لم يكتب لهذه القاعدة التَّطبيق العملي إِلا في أوائل القرن التَّاسع عشر؛ أي: بعد الثَّورة الفرنسيَّة، فإِنَّ الإِسلام قد أقرَّها قبل أربعة عشر قرناً، واعتبرها أصلاً من أصول نظامه، وقد كان هذا الأصل من زمن الرَّسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل معاذاً إِلى اليمن، وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمَ تقضي يا معاذ ؟ فبيَّن معاذ: أنَّه يقضي بكتاب الله، فإِن لم يجد؛ فبسنَّة رسول الله، فإِن لم يجد؛ يجتهد رأيه، ولا يألو. فأقرَّه الرَّسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأمَّا الفاروق؛ فقد قام بتطوير المؤسَّسة القضائيَّة وما يتعلَّق بها من أمورٍ، وأصبح في عهده مبدأ فصل القضاء عن غيره من السُّلطات واضحاً في حياة النَّاس، ولم يكن استقلال ولاية القضاء مانعاً لعمر ـ رضي الله عنه ـ من أن يفصل في بعض القضايا، وربما ترك بعض ولاته يمارسون القضاء مع السُّلطة التَّنفيذيَّة، ويراسلهم في الشؤون القضائيَّة، فقد راسل المغيرة بن شعبة في أمر القضاء، وكان واليه على البصرة، ثمَّ الكوفة، وراسل معاوية واليه على الشَّام في النِّزاع القضائي، وراسل أبا موسى الأشعري في شأن بعض القضايا، وكان القاضي يعيَّن للولاية كلِّها، سواءٌ أكان تعيينه من قبل الخليفة، أم كان من قبل الوالي بأمر الخليفة، وكان مقرُّ القاضي حاضرة الولاية، وإليه ترجع السُّلطة القضائيَّة في ولايته.
وقد تمَّ فصل السُّلطة القضائيَّة في الولايات الكبيرة على الغالب، مثل: الكوفة، ومصر، وقد جمع لبعض ولاته بين الولاية، والقضاء؛ إِذا كان القضاء لا يشغلهم عن شؤون الولاية، وراسلهم بهذا الوصف في شؤون القضاء، وأنَّه كان يقوم بالقضاء في بعض الأحيان مع وجود قضاةٍ له بالمدينة، ومن القضاة الَّذين قصرهم الفاروق في خلافته على القضاء وحده:
ـ عبد الله بن مسعودٍ: ولاه عمر قضاء الكوفة، فقد روى قتادة عن مجلز: أنَّ عمر بن الخطَّاب بعث عمَّار بن ياسر على صلاة أهل الكوفة، وبعث عبد الله بن مسعود على بيت المال، والقضاء.
ـ سلمان بن ربيعة: ولاه عمر القضاء على البصرة، ثمَّ القادسيَّة.
ـ قيس بن أبي العاص القرشي تولى قضاء مصر.
وأمَّا الذين جمعوا بين الولاية، والقضاء، فمنهم:
ـ نافع الخزاعي والي مكَّة، ذكر ابن عبد البر: أنَّ عمر بن الخطَّاب استعمله على مكَّة وفيهم سادة قريش، ثمَّ عزله، وولَّى خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي.
ـ يعلى بن أميَّة والي صنعاء.
ـ سفيان بن عبد الله الثَّقفي والي الطائف.
ـ المغيرة بن شعبة والي الكوفة.
ـ معاوية بن أبي سفيان والي الشام.
ـ عثمان بن أبي العاص الثَّقفي والي البحرين، وعمان.
ـ أبو موسى الأشعري والي البصرة.
ـ عمير بن سعد والي حمص.
ومن هؤلاء من أبقاه الفاروق على القضاء مع الولاية، كما فعل مع معاوية، ومنهم من فصل القضاء عن سلطته، وقصره على الولاية، كما فعل مع المغيرة، وأبي موسى الأشعري، ومن قضاة الفاروق بالمدينة:
ـ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
ـ زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ فقد روي عن نافعٍ: أنَّ عمر استعمل زيد بن ثابت على القضاء، وفرض له رزقاً.
ـ السَّائب بن أبي يزيد رضي الله عنه.
من أهمِّ رسائل عمر إِلى القضاة:
إِنَّ الفاروق ـ رضي الله عنه ـ وضع دستوراً قويماً في نظام القضاء، والتَّقاضي، وقد اهتمَّ كثيرٌ من أعلام الفقه الإِسلامي بشرح هذا الدُّستور، والتعليق عليه، ونجد الدُّستور العمريَّ في القضاء في رسالته لأبي موسى الأشعريِّ، وهذا نصُّ الرِّسالة:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، من عبد الله عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين إِلى عبد الله بن قيس، سلامٌ عليك، أمَّا بعد: فإِنَّ القضاء فريضةٌ محكمةٌ، وسنَّةٌ متَّبعةٌ، فافهم إِذا أُدلي إِليك، فإِنَّه لا ينفع تكلُّمٌ بحقٍّ لا نفاذ له، اسِ بين النَّاس في وجهك، وعدلك، ومجلسك حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك، ولا ييأس ضعيفٌ في عدلك. البيِّنة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر، والصُّلح جائزٌ بين المسلمين إِلا صلحاً أحلَّ حراماً، أو حرَّم حلالاً، لا يمنعك قضاءٌ قضيته بالأمس، فراجعت فيه عقلك، وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إِلى الحقِّ، فإِنَّ الحق قديمٌ، ومراجعة الحقِّ خيرٌ من التَّمادي في الباطل. الفهمَ، الفهمَ فيما تلجلج في صدرك ممَّا ليس في كتابٍ، ولا سنَّةٍ، ثمَّ اعرف الأشباه، والأمثال، فقس الأمور عند ذلك، واعمد إِلى أقربها إِلى الله، وأشبهها بالحقِّ، واجعل لمن ادَّعى حقّاً غائباً، أو بيِّنةً أمداً ينتهي إِليه، فإِن أحضر بيِّنته؛ أخذت له بحقِّه، وإِلا استحللت، عليه القضيَّة، فإِنَّه أنفى للشَّكِّ، وأجلى للعمى. المسلمون عدول، بعضهم على بعضٍ إِلا مجلوداً في حدٍّ، أو مجرَّباً عليه شهادة زور، أو ظنِّيناً في ولاء، أو نسبٍ، فإِنَّ الله تولَّى منكم السَّرائر، ودرأ بالبيِّنات، والأيمان.
وإِيَّاكَ والغَلَقَ، والضَّجر، والتأذِّي للخصوم، والتَّنكُّر عند الخصومات، فإِنَّ القضاء في مواطن الحقِّ يعظم الله به الأجر، ويحسن به الذُّخر، فمن صحَّت نيَّته، وأقبل على نفسه؛ كفاه الله ما بينه وبين النَّاس، ومن تخلَّق للنَّاس بما يعلم الله: أنَّه ليس من نفسه؛ شانه الله، فما ظنُّك بثواب الله ـ عزَّ، وجلَّ ـ في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسَّلام.
وقد جمعت هذه الرِّسالة العجيبة اداب القاضي، وأصول المحاكمة، وقد شغلت العلماء بشرحها، والتَّعليق عليها هذه القرون الطَّويلة، ولا تزال موضع دهشةٍ، وإِكبارٍ لكلِّ من يطَّلع عليها، ولو لم يكن لعمر من الاثار غيرها؛ لَعُدَّ بها من كبار المفكرين، والمشرِّعين، ولو كتبها رئيس دولة في هذه الأيَّام؛ التي انتشرت فيها قوانين أصول المحاكمات، وصار البحث فيها ممَّا يقرؤه الأولاد في المدارس؛ لكانت كبيرةً منه، فكيف وقد كتبها عمر منذ نحو أربعة عشر قرناً، ولم ينقلها من كتابٍ، ولا استمدَّها من أحدٍ، بل جاء بها في ذهنه ثمرةً واحدةً من الاف الثَّمرات للغرسة المباركة الَّتي غرسها في قلبه محمَّد صلى الله عليه وسلم، حين دخل عليه في دار الأرقم، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنَّ محمداً رسول الله.
ومن الرَّسائل المهمَّة في هذا الباب رسالة الفاروق إِلى أبي عبيدة ـ رضي الله عنه ـ: أمَّا بعد فإِنِّي كتبت إِليك بكتابٍ لم الك ونفسي خيراً، الزم خمس خصالٍ يسلم لك دينُك، وتأخذ بأفضل حظَّيك: إِذا حضر الخصمان؛ فعليك بالبيِّنات العدول، والأيمان القاطعة، ثمَّ أدن الضَّعيف حتَّى تبسط لسانه، ويجترأى قلبُه، وتعهَّد الغريب، فإِنَّه إِذا طال حبسه؛ ترك حاجته، وانصرف إِلى أهله، وإِنَّ الَّذي أبطل حقَّه مَنْ لم يرفع به رأساً. واحرص على الصُّلح ما لم يستبن لك القضاء، والسَّلام.
وكتب رضي الله عنه إِلى معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنهما ـ في القضاء: أمَّا بعد: فإِنِّي كتبت إِليك بكتابٍ في القضاء لم الك ونفسي فيه خيراً: الزمْ خمس خصالٍ يسلمْ لك دينُك، وتأخذْ فيه بأفضل حظِّك: إِذا تقدم إِليك خصمان؛ فعليك بالبيِّنة العادلة، أو اليمين القاطعة، وأدن الضَّعيف حتَّى يشتدَّ قلبه، وينبسط لسانه، وتعهَّد الغريب، فإِنَّك إِن لم تتعهده؛ ترك حقَّه، ورجع إِلى أهله، وإِنَّما ضيَّع حقَّه مَنْ لم يرفق به، واس بينهم في لحظك، وطرفك، وعليك بالصُّلح بين النَّاس ما لم يستبن لك فصل القضاء.
وكتب إِلى القاضي شريحٍ عن الاجتهاد: إِذا أتاك أمرٌ؛ فاقض فيه بما في كتاب الله، فإِن أتاك ما ليس في كتاب الله، فاقض بما سنَّ فيه رسول الله، فإِن أتاك ما ليس في كتاب الله، ولم يسنُّه رسول الله، ولم يتكلَّم فيه أحدٌ فأيَّ الأمرين شئت؛ فخذ به. وفي روايةٍ أخرى: فإِن شئت أن تجتهد رأيك فتقدَّم، وإِن شئت أن تتأخر فتأخَّر، وما أرى التَّأخُّر إِلا خيراً لك.
ويمكن للباحث من خلال رسائل الفاروق وحياته في زمن خلافته أن يستخرج ما يتعلَّق بالمؤسَّسة القضائية في الأرزاق، والعزل، وأنواع القضاة، وصفاتهم، وما يجب عليهم، ومصادر أحكامهم، وخضوع الخليفة نفسه للقضاء، وغير ذلك من المسائل المتعلِّقة بهذه المؤسَّسة.
للاطلاع على النسخة الأصلية للكتاب راجع الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي، وهذا الرابط:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book172(1).pdf